هل هناك أخطاء في الخلقة أو الطبيعة؟

السؤال: الانحراف عن الطبيعة: تتّبع الظواهر الطبيعيّة منحني غوص، وهو منحني على شكل الجرس حيث يتوزّع انتشار ظاهرة طبيعيّة أو متغيّر طبيعيّ وفق هذا المنحنى! لنأخذ مثلا ذكاء البشر، حيث أنّ حوالي 70% من البشر ذكاؤهم عادي، والعباقرة استثناء، وكذلك التكوين الجيّد للجسم، فالأغلبيّة من البشر يولدون بخلقة كاملة، لكن هناك نسبة منهم تولد مشوّهة أو مريضة! والميول الجنسية للبشر أكثر من 80% منها ميول طبيعيّة والبقيّة عبارة عن ميول شاذّة مختلفة... فهل يمكن أن نسمّي الانحرافات في منحني غوص أمور شاذّة أو أخطاء الطبيعة أو أخطاء الله ؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

التوزيع الطبيعيّ أو منحنى (غاوس) نسبة للفيزيائيّ غاوس (يوهان كارل فريدريش غاوس) له علاقة بالإحصاء وحساب الاحتمالات، ويستخدم لوصف المتغيّرات العشوائيّة، أو لإيجاد احتمالات المتغير العشوائيّ الطبيعيّ باستعمال القاعدة التجريبيّة، فالبيّانات العدديّة التي تجمع عن ظاهرة معيّنة يمكن رصدها في صورة أعداد وترتيبها تصاعديّاً وتنازليّاً، مثل عدد الأشخاص أو عدد الأشجار أو غير ذلك، إلّا أنّ هناك بيانات غير قابلة للعدِّ والترتيب التصاعديّ أو التنازليّ، مثل الطول، والسرعة، والوزن، والكتلة، وغير ذلك من البيانات التي تكون عشوائيّة في الطبيعة، وهذه البيانات يمكن دراستها بيانيّاً، والرسم البيانيّ لها يكون في شكل جرس (وهو خطٌّ بيانيٌّ له وسط في القمّة وله منحني عن اليمين وعن اليسار)، فمثلاً إذا أردنا دراسة نسبة إنجاب الأطفال في مجتمع ما، وكان متوسّط الإنجاب 3 أطفال للأسرة، فإنّ الثلاث تمثّل المتوسّط وهو قمّة التوزيع الجرسيّ، ومن ثمّ إلى أقصى اليمين تجد عدد الأسر التي أنجبت 12 طفلا ، وإلى أقصى اليسار الأسر التي أنجبت طفلا واحدا أو لم تـنجب.

وممّا لا يخفى أنّ هناك معادلات رياضيّة معقّدة في هذا الشأن يعرفها أهل الاختصاص ونحن لسنا منهم، إلّا أنّ الذي يهمّنا في ضمن هذا السؤال هو التأكيد على أنّ هذا القانون هو قانون يستخدم لوصف بيانات الطبيعة، أيْ أنّه يصف بشكل رياضيٍّ وإحصائيٍّ ما في الطبيعة من عيّنات وبيانات، وبالتالي لا يمكن اعتباره مسؤولاً عمّا هو موجود في الطبيعة بالفعل، فمثلاً القانون الذي نستخلص منه نسب ومعدّلات النجاح في مدرسة ما، فإنّ هذا القانون لا يمكن أن نحمّله مسؤوليّة نجاح الطلاب أو إخفاقهم؛ وذلك لأنّه مجرّد قانون يصف الواقع كما هو ولا يتدخّل فيه.

وكذلك الحال نفسه في المثال الذي ذكره السائل، فإذا كان نسبة 80% من البشر معتدلاً جنسيّاً، وكان في أقصى اليمين نسبة 10% يعانون من شذوذ جنسيّ، وفي أقصى اليسار هناك 10% ليس لهم أيّ ميول جنسيّة، فإنّ كلّ هذه النسب ليست إلّا نتيجة لإحصاء رياضيّ لما هو موجود بالفعل، وبالتالي لا يمكن تبرير الشذوذ الجنسيّ مثلاً بناءً على هذه النسب.

وفي المحصّلة هناك فرق بين وصف الواقع وبين العوامل المؤثّرة في ذلك الواقع، فأسباب التفاوت في نسب الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة لا يمكن حصره في سبب واحد، فكلّ ظاهرة يتمّ دراستها بشكل مستقلّ للوقوف على الأسباب المؤثّرة فيها، فمثلاً تفاوت معدّلات النجاح في الجامعات قد يكون له علاقة بالمناهج الدراسيّة، أو له علاقة بطبيعة الأساتذة والمدرّسين، أو له علاقة بالوضع الصحيّ والنفسيّ والاجتماعيّ للطلبة، أو غير ذلك، ولا يمكن القول: إنّ ذلك يعود لقانون التوزيع الطبيعيّ أو لمنحى غاوس.

وكذلك الحال في الظواهر الطبيعيّة فتفاوت معدّلات الطول بين البشر أو لون البشرة أو غير ذلك، فإنّ هناك أسباباً مباشرة لها مثل البيئة، أو الطقس، أو نوع الغذاء، أو المستوى الصحيّ، أو غير ذلك، فمثلاً سكّان السهول يختلفون عن سكّان الجبال في البنية والشكل، وسكّان خطِّ الاستواء يختلفون في اللّون عن السكّان الذين يبتعدون عنه، وهكذا فالأمر، فليس له علاقة بالأخطاء في الخلقة أو في الطبيعة، وإنّما نظام الكون والوجود وسنن الحياة مرتبط بنظام الأسباب والمسبّبات، وهذا ما ساعد البشريّة على العلم والتقدّم والتطوّر في كلّ المجالات، ومن هنا لا يكون البشر معذوراً إذا استسلم للظواهر وخضع لها؛ وذلك لأنّ زمام الأمر بيده عندما ملّكه الله مفاتيح العلم والمعرفة، فمثلاً لو سلّمنا جدلاً بوجود عوامل طبيعيّة تجعل الشخص منحرفاً جنسيّاً؛ فإنّ الإنسان باستطاعته التغلّب عليها علميّاً وإعادة الإنسان إلى اعتداله الطبيعيّ، فالذي يميّز الإنسان عن بقيّة المخلوقات هو أنّ الإنسان له سلطة على الطبيعة وليس للطبيعة سلطة عليه، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فالعلم والقدرة والإرادة هي المفاتيح التي ملّكها الله للإنسان من أجل تسخير الطبيعية، والذي يهمل كلّ ذلك لا يحقّ له تحميل خلق الله أو الطبيعة مسؤوليّة الانحرافات التي تحدث فيها.

وفي المقابل أيضاً يجب أن لا تغيب عنّا الحِكمة العامّة من وجود التنوّع في الطبيعة وفي الحياة، فالتنوّع يعدّ من أهمّ العوامل التي تحقّق الانسجام والتكامل بين الحياة وبين مكوّنات الطبيعة، ومن دون ذلك لاستحال استمرار الحياة على هذه الأرض.