هل الإنسان ظالم بالطبع؟ اي ان الظلم طبع متأصل فيه لذلك يحتاج للمجاهدة وترويض النفس أم الظلم حصيلة التربية والاعتقاد والبيئة التي يعيشها الإنسان؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بحثُ الخيرِ والشّرِّ وعلاقتهما بالطّبيعةِ الإنسانيّةِ منَ البحوثِ التي تباينَت حولَها وجهاتُ النّظرِ سواءٌ كانَ بينَ الفلاسفةِ والمُفكّرينَ فيما بينَهُم، أو بينَهم وبينَ الأديانِ عامّةً والإسلامِ خاصّةً، بَل قَد تتباينُ وجهاتُ النّظرِ داخلَ أتباعِ الأديانِ أنفسِهم، والإختلافُ في هذا الموضوعِ لا يدورُ مدارَ الخلافِ الفكريّ المُجرّدِ وإنّما ينعكسُ ذلكَ على نظريّاتٍ أخرى لها علاقةٌ بالجانبِ السّياسيّ والإجتماعيّ، فمثلاً نظريّةُ الفيلسوفِ الإنجليزيّ هوبز في السّياسةِ قائمةٌ على أنَّ طبيعةَ الإنسانِ شرّيرةٌ بذاتِها أو الإنسانُ بطبعِه ذئبٌ يجبُ السّيطرةُ عليه بقوّةِ الدّولةِ، ولذلكَ فإنَّ الإستنتاجَ العمليَّ لنظريّةِ هوبز السّياسيّةِ قائمٌ على أنَّ الدّولةَ أو المُجتمعَ لا يمكنُ أن يكونا آمنينِ إلّا تحتَ التّصرّفِ المُطلقِ للحاكمِ، ومِن غيرِ ذلكَ ستصبحُ الفوضى هيَ النّتاجَ الطّبيعيَّ لكونِ الإنسانِ متوحّشاً بطبعِه، ومعَ أنَّ النظريّةَ السّياسيّةَ لهوبز قائمةٌ على العقدِ الإجتماعيّ إلّا أنَّ الحاكمَ ليسَ طرفاً في هذا العقدِ وإنّما يمتلكُ السّلطةَ المُطلقةَ في عملِ ما يشاء، وقد خالفَ جان جاك روسو هوبز حيثُ كانَ يعتقدُ بأنَّ الإنسانَ في الحالةِ الطّبيعيّةِ ليسَ بشرّيرٍ بل طيّبٌ وخيّرٌ بالفطرةِ، فأسّسَ نظريّتَه السّياسيّةَ بناءً على ذلكَ ولم يقبَل النّظامَ الشموليَّ وإنّما جعلَ الحاكمَ جُزءاً منَ العقدِ الإجتماعي بحيثُ يتنازلُ عامّةُ النّاسِ عَن بعضِ حُرّيّاتِهم على أن يُديرَ الحاكمُ الحقوقَ المُشتركةَ بينَهم بالعدالةِ، وهذا المثالُ قد يُوضّحُ بشكلٍ جليٍّ إنعكاسَ التباينِ حولَ طبيعةِ الإنسانِ على مناحٍ مُتعدّدةٍ في الفكرِ الإنسانيّ، ولذا كانَ حسمُ الخلافِ فيها منَ الضّروراتِ التي تفرضُها طبيعةُ التفكيرِ عندَ الإنسان.
وبشكلٍ مُختصرٍ يمكنُ أن نقسمَ وجهاتِ النّظرِ حولَ طبيعةِ الإنسانِ إلى عدّةِ نظريّاتٍ:
1- نظريّةٌ تقولُ أنَّ الإنسانَ شرّيرٌ بطبعِه والخيرُ طارئٌ عليه، وبذلكَ يصبحُ الخيرُ مُكتسباً بينَما الشّرُّ أصيلٌ. وقد يميلُ الإتّجاهُ المُتشائمُ في المسيحيّةِ إلى هذا الرّأي.
2- نظريّةٌ ترى أنَّ الأصلَ في الإنسانِ الخيرُ والشّرُّ تولّدَ منَ الظّروفِ الصّعبةِ للحياةِ. وقد يميلُ بعضُ المُسلمينَ لهذهِ النّظريّةِ، وهناكَ ورقةٌ بحثيّةٌ مُقدّمةٌ إلى المؤتمرِ العالميّ الأوّلِ للتعليمِ الإسلاميّ في مكّةَ المُكرّمةِ يوم 2 أبريل 1977م، قدّمَها الشيخُ جعفر شيخ إدريس منَ السّودان، جاءَ فيها: (نخلصُ مِن كلِّ هذا إلى أنَّ الرّأي الصّوابَ هوَ الرّأيُ الثّالثُ القائلُ بأنَّ الإنسانَ ذو فطرةٍ خيّرةٍ وأنَّ الشرَّ أمرٌ طارئٌ عليهِ ومجافٍ لفطرتِه. هذا هوَ الرّأيُ الموافقُ للواقعِ الذي نعرفُه، والمؤدّي إلى نتائجَ مقبولةٍ، وهوَ الأمرُ الذي يقولُ بهِ الدّينُ الحقُّ).
3- والنظريّةُ الثّالثةُ هيَ أنَّ الإنسانَ يأتي للوجودِ كالصّفحةِ البيضاءِ خالياً مِن عناصرِ الخيرِ والشّرِّ، وفي هذه الحالة يصبح الخير والشر كلاهما من الأمور المكتسبة، إلا أنّ هذه النظرية لا تكون واضحة مالم تكن في طبيعة الإنسان ما يحركه نحو الخير أو الشر، وبالتالي نعود من جديد إلى كونه إمّا شريراً بطبعه وإمّا خيراً.
