كيفية التمهيدُ لصاحبِ العصر؟
هل التمهيد لصاحب العصر يقتصر على الجانب الفردي (باصلاح النفس و اعدادها للظهور ) او العمل بالجانبين الفردي و الاجتماعي من خلال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر و هداية المجتمع و بناء العدة و العدد لصاحب العصر و الزمان ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : معَ أنَّ الإجابةَ المبدئيّةَ على هذا السؤالِ بسيطةٌ وهيَ أنَّ الانتظارَ لا يعني سقوطَ أيَّ تكليفٍ فرديٍّ كانَ أو اجتماعيّ إلّا أنَّ هناكَ مَن يتّخذُ مِن غيبةِ الإمامِ الحُجّةِ مُبرّراً لتقاعسِه عن واجباتِه الاجتماعيّةِ والسياسيّة، ويحتجُّ في ذلكَ ببعضِ الرواياتِ التي تأمرُ الشيعةَ بأن يكونوا أحلاسَ بيوتِهم، ولمُناقشةِ هذهِ القضيّةِ لابدَّ مِن تثبيتِ بعضِ الأمورِ التي تساعدُ في حلِّ جميعِ تلكَ الإشكالات. فالبعضُ يؤسّسُ مبدأً بعدمِ وجودِ أيّ شرعيّةٍ لأيّ حراكٍ اجتماعيٍّ وسياسيّ وبالتالي لا يجوزُ السعيُ لإقامةِ نظامٍ سياسيٍّ باسمِ الإسلامِ لأنَّ ذلكَ حقٌّ خاصٌّ بالأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ عليهم السلام، وليسَ أمامَ الشيعةِ إلّا القبولُ بواقعِ الحالِ وانتظارُ ظهورِ الإمامِ الحُجّةِ عجّلَ اللهُ فرجَه، وينتصرُ هذا الاتّجاهُ لهذا المُدّعى ببعضِ الرواياتِ التي حكمَت على كلِّ رايةٍ قبلَ الحُجّةِ بأنّها رايةُ ضلالٍ، أو الرواياتِ التي تأمرُهم بأن يكونوا أحلاسَ بيوتِهم. ومناقشةُ هذا الأمرِ يتوقّفُ على تثبيتِ بعضِ المُرتكزاتِ المنهجيّةِ.. ولو تمَّ تثبيتُ بعضِ المُقدّماتِ حينَها ينحسمُ النقاشُ في المسألةِ: 1- القرآنُ هوَ الحاكمُ على الروايةِ وليسَت الروايةُ هيَ الحاكمةُ على الكتابِ وهذا يعني بالضرورةِ أن تكونَ الرواياتُ في طولِ القرآنِ وليسَت في عرضِه. وعليهِ لو تحدّثَ القرآنُ في أمرٍ يجبُ أن تأتي الروايةُ مُعزّزةً لهذا الأمرِ ومؤكّدةً له ولا يجوزُ أبداً أن تأتي مُخالفةً له.. 2- ضرورةُ عرضِ الرواياتِ على القرآنِ كاشفٌ عن كونِ القرآنِ هوَ المُحكَمَ والروايات هيَ المُتشابهةَ وذلكَ لضرورةِ إرجاعِ المُتشابهِ للمُحكَم.. وعليهِ لو تعارضَت الروايةُ معَ القرآنِ أرجعناها إلى القرآنِ الذي هوَ المُحكَم وعمِلنا بهِ وترَكنا العملَ بالرّوايةِ. 3- تحدّثَ القرآنُ عن الأصولِ ومبادئِ الأحكامِ الشرعيّة، وتحدّثَت الرواياتُ عن تفريعاتٍ لتلكَ الأصول. وعليهِ لو جاءَت روايةٌ تُثبِتُ فرعاً مُتعارضاً معَ الأصلِ القرآنيّ يجبُ حينَها التمسّكُ بالأصلِ وتركُ هذا الفرع.. 4- آياتُ القرآنِ جاءَت على نحوِ القضيّةِ الحقيقيّةِ وليسَت على نحوِ القضيّةِ الخارجيّةِ وعليهِ تصلحُ كلُّ آياتِ الكتابِ لكلٍّ زمانٍ ومكان لأنّها لا تقومُ على أساسِ (الحُكمِ الخاصِّ للقضيّةِ الخاصّة) وإنّما تقومُ على وضعِ قاعدةٍ تصلحُ للجري والانطباقِ مدى الأزمان.5- أكثرُ الرواياتِ جاءَت على نحوِ القضيّةِ الخارجيّةِ وليسَ على نحوِ القضيّةِ الحقيقيّةِ بخلافِ القرآن.. أي بمعنى أنَّ الرواياتِ في أكثرِها هيَ تطبيقٌ لأحكامِ اللهِ فيما يخصُّ ظرفَها التاريخيّ فمثلاً الرواياتُ التي لها علاقةٌ بالحُكمِ والسياسةِ والقضاءِ والتربيةِ وووو وكلِّ ما لهُ ظرفٌ تاريخيٌّ خاصٌّ يجبُ حملُها على نحوِ القضيّةِ التاريخيّةِ التي لا يجبُ تعميمُها خارجَ حدودِ زمانِ صدورِها.6- الرواياتُ التي تحدّثَت عن عدمِ إقامةِ دولةٍ أو أن نكونَ أحلاسَ البيوتِ وغيرها منَ الرواياتِ التي وجّهَت الشيعةَ في اتّخاذِ موقفٍ مُعيّنٍ في زمنِ الأئمّةِ هيَ رواياتٌ على نحوِ القضيّةِ الخارجيّةِ وليسَت على نحوِ القضيّةِ الحقيقيّةِ وإنّما هيَ عبارةٌ عن توجيهاتٍ كانَت تُراعي حالةً مُعيّنةً ضمنَ ظروفٍ مُعيّنةٍ وليسَت في موردِ تأصيلِ قاعدةٍ عابرةٍ للظروفِ والأزمان.. 7- الرسولُ والإمامُ لا يُفهَمُ مِن ضرورتِهما أن يكونا بديلاً للعقلِ الإنسانيّ وإنّما يُفهمانِ على أساسِ أنّهما مُحرّكانِ ومُثيرانِ له كما يقولُ أميرُ المؤمنينَ واصفاً مُهمّةَ الأنبياءِ (ليُثيروا لهُم دفائنَ العقول) وعليهِ لا يجوزُ مُصادرةُ حقِّ الإنسانِ في التعقّلِ والتفكيرِ طالما كانَت وظيفةُ النصوصِ هيَ التشجيعَ والتحريضَ على التعقّلِ، ولذا عندَما سُئلَ الإمامُ عن الحُجّةِ بينَ العبدِ وبينَ اللهِ قالَ (العقلُ) واللهُ بالعقلِ يُعتقَد، وعليهِ فإنَّ بابَ الاجتهادِ مفتوحٌ في الأمورِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ كما هوَ مفتوحٌ في الأمورِ العباديّة. 8- إقامةُ دولةٍ إسلاميّةٍ تقومُ على مُراعاةِ أوامرِ اللهِ وتشريعاتِه وتحفظُ حقوقَ العبادِ وتُراعي فيهم قيمَ العدلِ والحقِّ خيارٌ يقعُ في قبالِه خيارٌ آخر وهوَ القبولُ بالدولةِ التي لا تُراعي أوامرَ اللهِ وتشريعاتِه ولا تحفظُ حقوقَ العبادِ وتنتهكُ حُرماتِ اللهِ ووو والترجيحُ بينَ الخيارينِ مسؤوليّةُ العقلِ الذي أجرى اللهُ التكاليفَ على أساسِه (بكَ أثيبُ وبكَ أعاقِب) وليسَت مسؤوليّةُ القرآنِ أو الرسولِ أو الإمامِ لأنّها تكليفُ العبدِ وليسَ تكليفَ اللهِ والرسولِ والإمام .. فاللهُ والرّسولُ والإمامُ يأمُرانِ الإنسانَ بالتعقّلِ في كلِّ اختياراتِه (أفلا تعقلون) وعليهِ لا نحتاجُ إلى دليلٍ خاصٍّ في تحديدِ الموضوعاتِ الخارجيّة.وعليهِ لا يجوزُ للشيعةِ التخلّي عن واجباتِهم الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ بحسبِ الضوابطِ الشرعيّةِ والقيمِ الدينيّةِ وعلى الأقلِّ في حدودِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكَر. وقد استدلَّ البعضُ بمقطعٍ مِن دُعاءِ الافتتاحِ جاءَ فيه (وسلطانِ حقٍّ تُظهِره) على أنَّ الإمامَ الحُجّةَ وحدَه ودونَ غيرِه هوَ الذي يُظهرُ سلطانَ الحقِّ، وهوَ استدلالٌ فيهِ مُغالطةٌ واضحةٌ لأنَّ المصاديقَ لذلكَ نسبيّةٌ تتحرّكُ منَ المصداقِ (الأصغرِ) إلى المِصداقِ (الأتمِّ والأكمل) حالُها حالُ الإيمانِ والتقوى والعملِ الصّالح وكلِّ قيمِ الدين. فإذا لم تقدِر على المقدارِ الأتمِّ منَ الإيمانِ والتقوى والعملِ الصّالح لا يسقطُ عنكَ المقدارُ الأقلُّ والميسور. أو كما يقولُ الإمامُ عليٌّ عليهِ السلام (ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَكُ جلّه) وهذهِ قاعدةٌ اتّفقَ عليها جميعُ البشرِ وعليها قوامُ الحياة ...