ما معنى التديّن ؟

هل التديّن يعني الالتزام وترك الترفيه والتنزّه ومشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى؟

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

ممّا لا شكَّ فيه أنَّ الترفيهَ عن النفسِ وترويحَها غريزةٌ مُتأصّلةٌ في الإنسان لا يمكنُ كبتُها ومصادرتُها، وفي المقابلِ لا يُتركُ لها البابُ مفتوحاً على مِصراعيه لتُصبحَ الهمَّ الأكبرَ للإنسانِ وشُغلَه الشاغل، ولذلكَ كانَ الدينُ ضرورةً لترويضِ الغرائزِ وتهذيبِها حتّى لا تكونَ عائِقاً يحولُ بينَ الإنسانِ وبينَ الغاياتِ التي خُلقَ مِن أجلِها، ومِن هُنا لا يعدُّ الترفيهُ عن النفسِ منَ الخياراتِ الأصيلةِ في حياةِ الإنسان، كما لا يُعدُّ مَساراً صالِحاً يستنفذُ الإنسانُ عُمرَه مِن أجلِه، وإنّما هوَ مُجرّدُ استثناءٍ عارضٍ يلجأُ إليهِ الإنسانُ ليستريح َفيه أثناءَ مسيرِه الجاد، ويبدو أنَّ ذلكَ صريحُ بعضِ الرواياتِ التي أمرَت بالتخفيفِ عن النفسِ بينَ الحينِ والآخر خوفاً عليها منَ المللِ والتعب، فقد رويَ عن النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) قولُه: "روّحوا القلوبَ ساعةً بعدَ ساعة، فإنَّ القلوبَ إذا كلَّت عميَت"، ويقولُ الإمامُ عليّ (عليهِ السلام): "إنَّ للقلوبِ شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها مِن قبلِ شهوتِها وإقبالِها، فإنَّ القلبَ إذا أُكرهَ عَمي"، وعنهُ أيضاً (عليهِ السلام) قالَ: "إنَّ هذه القلوبَ تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائفَ الحِكم"، وقالَ الإمامُ الرّضا (عليهِ السلام): "إنَّ للقلوبِ إقبالاً وإدباراً، ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلَت بصُرَت وفهمَت، وإذا أدبَرت كلَّت وملّت، فخذوها عندَ إقبالِها ونشاطِها، واتركوها عندَ إدبارِها وفتورِها"

ويتّضحُ مِن لسانِ الرواياتِ أنَّ الغرضَ مِن ترويحِ القلوبِ هوَ الحفاظُ عليها منَ الكللِ والملل، وبهذا المعنى لا يكونُ الترفيهُ مقصوداً بذاتِه وإنّما مقصوداً مِن أجلِ إعادةِ النشاطِ للقلوب، وعليهِ فإنَّ الضابطةَ العامّةَ التي يمكنُ الارتكازُ عليها هيَ إباحةُ الترفيهِ ما لم يكُن لاهياً للإنسانِ عن أهدافِه التي خُلقَ مِن أجلِها، فكلُّ فعلٍ يكونُ مُزاحِماً أو مُعارِضاً لتلكَ الأهداف لا يجوزُ بحُكمِ أصالةِ الغاياتِ الكُبرى للإنسان، وبما أنَّ الدينَ هوَ الذي يُحدّدُ مسارَ الإنسان، وهوَ الذي يرسمُ أهدافَه في الحياة، فلابدَّ حينَها منَ الرجوعِ إليه لمعرفةِ ما هو مُباحٌ مِن وسائلِ الترفيه. 

ومنَ المُلاحظِ أنَّ القرآنَ لم يستخدِم كلمةَ ترفيه وإنّما استخدمَ بدلاً عَنها كلمتي اللعبِ واللهو، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ كلَّ فعلٍ لا يخدمُ غاياتِ الإنسانِ وأهدافَه الأساسيّةَ يُعدُّ ضرباً منَ اللهوِ واللعب، وقد جعلَ القرآنُ ذلكَ وَصفاً عامّاً لمُجملِ الحياةِ الدّنيا طالَما لم تقُم على الارتباطِ بالله تعالى، حيثُ قالَ: (اعلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُم وَتَكَاثُرٌ فِي الأَموَالِ وَالأَولَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَانٌ ۚ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ)، فقَد وصفَت الآيةُ بدقّةٍ كلَّ ما يعدُّ مِحوراً لاهتمامِ الإنسانِ في الحياةِ الدّنيا، ومنَ المُؤكّدِ أنَّ ذلكَ يُمثّلُ مصدرَ جذبٍ للإنسانِ بما هوَ إنسان، إلّا أنَّ الفرقَ بينَ المؤمنِ والكافر هوَ أنَّ المؤمنَ يجعلُ مِن ذلكَ وسيلةً إلى اللهِ تعالى، بينَما الكافرُ يجعلهُ غايةً في حدِّ ذاتِه، ولذلكَ ضربَت الآيةُ مثلاً بالكافرِ الذي يعجبُه الزرعُ بعدَ أن يهيجَ ويخضرَّ، ولكن سرعانَ ما تصدمُه الحقيقةُ عندَما يراهُ حُطاماً، فنهايةُ الدّنيا وزوالُها هيَ النهايةُ الطبيعيّةُ التي يلتفتُ لها المؤمنُ ولا يلتفتُ لها الكافر، ويبدو أنَّ الآيةَ ليسَت وصفاً خاصّاً بحالِ الكفّارِ وإنّما هيَ وصفٌ لحالِ الجميع، أي أنَّ الدّنيا محطّةٌ عابرةٌ تنتهي لا محالةَ إلى محطّةٍ نهائيّة، فمَن تعاملَ معَ الدّنيا بوصفِها غايةً يكونُ مصيرُه في الآخرةِ عذاباً شديداً، ومَن يتعاملُ مَعها بوصفِها وسيلةً لغايةٍ اسمى وهيَ رضوانُ اللهِ تعالى سيكونُ مصيرُه في الآخرةِ مغفرةً ورضواناً، وقد بيّنَت الآيةُ كِلا النتيجتينِ في قولِه: (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَانٌ)، ثمَّ ختمَت الآيةُ بتحذيرِ الجميعِ مِنَ الافتتانِ بالدّنيا، لأنّها ليسَت إلّا غروراً يخدعُ الإنسانَ عن أهدافِه الأساسيّة، (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ).

وقد أكّدَ القرآنُ على هذا المعنى في أكثرِ مِن آيةٍ، مثلَ قولِه تعالى: (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعقِلُونَ)، وقولِه تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ ۚ وَإِن تُؤمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤتِكُم أُجُورَكُم وَلَا يَسأَلكُم أَموَالَكُم)، وقولِه تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُم لَهوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا ۚ فَاليَومَ نَنسَاهُم كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَومِهِم هَـٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ). وغيرِ ذلكَ منَ الآياتِ التي تؤكّدُ على أنَّ كلَّ فعلٍ لا يمثّلُ مساراً جادّاً للإنسانِ يقعُ في خانةِ اللعبِ واللهو، أو كما يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام): (اللهو يفسدُ عزائمَ الجد)، ويقولُ أيضاً عليهِ السلام: (لا تُفنِ عُمرَك في الملاهي، فتخرجُ منَ الدّنيا بلا أمل)

وعليهِ يمكنُنا التأكيدُ على أنَّ المبدأ العامَّ في الحياةِ كونها خُلقَت للجدِّ وليسَ للعبِ واللهو، وحريٌّ بالمؤمنِ ألّا يُضيّعَ عُمرَه فيما لا يفيدُه في دُنياه وآخرتِه، ومعَ ذلكَ يكفي في أن يكونَ المؤمنُ مُلتزِماً أن يؤدّي ما عليهِ مِن واجباتٍ شرعيّة وأن ينتهي عن المُحرّمات، ومنَ المعلومِ أنَّ المُحرّماتِ محصورةٌ في عددٍ مُحدّدٍ بينَما المُباحاتُ لا يمكنُ حصرُها وعدُّها، وعليهِ يجوزُ للمؤمنِ أن يرفّهَ نفسَه بما يشاءُ مِن وسائلِ الترفيهِ طالما لم تكُن مُشتملةً على واحدةٍ منَ المُحرّماتِ الشرعيّة مثلَ أدواتِ الموسيقى والغناءِ والرقصِ وأدواتِ القمارِ وغيرِ ذلكَ منَ المُحرّمات.

وقد أكّدَ فُقهاءُ الشيعةِ في بحوثِهم الفقهيّةِ على عدمِ حُرمةِ اللهوِ على إطلاقِه واكتفوا بحُرمةِ ما وردَت فيهِ نصوصٌ بعينِها.

يقولُ الشيخُ الأنصاريّ في تعريفِ اللهوِ في كتابِ المكاسِب: "لكنَّ الإشكالَ في معنى اللّهو، فإنّه إن أُريدَ بهِ مُطلَقُ اللعبِ كما يظهرُ منَ الصحاحِ والقاموس، فالظاهرُ أنَّ القولَ بحُرمتِه شاذٌّ مُخالفٌ للمشهورِ والسيرةِ؛ فإنَّ اللعبَ هوَ الحركةُ لا لغرضٍ عُقلائي، ولا خلافَ ظاهِراً في عدمِ حُرمتِه على الإطلاق، نعم، لو خُصَّ اللّهو بما يكونُ عن بَطَرٍ وفُسّرَ بشدّةِ الفرحِ كانَ الأقوى تحريمُه، ويدخلُ في ذلكَ الرقصُ والتصفيق، والضربُ بالطشتِ بدلَ الدفّ، وكلُّ ما يفيدُ فائدةَ آلاتِ اللهو.."

ويضعُ الشيخُ كاشفُ الغطاء في أنوارِ الفقاهةِ ضابطةً للهوِ المُحرّم بقولِه: "اللهو الذي مِن شأنِه أن يُنسي ذكرَ اللهِ تعالى وعبادتَه ويُلهي عن اكتسابِ الخيرِ والرزقِ حرامٌ‌ سواءٌ كانَ بآلةٍ أو من دونِها كالرقصِ وبعضِ أنواعِ الصفقِ واقتناءِ بعضِ الطيورِ للّعبِ بها وصيدِ اللهو وهذا هوَ المفهومُ مِن ذمِّ اللّهوِ واللعبِ في الكتابِ والسنّة"

وقد خالفَ السيّدُ البروجردي في حُرمةِ الصيدِ بغرضِ اللعبِ واللهو حيثُ قالَ في معنى اللهوِ المُحرّم: "إنَّ حُرمةَ بعضِ أقسامِ اللهوِ وإن كانَت قطعيّةً، لكن لا يمكنُ الالتزامُ بحُرمةِ جميعِ أقسامِه، إذ المُحرّمُ منَ اللهوِ هو ما أوجبَ خروجَ الإنسانِ مِن حالتِه الطبيعيّةِ بحيثُ يوجدُ لهُ حالةُ سُكرٍ لا يبقى معها للعقلِ حكومةٌ وسلطنة، كالألحانِ الموسيقيّةِ التي تُخرِجُ مَن استمعَها منَ الموازينِ العقليّةِ وتجعلهُ مسلوبَ الاختيارِ في حركاتِه وسكناتِه، فيتحرّكُ ويترنّمُ على طبقِ نغماتِها وإن كانَ مِن أعقلِ الناسِ وأمتنِهم، وبالجُملةِ: المُحرّمُ منه ما يوجبُ خروجَ الإنسانِ منَ المتانةِ والوقارِ قهراً، و يوجدُ لهُ سُكراً روحيّاً تزولُ معَه حكومةُ العقلِ بالكليّة، ومنَ الواضحاتِ أنَّ التصيّدَ وإن كانَ بقصدِ التنزّهِ ليسَ مِن هذا القبيل"

وذكرَ السيّدُ الخُوئي في مصباحِ الفقاهةِ في ذيلِ حديثٍ عن الإمامِ عليّ (عليهِ السلام): (كلُّ ما ألهى عن ذكرِ اللّهِ فهوَ منَ المَيسر): "إنَّ كثيراً منَ الأمورِ يُلهي عن ذكرِ اللّهِ و ليسَ بميسرٍ، ولا بحرامٍ، وإلّا لزمَ الالتزامُ بحُرمةِ كثيرٍ منَ الأمورِ الدنيويّة، لقولِه تعالى (إِنَّمَا الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهوٌ) بل قد أطلقَ اللهو على بعضِ الأمورِ المُستحبّةِ في جُملةٍ منَ الرواياتِ كسباقِ الخيل، ومُفاكهةِ الإخوان، ومُلاعبةِ الرجلِ أهلَه، ومُتعةِ النساء، فإنّها منَ الأشياءِ المندوبةِ في الشريعة، ومعَ ذلكَ أطلقَ عليها اللهو، وتوهّمُ أنَّ الملاهي غيرُ المُحرّمةِ خارجةٌ عن الحديثِ توهّمٌ فاسد، فإنّه مُستلزِمٌ لتخصيصِ الأكثر، وهوَ مُستهجَن"

وذكرَ أنَّ الضرورةَ دلَّت على جوازِ اللهوِ في الجُملة، وكونِه منَ الأمورِ المُباحة، كاللعبِ بالسُّبحةِ أو اللحيةِ أو الحبلِ أو الأحجارِ ونحوِها، فلا يمكنُ العملُ بإطلاقِ هذه‌ الرواياتِ على تقديرِ صحّتِها، وقد أشَرنا إليهِ في مبحثِ حُرمةِ القمارِ وعليهِ فلابدَّ مِن حملِها على قسمٍ خاصٍّ منَ اللهوِ أعني الغناءَ ونحوَه، كما هوَ الظاهر، أو حملِها على وصولِ الاشتغالِ بالأمورِ اللاغيةِ إلى مرتبةٍ يصدُّ فاعلُه عن ذكرِ اللّه، فإنّه حينئذٍ يكونُ منَ المُحرّماتِ الإلهيّة، والحاصلُ: أنّه لا دليلَ على حُرمةِ اللهوِ على وجهِ الإطلاق"