طبيعة الإنسان في بالمنظور القرآني:
لقد تطرقنا في إجابةٍ سابقة إلى أنّ حقيقة الإنسان ضمن فلسفة الإيمان بالله ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أي أنّ الإنسان أوجدهُ الله من عدم وخلقهُ على الهيئة التي هو عليها، قبضة من طين، ونفخة من روح، فأنتما إلى الأرض من جهةِ الطينة، وأنتما إلى السماء من جهة تلك النفخة.
والمستفاد من هذا الوصف؛ هو أنّ الإنسان يمكنهُ العيش على الأرض وهو يتطلعُ إلى الله، وبهذا لا يحكمُ الإنسان ميولَ أو اتجاهَ واحد، وإنما ينجذبُ إلى الأرض كما يندفعُ الى الأعلى ليتسامى على المادة.
وعليه فالإنسانُ في المنظورِ القُرآنيّ كائنٌ مُركّبٌ مِن عقلٍ ومن شهوة، والعقلُ في الإنسانِ يُمثّلُ مركزَ القوّةِ والتمييزِ، فمِن خلالِه يُعرَفُ الحقّ ويتسامى على الأنا وحبِّ النّفسِ، بينما تُمثّلُ الشّهوةُ مركزَ الضّعفِ عندَ الإنسانِ، فبها يحبُّ نفسَه ويندفعُ إلى هواهُ فتكونُ بذلكَ مصدراً للأنانيّةِ والحرص والطّمعِ والحسدِ وكلِّ الدّوافعِ الشّرّيرةِ.
ويتّضحُ منَ الآياتِ القُرآنيّةِ أنَّ العقلَ غيرُ النّفسِ؛ لأنَّ النّفسَ في آياتِ القرآنِ قد تميلُ إلى الهوى وتأمرُ بالسّوءِ وهذا خلافُ ما وصفَ بهِ القرآنُ العقلَ والتّعقّلَ. قالَ تعالى (وَمَا أُبَرِّئُ نَفسِي ۚ إِنَّ النَّفسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). وقالَ تعالى: (وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَىٰ). وقال الرسول الاكرم (ص): "إن العقل عقال من الجهل. والنفس مثل أخبث الدواب".
وعليهِ فليسَ الإنسانُ عقلاً مُجرّداً لا شهوةَ فيه، كما أنّهُ ليسَ شهوةً لا عقلَ فيه، وإنّما كائنٌ مُركّبٌ منَ النّورِ والظّلمةِ، والحِكمةُ مِن ذلكَ هوَ أن يختارَ الإنسانُ بإرادتِه أن يكونَ إنساناً ربّانيّاً ملكوتيّاً، ولا يكونُ إنساناً حيوانيّاً أرضيّاً، قالَ تعالى: (وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث..).
فالخلودُ إلى الأرضِ يكونُ باتّباعِ الهوى، وهوَ أساسُ كلِّ الشّرورِ الإنسانيّةِ ولِذا شبّههُ اللهُ بالكلبِ، ووجهُ الشّبهِ هوَ أنَّ الكلبَ لا يكفُّ عنِ اللهثِ، والإنسانُ الذي يتّبعُ هواهُ يكونُ في حالةٍ منَ اللّهثِ الدّائمِ خلف أنانيّاته ومصالحه الخاصّة.
وعليهِ فإنَّ معادلةَ الإنسانِ في هذه الحياةِ قائمةٌ على أنَّ اللهَ ألهمَه الفجورَ والتّقوى، ثمَّ كلّفَه أن يختارَ بمحضِ إرادتِه إمّا أن يكونَ إنساناً، وإمّا أن يكونَ كالأنعامِ، (إِن هُم إِلَّا كَالأَنعَامِ ۖ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا). وقالَ تعالى في سورةِ الشّمسِ: (وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا (8) قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا) ومنَ الواضحِ أنَّ المقصودَ منَ النّفسِ هوَ تمامُ الإنسانِ المُركّبِ منَ الرّوحِ والبدنِ وليسَ خصوصَ الرّوحَ. روى الكلينيّ عَن أبي عبدِ الله (ع) قالَ: "فألهمَها فجورَها وتقواها قالَ: بيّنَ لها ما تأتي وما تترك". وفي تفسيرِ القُمّيّ عَن أبي بصيرٍ عَن أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام قالَ: سألتُه عن قولِ اللهِ عزَّ وجل .. فألهمَها فجورَها وتقواها. أي عرّفها وألهمّها، ثمَّ خيّرَها فاختارَت".
والخلاصةُ أنَّ طبيعةَ الإنسانِ مُركّبة منَ الخيرِ والشّرِّ، ومصدرُ الخيرِ في الإنسانِ هو العقلُ، وآياتُ القرآنِ وتذكرةُ الأنبياءِ تُشكّلُ مُحفّزاتٍ لهذا العقلِ، بينَما مصدرُ الشّرِّ هيَ الشّهواتُ والأهواءُ، والشّيطانُ هو الذي يُحفّزُ الإنسانَ ويغريهِ لارتكابِ الرّذائلِ، وبينَهما مُنحَ الإنسانُ الإرادةَ التي يختارُ بها إمّا الفجورَ وإمّا التّقوى.
اترك تعليق