هل قوانينُ الطبيعةِ صمّاءُ ولا تكترثُ أبداً لمُعاناةِ الكائنات؟
يقولُ المُلحد / نحنُ نستخدمُ مُعضلةَ الشرِّ لإظهارِ التناقضِ في المنطقِ الدينيّ الابراهيمي، أمّا بالنسبةِ لنا فقوانينُ الطبيعةِ صمّاءُ لا تكترثُ أبداً لمُعاناةِ الكائنات، فنحنُ مَن يصنعُ قوانينَ السعادةِ والرّخاءِ والسلامة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : أجَبنا مِن قبل على أسئلةٍ مُشابهةٍ وهُنا نُجمِلُ ما قُلناه سابقاً. أوّلاً: الفلسفةُ الإلحاديّةُ هيَ التي تتورّطُ في التناقضِ عندَما تتحدّثُ عن الخيرِ والشر؛ وذلكَ لكونِ الإلحادِ فلسفةً مادّيّةً عدميّة لا تعترفُ بالأساسِ بشيءٍ اسمُه قيمٌ أخلاقيّة، فالخيرُ، والعدلُ، والإحسانُ، والرّحمة... وغيرُها منَ القيمِ ليسَت صفاتٍ موجودةً في المادّةِ، بل غيرُ موجودةٍ حتّى في الإنسانِ بوصفِه مادّةً تحرّكُه أعصابٌ غيرُ واعية، فمعَ تحكّمِ هذهِ النظرةِ كيفَ يمكنُ أن نُوجدَ تفسيراً مُختبريّاً وتشريحيّاً لهذهِ القيمِ الأخلاقيّةِ عندَ الإنسان؟ فمنَ المُستحيلِ ثبوتاً وإثباتاً أن يكونَ هناكَ قيمٌ أخلاقيّةٌ تتّصفُ بالإطلاقِ دونَ الإيمانِ بوجودِ إلهٍ يكونُ مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبّهَ إليهِ الكثيرُ مِن فلاسفةِ الإلحاد، مثلَ الفيلسوفِ الوجوديّ المُلحِد (جون بول سارتر) الذي قالَ: "يجدُ الوجوديُّ حرجًا بالغًا في ألّا يكونَ اللهُ موجودًا، لأنّه بعدمِ وجودِه تنعدمُ كلُّ إمكانيّةٍ للعثورِ على قيمٍ في عالمٍ واضح. لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ خيرٌ بدهيٌّ لأنّه لا يوجدُ وعيٌ لانهائيّ وكاملٌ منَ المُمكنِ التفكيرُ فيه. لم يُكتَب في أيّ مكانٍ أنّ الخيرَ موجودٌ، ولا أنّ على المرءِ أن يكونَ صادِقاً أو ألّا يكذب". وقد اتّسقَ المُلحدُ ريتشارد دوكنز مع إلحادِه عندَما رفضَ صبغَ الوجودِ بأيّ صبغةٍ قيميّةٍ أخلاقيّة، حيثُ يقولُ: "في هذا العالمِ لا يوجدُ شرٌّ ولا يوجدُ خير، لا يوجدُ سِوى لا مُبالاة عمياء وعديمةِ الرّحمة". ويقولُ أيضاً: إنّه منَ العسيرِ جدّاً الدفاعُ عن الأخلاقِ المُطلقةِ على أسسٍ غيرِ دينيّة". وعليهِ فإنَّ المُلحدَ يعيشُ تناقضاً حقيقيّاً بينَ فلسفتِه المادّيّةِ العدميّةِ وبينَ حديثِه عن الخيرِ والشرِّ في إطارٍ أخلاقي. ثانياً: الكلامُ عن وجودِ الشرِّ يجبُ أن يسبقَه كلامٌ عن وجودِ الخير؛ وذلكَ لكونِ الخيرِ هوَ الأصلَ والشرّ استثناءاً عارضاً، فإذا كانَ الاستثناءُ دليلاً على عدمِ وجودِ الخالق، فكيفَ لا يكونُ الأصلُ دليلاً على وجودِه؟ ومِن هُنا لا يمكنُ أن نفهمَ المعنى الوجوديَّ للشرِّ (الاستثناء)، حتّى نفهمَ المعنى الوجوديَّ للخير (الأصل). وإذا تحرّكنا منَ الخيرِ لفهمِ الشرِّ حينَها سنفهمُ أنَّ وجودَ الشرِّ ضرورةٌ لاكتمالِ الحِكمةِ مِن وجودِ الإنسانِ في الدّنيا، والمُلحدُ لا يعتقدُ بوجودِ حِكمةٍ وغايةٍ للإنسان، والحياةُ في نظرِه ليسَت إلّا عبثاً في عبث، فكيفَ بعدَ ذلكَ يُسألُ عن حِكمةِ وجودِ الشرِّ وهوَ لا يُؤمنُ بشيءٍ اسمُه حِكمة. ثالثاً: جاءَ في السؤالِ قولُ المُلحدِ (فنحنُ مَن يصنعُ قوانينَ السعادةِ والرخاءِ والسلامة) وهذهِ المقولةُ تُعبّرُ عن تناقضٍ صارخٍ بينَ فلسفةِ الإلحادِ وبينَ تبنّيهِ لحُريّةِ الإنسان، فمنَ المؤكّدِ أنَّ فلسفةَ الإلحادِ المادّيّةَ قائمةٌ على الجبرِ ومُصادرةِ حُريّةِ الإنسان، فالإنسانُ في التصوّرِ الإلحاديّ نتاجُ تطوّرِ الطبيعةِ، وليسَ بمقدورِ الإنسانِ تغييرُ ما اختارَته لهُ الطبيعة، أي أنَّ هناكَ حتميّةً ماديّةً مُهيمنةً على كلِّ الوجودِ لا يستطيعُ أن يخرجَ الإنسانُ مِن قبضتِها لكونِه واحداً مِنها، والمخرجُ الوحيدُ الذي يفتحُ الطريقَ أمامَ انعتاقِ الإنسانِ مِن هيمنةِ المادّةِ هوَ اللهُ الذي أودعَ في الإنسانِ روحَ الإرادةِ والعلمِ والعقل، فكرّمَه بذلكَ عن بقيّةِ خلقِه، والذي يرفضُ هذا النسقَ منَ التفكيرِ لابدَّ أن يقعَ في الحتميّةِ والجبرِ لا محالة، ولذلكَ اعتبرَت الإرادةُ الحُرّةُ في الفلسفةِ الإلحاديّةِ مُجرّدَ وهمٍ لا وجودَ لها، فالإنسانُ عبارةٌ عن دُميةٍ تحرّكُها مؤثّراتٌ كيميائيّة؟ كما يصرّحُ هيرس بقوله: "إنّنا مُجرّدُ دُمىً بيوكيميائيّة تسيّرُها قوىً تتجاوزُ التحكّمَ الواعي". ويشرحُ البروفيسور التطوّري بجامعةِ شيكاغو القضيّةَ بقولِه: "إنَّ المُخَّ وأعضاءَ الجسمِ هُم الأوعيةُ التي تتّخذُ القراراتِ وهُم عبارةٌ عن جزيئاتٍ، وترتيبُ ونظامُ هذهِ الجُزيئاتِ مُحدّدٌ سلفاً عن طريقِ الجيناتِ والبيئةِ المُحيطة، وإنَّ قراراتنا مبنيّةٌ على نبضاتٍ كهربيّةٍ نابعةٍ مِن هذهِ الجُزيئاتِ وموادٍّ كيميائيّةً تنتقلُ مِن خليّةٍ عصبيّةٍ إلى أخرى، وإنَّ هذهِ النبضاتِ والكيماويّاتِ لابدَّ أن تتّبعَ القوانينَ الفيزيائيّة، وبالتالي فاختياراتُنا لابدَّ أن تُطيعَ هذهِ القوانين"كذلكَ يرى بول بلوم أستاذُ علمِ النفسِ وعلمِ الإدراكِ بجامعةِ يال ومؤلّفُ كتابِ (مُجرّدُ أطفال: أصولُ الخيرِ والشر): "إنّنا مُجرّدُ كائناتٍ ذاتِ طبيعةٍ فيزيائيّةٍ وإنَّ طبائعَنا تُحدّدُ مَن نحنُ وماذا نفعل، وإنَّ أفعالَنا كلّها مُحدّدةٌ سلفاً بقوانينِ الفيزياءِ وبأحوالِ الكونِ قبلَ أن نُولدَ بفترةٍ طويلة، ونحنُ لم نختَر أيّاً مِن هذا وبالتالي فلا وجودَ للإرادةِ الحُرّة"وهذا المقدارُ كافٍ لفكِّ الارتباطِ بينَ فلسفةِ الإلحادِ وبينَ الإرادةِ الحُرّة عندَ الإنسان، ومِن هُنا لا يمكنُ للإلحادِ الحديثُ عن أيّ تصوّرٍ اجتماعيٍّ إنسانيّ وفي نفسِ الوقتِ يتبنّى فلسفةً مادّيّةً إلحاديّة، وهذا خلافُ الأديانِ الابراهيميّةِ التي ترتكزُ في مُجملِها على نظامٍ أخلاقيٍّ قائمٍ على قيمٍ مُطلقة، والإنسانُ ضمنَ هذهِ الأديانِ هوَ المسؤولُ عن اختياراتِه الحياتيّة انطلاقاً مِن هذهِ القيمِ الأخلاقيّة، وبذلكَ لا يُشكّلُ وجودُ الشرِّ أيَّ تناقضٍ معَ هذهِ الأديان، بل على العكسِ تماماً؛ وذلكَ لأنَّ وجودَه يُمثّلُ الأساسَ لفلسفةِ الامتحانِ والابتلاءِ الذي قامَت عليهِ تلكَ الأديان.
اترك تعليق