هل ثبتَ في المصادرِ السُنّيّةِ وصيّةُ النبيّ (ص) للإمامِ عليّ في قضيّةِ فدك (أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ بعدي)؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،إنّ حديثَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) للإمامِ عليٍّ (إنَّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ بعدي)، قد وردَ في مصادرِ السنّةِ بعدّةِ طُرق، مِنها: أوّلاً: ما رواهُ الحاكمُ النيسابوريّ في المُستدرَكِ على الصّحيحينِ (ج3/ص140)، رقمُ الحديث (4731)، إذ قال: حدّثنا : أبو حفصٍ عمرُ بنُ أحمدَ الجمحي بمكّةَ ، ثنا : عليٌّ بنُ عبدِ العزيز ، ثنا : عمرو بنُ عون ، ثنا : هشيمٌ ، عن إسماعيلَ بنِ سالم ، عن أبي إدريسٍ الأودي ، عن عليٍّ (ع) ، قالَ : إنَّ ممّا عهدَ إليَّ النبيُّ (ص) أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بي بعدَه ، هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ ، ولم يُخرجاه. ورواهُ أيضاً الدولابيّ في الكنى والأسماء في (ج1/ص318)، والحارثُ بنُ أبي أسامة في (مُسنَد الحارث = بغيةُ الباحثِ عن زوائدِ مُسنَدِ الحارث) (ج2/ص905)، والخطيبُ البغداديّ في تاريخِ بغداد في ترجمةِ عُمرَ بنِ الوليدِ بنِ أبان الكرابيسي، (ج13/ ص58). وثانياً: ما رواهُ الحاكمُ النيسابوريّ في المُستدرَكِ على الصّحيحينِ (ج3/ص140) أيضاً، رقمُ الحديث (4740)، عن حيّانَ الأسدي سمعتُ عليّاً ، يقولُ : قالَ لي رسولُ الله (ص) : إنَّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ بعدي ، وأنتَ تعيشُ على ملّتي ، وتُقتَلُ على سُنّتي ، مَن أحبّكَ أحبَّني ، ومَن أبغضَك أبغضَني ، وإنَّ هذهِ ستُخضّبُ مِن هذا يعني لحيتَه مِن رأسِه ، هذا حديثٌ صحيح. وفي كتابِ إتحافِ المهرةِ لابنِ حجرٍ العسقلانيّ (11/296 -–14043) بيّنَّ أنَّ الحاكمَ رواهُ مُسنَداً عن أبي عليٍّ الحافظِ ثنا الهيثمَ بنَ خلفٍ الدوريّ حدّثني محمّدٌ بنُ عمرَ بنِ هيّاج، ثنا يحيى بنُ عبدِ الرّحمن الأرحبيّ ثنا يونسُ بنُ أبي يعفور عن أبيهِ قالَ حدّثني حيّانُ الأسديّ قال سمعتُ عليّاً بنَ أبي طالب (ع) كما (المُستدرَكُ الجامعُ الصّحيح) (ج6/ص83)، رقمُ الحديث (4734). وحيّانُ هوَ ابنُ حُصينٍ الأسديّ، وهوَ ثقة. وثالثاً: ما رواهُ البزّارُ في مُسندِه (ج3/ص91)، رقمُ الحديث 869 ، إذ قالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بنُ سُفيَانَ، ثنا عَلِيُّ بنُ قَادِمٌ، ثنا شَرِيكٌ، عَنِ الأَجلَحِ، عَن حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَن ثَعلَبَةَ بنِ يَزِيدَ، عَن أَبِيهِ - هَكَذَا قَالَ وَأَحسِبُهُ غَلَطٌ، إِنَّمَا هُوَ عَن عَلِيٍّ - قَالَ: سَمِعتُ عَلِيًّا يَقُولُ عَلَى المِنبَرِ: «وَاللَّهِ لَعَهدُ النَّبِيّ الأُمِّيّ إِلَيَّ أَنَّ الأُمَّةَ سَتَغدِرُ بِي» . قَالَ البَزَّارُ: قَد رَوَاهُ فِطرُ بنُ خَلِيفَةَ وَغَيرُهُ، عَن حَبِيبٍ، عَن ثَعلَبَةَ، عَن عَلِيٍّ. وقد تابعَ حبيبٌ بنُ أبي ثابت في روايتِه هذهِ عن ثعلبةَ سلمةَ بنَ كهيلٍ وِفقاً لطريقين، أحدُهما: ما رواهُ الشيخُ مُحمّدٌ بنُ سليمانَ الكوفي في كتابِه مناقبُ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ (ع) في (ج 2/ص 545)، رقمُ الحديثِ (1052)، إذ قال: حدّثنا عثمانُ بنُ سعيد ، قالَ : حدّثنا محمّدٌ بنُ عبدِ الله، قالَ : حدّثنا محمّدٌ بنُ حميد ، قالَ : حدّثنا سلمةُ بنُ الفضل ، عن أبي إسحاق ، عن سلمةَ بنِ كهيل ، عن ثعلبةَ بنِ يزيدٍ الحماني ، قالَ : سمعتُ عليّاً وهوَ يقولُ على المِنبَر : والذي فلقَ الحبّةَ وبرأ النسمةَ إنّه لعهد إليَّ النبيّ الأمّيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم أنّه لتغدرُ الأمّةُ بي. والطريقُ الآخر: ما رواهُ الحافظُ ابنُ عدي في الكاملِ في ضُعفاءِ الرّجال برقمِ 1686 (ج7/ ص444) إذ قالَ: حدّثنا : عليٌّ بنُ العبّاس ، ثنا : عبّادٌ بنُ يعقوب ، ثنا : عليٌّ بنُ هاشم ، عن محمّدٍ بنِ سلمةَ بنِ كهيل ، عن أبيهِ ، عن ثعلبةَ الحماني أنّهُ سمعَ عليّاً ، يقولُ : وربِّ السماءِ وربِّ الأرضِ ثلاثَ مرّاتٍ لعهدُ النبيّ (ص) الأمّيّ إليَّ أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بي ، قالَ: فما أتى عليهِ ستُّ ليالٍ حتّى قُتِل. ورابعاً: ما رواهُ عليٌّ بنُ عُمر الحافظُ الدارقطنيّ نا عليٌّ بنُ عبدِ الله بنِ مُبشر نا محمّدٌ بنُ حربٍ النشائي نا عليٌّ بنُ يزيد الصدائي عن فطرٍ عن حكيمٍ بنِ جبير عن إبراهيمَ عن علقمةَ قالَ: قالَ عليٌّ: عهدَ إليَّ النبيُّ، صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم: "أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ مِن بعدي". قالَ الدارقطني: غريبٌ مِن حديثِ أبي عمران عن أبي شبلٍ عن عليٍّ، تفرّدَ بهِ حكيمٌ وتفرّدَ بهِ عنهُ فطرٌ بنُ خليفةَ وتفرّدَ بهِ عليٌّ الصدائي عن فطر, ولا نعلمُ حدّثَ بهِ غيرَ مُحمّدٍ بنِ حرب ولم نَكتُبه إلّا عن شيخِنا وكانَ منَ الثقات. [ينظر: كتابُ أطرافِ الغرائبِ والأفرادِ للدراقطنيّ (1/106)، برقمِ (396)، وتذكرةُ الحُفّاظِ للذهبيّ (3/134)].وخامساً: ما ذكرَه ابنُ أبي الحديدِ في شرحِ نهجِ البلاغة (ج ٤/ص ١٠٧)، إذ قالَ: وروى عثمانُ بنُ سعيد ، عن عبدِ اللهِ بنِ الغنوي ، أنَّ عليّاً عليهِ السلام خطبَ بالرّحبةِ ، فقالَ : أيُّها الناسُ ، إنّكم قد أبيتُم إلّا أن أقولها ! وربُّ السماءِ والأرض ، إنَّ مِن عهدِ النبيّ الأمّي إليَّ أنّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ بعدي. وفيما يلي تعليقاتُ عُلماءِ السنّةِ على بقيّةِ طرقِ هذا الحديث. قالَ البيهقيُّ في كتابِه دلائلُ النبوّةِ (ج 6/ ص 440) بعدَ أن روى حديثَ ثعلبةَ الحمانيّ: قالَ البُخاري : ثعلبةُ بنُ يزيدَ الحماني فيهِ نظرٌ ، لا يُتابَعُ عليه في حديثِه هذا، قلتُ : كذا ، قالَ البُخاري: وقد رويناهُ بإسنادٍ آخرَ عن عليٍّ إن كانَ محفوظاً.