فإذا لم يكُن هناكَ رسولٌ لا يعني ألّا يكونَ هناكَ مُصلِحٌ. وإذا لم يكُن هناكَ إمامٌ لا يعني ألّا يكونَ هناكَ مَن يتحمّلُ مسؤوليّةَ الدعوةِ إلى الحق. وإذا لم نتمكّن مِن بسطِ العدلِ على كلِّ الأرضِ لا يعني ألّا نبسطَه في بعضِها. وإذا لم نقدِر على ذلكَ لا يعني أن يسقُطَ عنّا التكليفُ ونستكينَ للظُّلم.. فاللهُ سبحانَه طلبَ مِنّا الجهادَ في سبيلِه ولم يطلُب منّا النصرَ فقالَ (جاهِدوا) ولم يقُل (انتصروا) وهكذا جاءَ في الدعاءِ (وقلّةَ عددِنا) فهذا لا يعني أن لا نعملَ لنُكثرَ عددَنا. وجاءَ (وكثرةَ عدوِّنا) فهذا لا يعني أن نُسلّمَ لعدوّنا. وجاءَ (وكثرةَ الفتنِ بنا) فلا يعني أن نرتمي في أحضانِها ولا نعملَ على تغييرِها...وهكذا. مَن قالَ أنَّ العلماءَ والفقهاءَ ليسَت لهُم قُدرةٌ على تجديدِ الفرائضِ والسّننِ وإقامةِ الأمتِ والعِوجِ وإزالةِ الجورِ والعدوانِ وهدمِ أبنيةِ الشركِ والنفاق؟ بل كلُّ مؤمنٍ قادرٌ على ذلكَ وإلّا لَما كلّفنا اللهُ سبحانَه بأن نقيمَ الفرائضَ والسّننَ ولما أمرَنا أن نُقيمَ الأمتَ والعوجَ ولما أوجبَ علينا إزالةَ الجورِ والعدوان ولما طلبَ منّا هدمَ أبنيةِ الشركِ والنّفاق.. كلُّ ذلكَ واجبٌ على المؤمنِ والذي يقفُ أمامَ الأمتِ والعوجِ ولا يغيّرُ شيئاً ويقولُ هذا تكليفُ الإمامِ وليسَ تكليفي والذي يرى الجورَ ولا يُزيلهُ ثمَّ يُنادي يا بنَ الحسنِ أنتَ مُطالَبٌ بإزالتِه وليسَ أنا. والذي يقفُ أمامَ أبنيةِ الشركِ مُتفرّجاً ولا يحرّكُ ساكناً بحُجّةِ أنّها تكليفُ غيرِه.. فمثلُ هذا لا يُعدُّ مؤمِناً باللهِ ولا بكتابِه ولا برسولِه ولا بإمامِه.. ومعَ ذلكَ لهذا الدعاءِ معنىً كبيرٌ بالنسبةِ للمؤمنِ الذي يسعى لإقامةِ الحقِّ لأنّهُ يعلمُ أنَّ طريقَهُ الذي يسلكُه خاتمتُه النصرُ العزيزُ والفوزُ الكبيرُ وذلكَ بظهورِ المهديّ الذي يتوّجُ كلَّ هذهِ الأعمالِ بدولةِ الحقِّ الكُبرى.. فكونُ هناكَ إمامٌ تتحقّقُ كلُّ تلكَ المشاريعِ على يديه يُشكّلُ حافزاً للمُضيّ قُدماً في هذا السبيلِ وليسَ مدعاةً لرفعِ التكليفِ عن عاتقي وجعلِه على عاتقِ طرفٍ آخر، فحينَها لا يكونُ هناكَ فرقٌ بينَه وبينَ مَن يقولُ لابدَّ أن نملأ الدّنيا فساداً حتّى نُعجّلَ في ظهورِه الشريف؟!وفي الخُلاصةِ فإنَّ العملَ على إقامةِ الحقِّ سواءٌ كانَ على مُستوى الفردِ أو الأمّةِ هيَ مسؤوليّةٌ وتكليفٌ منَ اللهِ ومنَ الرسولِ ومنَ الإمامِ ولا يحتاجُ المؤمنُ إلى إذنٍ خاصٍّ للقيامِ بذلكَ والذي يدّعي ضرورةَ الإذنِ الخاصِّ مُطالبٌ بالدليل.
اترك تعليق