ما هيَ أهمُّ النظريّاتِ الفلسفيّةِ التي يرتكزُ عليها الإلحادُ المُعاصر؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ليسَ للإلحادِ رؤيةٌ فلسفيّةٌ خاصّةٌ وإنّما يعودُ في جذورِه إلى المادّيّةِ التي لا تعترفُ بأيّ شيءٍ خارجَ حدودِ الحسِّ، فالإلحادُ لا يقومُ على البرهنةِ والاستدلالِ العقلي لإثباتِ شيءٍ ما وإنّما يكتفي فقط بنفي هذهِ القُدرةِ العقليّةِ منَ الأساس، فإذا جازَ تعريفُ الفلسفةِ على أنّها الوصولُ للحقائقِ عبرَ الطاقةِ العقليّةِ يجوزُ لنا أن نُعرّفَ الإلحادَ بأنّهُ نفيُ قُدرةِ العقلِ على الاستدلالِ والبرهنةِ خارجَ حدودِ الحسِّ والتجربة، وعليهِ فإنَّ الإلحادَ موقفٌ سلبيٌّ تشكيكيٌّ ضدَّ العقلِ البُرهاني، وبهذا الاعتبارِ لا يجوزُ لنا الاعترافُ بوجودِ نظريّاتٍ فلسفيّةٍ للإلحاد، طالما أنّه يتحرّكُ في الاتّجاهِ المُعاكسِ للاتّجاهِ الذي تسيرُ فيه الفلسفة، فعندَما يحصرُ الإلحادُ المعرفةَ في الحسِّ والعلومِ التجريبيّةِ فإنّه بذلكَ يُصادرُ كلَّ المعارفِ الفلسفيّة؛ لأنَّ التشكيكَ في العقلِ البُرهاني والاستنباطيّ تشكيكٌ في الأسسِ التي تقومُ عليها الفلسفة، وقد بينّا في أجوبةٍ سابقةٍ الفرقَ بينَ الدليلِ العلمي والدليلِ الفلسفي، أو الفرقَ بينَ المناهجِ التي تُستخدمُ في دراسةِ العلومِ الطبيعيّةِ والمناهجِ التي تُستخدَم في دراسةِ العلومِ الإنسانيّة، والإلحادُ في إنكارِه لوجودِ اللهِ لا يعترفُ إلّا بالمناهجِ الطبيعيّةِ القائمةِ على الحسِّ والتجربةِ العلميّة، ومنَ المؤكّدِ أنَّ اللهَ الذي يمكنُ إدراكهُ بالحسِّ أو يمكنُ إخضاعُه للمعملِ والمُختبرِ غيرُ موجود، والمؤمنُ لا يُطالِبُ المُلحدَ بالإيمانِ بمثلِ هذا الإلهِ حتّى يُطالبَه المُلحدُ بالدليلِ الحسّيّ عليه، وإنّما هوَ يؤمنُ منَ الأساسِ بإلهٍ خارجٍ عن إطارِ المادّةِ والطبيعةِ ومباينٍ لها في كلِّ ما تتّصفُ به، ولا يتمُّ البرهنةُ على هذا الإيمانِ بالعقلِ الحسّيّ وإنّما بالعقلِ البُرهانيّ الذي يستنبطُ الحقائقَ القطعيّةَ مِن مُقدّماتِها الضروريّة، ومناقشةُ الرؤيةِ الحِسّيّةِ في المعرفةِ تنقلُنا مِن مُناقشةِ الإلحادِ كموقفٍ رافضٍ للإيمانِ باللهِ إلى النقاشِ في نظريّةِ المعرفةِ وحينَها لا يكونُ للمُلحدِ وجودٌ بوصفِه مُلحِداً؛ لأنَّ الإلحادَ ليسَ إلّا نتيجةً لموقفِ الفلسفةِ المادّيّةِ منَ المعرفةِ العقليّة، ومِن هُنا فإنَّ الإلحادَ لا يُعدُّ نظريّةً فلسفيّةً وإنّما نتيجةً لرفضِ المناهجِ العقليّةِ المعمولِ بها في الفلسفةِ وفي العلومِ الإنسانيّة، وبذلكَ يمكنُنا أن نقولَ أنَّ الجذرَ الفلسفيَّ للإلحادِ هوَ الفلسفةُ المادّيّةُ التي لا تعترفُ إلّا بما هوَ مادّةٌ وما ليسَ بمادّيّ غيرُ موجود. فالوقوفُ على كلماتِ المُلحدينَ تجعلُنا نُشكّكُ في كونِه خياراً عقليّاً يرتكزُ على منطقِ العُقلاءِ في تفهّمِ الأشياء، وذلكَ لأنَّ العقلَ الإلحاديَّ عقلٌ مادّيٌّ يريدُ أن يسوقَ كلَّ الحقائقِ بعصا الحسِّ، وهذا مُخالفٌ لمنطقِ الحياةِ التي لا يمكنُ حصرُها في المُختبر، فإن كانَت العلومُ التجريبيّةُ علوماً حسّيّةً فإنَّ العلومَ الإنسانيّةَ علومٌ فوقَ حسّيّةٍ، والعقلُ المُنفتحُ نحوَ الحقائقِ هوَ الأكثرُ تحرّراً مِن هيمنةِ المادّةِ المُظلمة، فالحبُّ والجمالُ والكرامةُ وكلُّ القيمِ والمعاني الساميةِ لا يمكنُ فهمُها بالتجاربِ الحسّيّة، وإنّما العقلُ المُستنيرُ بنورِ الحقائقِ هوَ وحدُه الذي يمكنُه أن يفهمَ تلكَ المعاني، وبالتالي هناكَ منطقٌ خاصٌّ عندَ العقلاءِ هو الذي يجبُ أن يكونَ حاكِماً لتفهّمِ ظاهرةٍ مصيريّةٍ كالظاهرةِ الدينيّةِ وهذا ما لم يفهَمه الإلحاد. وفي المُقابلِ نجدُ الإيمانَ باللهِ حالةً مُتأصّلةً في التاريخِ الإنساني، ولا يمكنُ فهمُ هذهِ الظاهرةِ إلّا بوصفِها خياراً عقليّاً قادَ الجميعَ للإيمانِ بحقيقةٍ غيرِ مادّيّة، وذلكَ لكونِ العقلِ هوَ الذي يقودُ الإنسانَ وفي أوّلِ مراحلِ تفكيرِه إلى السؤالِ عن عللِ الأشياءِ وغاياتِها، فكونُ الإنسانِ عاقلاً هو معنىً آخر لكونِ الإنسانِ مُتسائِلاً عن فلسفةِ الأشياءِ وغاياتِها، بوصفِه الموجودَ الوحيدَ الذي يعي وجودَه ووجودَ ما حوله، والإيمانُ باللهِ هوَ الذي يُحقّقُ للوجودِ وجودَه ويُحقّقُ للمعنى معناه، وعليهِ فإنَّ الاعترافَ بوجودِ اللهِ هوَ ما يقودُ إليه التفكيرُ العقليُّ المُنضبِط. يقولُ الفيلسوفُ ريتشارد سوينبرن في مقامِ توضيحِ ما يقومُ به الدينُ تكميلاً للعلم: (عندَما أتحدّثُ عن الإله، فإنّني لا أطرحُ إلهاً ليسدَّ الثغراتِ التي لم يُجِب عنها العلمُ حتّى الآن، فأنا لا أنكِرُ قُدرةَ العلمِ على استكمالِ التفسير. ولكنّني أطرحُ الوجودَ الإلهيَّ لأفسّرَ لماذا صارَ العالمُ قادِراً على التفسير؟). فكونُ العالمِ قابِلاً للتفسيرِ العلميّ يُعدُّ دليلاً على وجودِ إلهٍ عالمٍ حكيمٍ هوَ الذي صمّمَ هذا الوجودَ بالشكلِ الذي يكونُ فيهِ مفهوماً.وفي المُحصّلةِ لا يمكنُنا الاعترافُ بنظريّةٍ فلسفيّةٍ للإلحاد، ولا يمكنُ التسليمُ بوجودِ أيّ نسقٍ فلسفيٍّ يمكنُ أن يكونَ مُبرِّراً للنظرةِ العدميّةِ للإلحاد، فإنكارُ ما هوَ خارجٌ عن الحسِّ ليسَ إلّا مُصادرةً وإمعاناً في الإنكار.
اترك تعليق