فرواهُ في كتابِه - دلائلُ النبوّة (ج 6/ ص 440) مِن طريقِ إسماعيلَ بنِ سالم، عن أبي إدريسَ الأزدي، عن عليٍّ الذي تقدّمَ بيانُها مُفصّلاً. ثُمَّ قالَ البيهقيُّ بعدَ ذلك: فإن صحَّ هذا فيُحتمَلُ أن يكونَ المُرادُ به، واللهُ أعلم، في خروجِ مَن خرجَ عليهِ في إمارتِه، ثمَّ في قتلِه. قلتُ: أمّا تعليقُ البُخاريّ فلا يصحُّ مُطلقاً سواءٌ مِن جهةِ ما قالهُ في راوي الحديثِ ثعلبة، أم مِن جهةِ ما قالهُ في حديثِه، فأمّا مِن جهةِ ثعلبة، فلا معنى للنّظرِ فيه، إذ أنّ هذا الرّاوي وثّقَه النسائيُّ وابنُ نُمير، وذكرَه ابنُ خلفون في الثقات، وقالَ ابنُ عديّ: لم أرَ لهُ حديثاً مُنكَراً في مقدارِ ما يرويه، كما في تهذيبِ التهذيبِ لابنِ حجر، وإكمالِ تهذيبِ الكمالِ لمغلطاي، الترجمةُ رقم (889)، وأمّا مِن جهةِ حديثِه، فقولهُ لا يُتابعُ عليهِ ليسَ صحيحاً كما تقدّمَ آنفاً، إذ تابعَه عليهِ أبو إدريسَ الأزديّ ويونسُ بنُ أبي يعفور عن أبيهِ فضلاً عن طريقِ حكيمٍ بنِ جبير وابنِ أبي الحديدِ المُعتزليّ، وأبو إدريسَ الأزديّ وإن كانَ مجهولَ الحالِ، لكنَّهُ في عدادِ مَن يكتبُ حديثَه شاهداً أو متابعةً كما هاهُنا طِبقاً لقواعدِ علمِ الحديث، وانظُر ترجمتَه في لسانِ الميزانِ لابنِ حجرٍ العسقلانيّ (ج1/ص261)، ويونسُ بنُ أبي يعفور فيهِ ضعفٌ يسيرٌ، وهوَ مِن رجالِ مُسلِم صاحبِ الصّحيح، فقد ضعّفَه ابنُ مُعينٍ وأحمدُ والنسائيّ، ووثّقَه الدارقطنيُّ وقالَ أبو زرعةَ صدوقٌ وقالَ العجليّ لا بأسَ به. وأبوهُ اسمُه وقدان، ثقةٌ كما في تهذيبِ التهذيبِ لابنِ حجرٍ وغيرِه. وحكيمٌ بنُ جبير وإن كانَ ضعيفاً لكنّه ممّن يُعتبَرُ بحديثِه في الشواهدِ والمُتابعاتِ كما في هذا الحديث. وعليهِ فإنّ قولَ البيهقيّ: وقد رويناهُ بإسنادٍ آخرَ عن عليٍّ إن كانَ محفوظاً، يدلُّ على عدمِ معرفتِه بطرقِه الأخرى كطريقِ ابنِ أبي يعفور وغيرِه، لأنّ هذهِ الطرقَ وإن لم تخلُ منَ الضعفِ في بعضِ رواتِها، ولكنَّ ضعفَها يسيرٌ، ومجموعُها يدلُّ على صحّةِ هذا الحديثِ كما هوَ مُقرّرٌ في علمِ الحديث، ويؤيّدُ ذلكَ ما ذكرَه المُحقّقُ سعدٌ بنُ ناصر الشثري حينَ علّقَ على طريقينِ مِن طرقِ هذا الحديث: إذ قالَ: ومعَ أنَّ الحديثَ ضعيفٌ بالنظرِ إلى كلِّ طريقٍ على حدة لكِن بالنظرِ إلى الطريقينِ معًا فالحديثُ حسنٌ لغيرِه، واللهُ أعلم. [ينظر: كتابُ المَطالبِ العَاليَةِ بِزَوَائِدِ المسَانيد الثّمَانِيَةِ لابنِ حجرٍ العسقلانيّ، (ج16/ ص67). الناشرُ: دارُ العاصمةِ للنشرِ والتوزيع - دارُ الغيثِ للنشرِ والتوزيع]. فإذا تبيّنَ ذلك، وتبيّنَ لنا صحّةُ هذا الحديثِ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فاعلَم أنّ المقصودَ بغدرِ الأمّةِ لأميرِ المؤمنينَ (ع) هوَ ما حصلَ مِن أحداثٍ مؤلمةٍ بعدَ وفاةِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وخصوصاً ما جرى في السقيفةِ، إذ لفظةُ (بعدي) الواردةُ في نصِّ الحديثِ هي قرينةٌ تشيرُ بوضوحٍ إلى تلكَ الأحداثِ المؤلمة، سواءٌ التي حصلَت في السقيفةِ أم التي تلَتها في قضيّةِ غصبِ فدك وغيرِها. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق