ماحكم الزانية المحصنة في زمن الغيبة؟

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

هناكَ اختلافٌ بينَ الفقهاءِ حولَ إمكانيّةِ إقامةِ الحدودِ في عصرِ غيبةِ الإمامِ الحُجّة (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَه)، فقد نُقلَ عن ابنِ زهرةَ وابنِ إدريس قولُهما: إنَّ الحدودَ لا تجري في زمنِ الغيبة، وقد رفضَ السيّدُ الخوئيُّ هذا الرأيَ واعتبرَه مُخالفاً لمشهورِ الفقهاء حيثُ قال: (هذا هوَ المعروفُ والمشهورُ بينَ الأصحاب، بل لم يُنقَل فيهِ خلافٌ إلاّ ما حُكيَ عن ظاهرٍ ابنِ زهرة وإدريس مِن اختصاصِ ذلكَ بالإمامِ أو بمَن نصّبَه لذلكَ، وهوَ لم يثبُت، ويظهرُ منَ المُحقّقِ في الشرائعِ والعلاّمةِ في بعضِ كتبِـه التوقّف. 

ثمَّ يقول: ويدلُّ على ما ذكرناهُ أمران:

 الأوّلُ: انَّ إقامةَ الحدودِ إنّما شُرّعَت للمصلحةِ العامّةِ ودفعاً للفسادِ وانتشارِ الفجورِ والطغيانِ بينَ الناس، وهذا يُنافي اختصاصَه بزمانٍ دونَ زمان، وليسَ لحضورِ الإمامِ (عليهِ السلام) دخلٌ في ذلكَ قطعاً، فالحكمةُ المُقتضيةُ لتشريعِ الحدودِ تقضي بإقامتِها في زمانِ الغيبةِ كما تقضي بها زمانَ الحضور.

الثاني: انَّ أدلّةَ الحدودِ كتاباً وسُنّةً مُطلقةٌ وغيرُ مُقيّدةٍ بزمانٍ دونَ زمان، كقولِه سبحانَه‌ {اَلزَّانِيَةُ وَاَلزَّانِي فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلدَةٍ}، وقولِه تعالى‌َ: {اَلسَّارِقُ وَاَلسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيدِيَهُمَا}. وهذهِ الأدلّةُ تدلُّ على أنّهُ لابدَّ مِن إقامةِ الحدود، ولكنَّها لا تدلُّ على مَن هو المُتصدّيَ لإقامتِها ، ومنَ الضروريّ أنَّ ذلكَ لم يُشرَّع لكلِّ فردٍ مِن أفرادِ المُسلمينَ، فإنّه يوجبُ اختلالَ النظام، وأن لا يثبتَ حجرٌ على حجر، بل يستفادُ مِن عدّةِ رواياتٍ أنّه لا يجوزُ إقامةُ الحدِّ لكلِّ أحد.

مِنها: صحيحةُ داودَ بنِ فرقد، قالَ: سمعتُ أبا عبدِ اللَّه (عليهِ السلام) يقولُ: «إنَّ أصحابَ رسولِ اللَّه (صلّى اللَّهُ عليهِ وآله وسلّم) قالوا لسعدٍ بنِ عبادة: أرأيتَ لو وجدتَ على بطنِ امرأتِك رجُلاً ما كنتَ صانِعاً به؟ قالَ: كنتُ أضربُه بالسيف، قالَ: فخرجَ رسولُ اللَّه (صلّى اللَّهُ عليهِ وآله وسلّم) فقالَ: ماذا يا سعد؟ فقالَ سعد: قالوا: لو وجدتَ على بطنِ امرأتِك رجلاً ما كنتَ صانعاً به؟ فقلتُ: أضربُه بالسيف، فقالَ: يا سعدُ، فكيفَ بالأربعةِ الشهود؟ فقالَ: يا رسولَ اللَّه بعدَ رأي عيني وعلمِ اللَّه أن قَد فعل؟ قالَ: إي واللَّه بعدَ رأي عينِك وعلمِ اللَّه أن قَد فعل، إنَّ اللَّهَ قد جعلَ لكلِّ شيءٍ حدّاً، وجعلَ لمَن تعدّى‌َ ذلكَ الحدَّ حدّاً».

فإذَن لا بدَّ منَ الأخذِ بالمقدارِ المُتيقّنِ، والمتيقّنُ هوَ مَن إليهِ الأمر، وهوَ الحاكمُ الشرعي.

وتؤيّدُ ذلكَ عدّةُ رواياتٍ: مِنها: روايةُ إسحاقَ بنِ يعقوب، قالَ: سألتُ محمّداً بنَ عثمانَ العمري أن يوصلَ لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائلَ أشكلَت عليَّ، فوردَ التوقيعُ بخطِّ مولانا صاحبِ الزمان (عليهِ السلام): «أمّا ما سألتَ عنه أرشدكَ اللَّهُ وثبّتَك إلى أن قال: وأمّا الحوادثُ الواقعةُ فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثنا، فإنّهم حُجّتي عليكُم وأنا حُجّةُ اللَّه».

ومِنها: روايةُ حفصٍ بنِ غياث، قالَ: سألتُ أبا عبدِ اللَّه (عليهِ السلام) مَن يقيمُ الحدود: السلطانُ أو القاضي؟ «فقالَ: إقامةُ الحدودِ إلى مَن إليهِ الحُكم».

فإنّها بضميمةِ ما دلَّ على أنَّ مَن إليهِ الحُكمُ في زمانِ الغيبةِ هُم الفقهاءُ تدلُّ على أنّ إقامةَ الحدودِ إليهم ووظيفتهم.

وأمّا الاستدلالُ على عدمِ الجوازِ بما في دعائمِ الإسلامِ والأشعثيّاتِ عن الصادقِ (عليهِ السلام) عن آبائِه عن عليٍّ (عليهم السلام): «لا يصلحُ الحكمُ ولا الحدودُ ولا الجمعةُ إلّا بإمام».

ففيهِ: أنَّ ما في دعائمِ الإسلامِ لإرسالِه لم يثبُت. وأمّا الأشعثيّاتُ المُعبّرُ عنها بالجعفريّاتِ أيضاً فهيَ أيضاً لم تثبُت.

بيانُ ذلكَ: أنَّ كتابَ محمّدٍ بنِ محمّدٍ الأشعثِ الذي وثّقَه النجاشيُّ وقالَ: لهُ كتابُ الحجِّ ذكرَ فيهِ ما روَته العامّةُ عن جعفرٍ بنِ مُحمّد (عليهما السلام) في الحجِّ، وإن كانَ مُعتبراً إلّا أنّه لم يصِل إلينا ولم يذكُره الشيخُ في الفهرست، وهوَ لا ينطبقُ على ما هوَ موجودٌ عندَنا جزماً، فإنَّ الكتابَ الموجودَ بأيدينا مُشتملٌ على أكثرِ أبوابِ الفقه، وذلكَ الكتابُ في الحجِّ خاصّةً وفي خصوصِ ما روَته العامّةُ عن جعفرٍ بنِ مُحمّد (عليهما السلام).

وأمّا ما ذكرَه النجاشيُّ والشيخُ في ترجمةِ إسماعيلَ بنِ موسى بنِ جعفرٍ (عليهم السلام) مِن أنَّ له كُتباً يرويها عن أبيهِ عن آبائِه، مِنها: كتابُ الطهارةِ، إلى آخرِ ما ذكراه‌.

فهوَ وإن كانَ مُعتبراً أيضاً، فإنَّ طريقَهما إلى تلكَ الكتبِ هوَ الحسينُ بنُ عبيدِ اللَّه عن سهلٍ بنِ أحمدَ بنِ سهلٍ عن محمّدٍ بنِ مُحمّدٍ الأشعثِ عن موسى بنِ‌ إسماعيلَ بنِ موسى بنِ جعفرٍ عن أبيه إسماعيل عن أبيهِ عن آبائِهم (عليهم السلام) والطريقُ لا بأسَ به، إلّا أنَّ ما ذكراهُ لا ينطبقُ على ما هوَ موجودٌ بأيدينا، فإنَّ الموجودَ بأيدينا مشتملٌ على كتابِ الجهادِ وكتابِ التفسيرِ وكتابِ النفقاتِ وكتابِ الطبِّ والمأكولِ وكتابٍ غيرِ مُترجَم، وهذهِ الكتبُ غيرُ موجودةٍ فيما ذكرَه النجاشيُّ والشيخ، وكتابُ الطلاقِ موجودٌ فيما ذكَراهُ وغيرُ موجودٍ فيما هوَ عندَنا، فمنَ المُطمأنِّ به أنّهما مُتغايران، ولا أقلَّ مِن أنّه لم يثبُت الاتّحاد، حيثُ إنّه لا طريقَ لنا إلى إثباتِ ذلك، وأنَّ الشيخَ المجلسيَّ وصاحبَ الوسائلِ (قدّسَ سرّهُما) لم يرويا عن ذلكَ الكتابِ شيئاً ولم يصِل الكتابُ إليهما جزماً، بل الشيخُ الطوسيُّ نفسُه لم يصِل إليهِ الكتاب، ولذلكَ لم يروَ عنه في كتابيهِ شيئاً.

فالنتيجةُ: أنَّ الكتابَ الموجودَ بأيدينا لا يمكنُ الاعتمادُ عليهِ بوجه.

هذا كلُّه، مُضافاً إلى أنَّ الجُملةَ الاُولى منَ الروايةِ مقطوعةُ البُطلان، بل وكذا الجملةُ الثانية، بناءً على ما هوَ الصحيحُ والمشهورُ مِن جوازِ إقامةِ الجُمعةِ في زمانِ الغيبة، فلو صحَّت الروايةُ لزمَ التصرّفُ في مدلولِها وحملهُ على الوظيفةِ الأوّليّةِ، ولا يُنافي ذلكَ جوازُها لغيرِ الإمامِ بإذنِه الخاصِّ أو العامّ. قد تقدّمَ الكلامُ في ذلكَ في بابِ القضاء...إلى آخرِ كلامِه) (المنهاجُ: ج1، ص272)

ويقولُ صاحبُ الجواهر: «…وبأنَّ تعطيلَ الحدودِ يُفضي إلى ارتكابِ المحارِم، وانتشارِ المفاسِد، وذلكَ مطلوبُ التركِ في نظرِ الشارع؛ وبأنَّ المُقتضى لإقامةِ الحدِّ قائمٌ في صورتي حضورِ الإمامِ وغيبتِه، وليسَت الحكمةُ عائدةً إلى مُقيمِه قطعاً، فتكونُ عائدًة إلى مُستحقِّه أو إلى نوعٍ منَ المُكلَّفين، وعلى التقديرينِ لابدّ مِن إقامتِه مُطلقاً…» (جواهرُ الكلام: ج12: ص396).

ويستفادُ مِن ذلكَ أنَّ علّةَ تشريعِ الحدودِ وفلسفتَها قائمٌ وموجودٌ في عصرِ الغيبة، كما هوَ قائمٌ في عصرِ الحضور، وإنَّ تعطيلَها يؤدّي إلى نقضِ الغرضِ والإخلالِ في النظامِ الاجتماعيّ للإسلام، كما أنَّ أدلّةَ الحدودِ مُطلقةٌ ولا يمكنُ تقييدُها بزمنِ حضورِ الإمام. 

وعلى ذلكَ فإنَّ الفقيهَ الجامعَ للشرائطِ يمكنُه إقامةُ الحدودِ ولا يمنعُه مِن ذلكَ مانعٌ شرعي، فالحدودُ لا تُعطّلُ مِن جهةِ صلاحيّةِ الفقيه، وإنّما قد تُعطّلُ مِن جهةِ عدمِ قُدرةِ الفقيهِ إذا لم يكُن مبسوطَ اليد، فإذا كانَت المُجتمعاتُ أو الأنظمةُ السياسيّةُ الحاكمةُ لا تسمحُ بذلكَ ولا يكونُ الفقيهُ مبسوطَ اليدِ فحينَها يسقطُ التكليفُ الشرعيُّ مِن ذمّةِ الفقيه، بل في بعضِ الأحيانِ قد يتعثّرُ إقامةُ الحدِّ حتّى على الفقيهِ المبسوطِ اليد، كأن يتعارضَ هذا الحكمُ معَ ضرورةٍ أهمّ، مِن قبيل: تعرّضِ أصلِ الدينِ للخطر، ففي هذهِ الحالةِ يجوزُ للفقيهِ أن يقيمَ الحدَّ بشكلٍ غيرِ مُعلنٍ أو يعطّلَه مؤقّتاً.

وفي المُحصّلةِ حكمُ الزانيةِ المُحصَنةِ هوَ الرجمُ سواءٌ كانَ ذلكَ في زمنِ حضورِ الإمامِ أو في زمنِ غيبتِه، أمّا تنفيذُ هذا الحُكمِ فمُعلّقٌ بتوفّرِ المُقتضي وغيابِ المانع، الحالُ في ذلكَ حالُ الزانيةِ التي وقعَ مِنها الزّنا في عصرِ الإمامِ ولم تُقَم عليها الشهادةُ الشرعيّة، فلا يقامُ عليها الحدُّ في الدّنيا ويبقى عليها حسابُ الآخرة.