الايمان بالله بدون القران الكريم
كيف اجعل شخص يؤمن بالله دون اثبات من القرآن الكريم؟
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ المؤكّدِ أنَّ الإيمانَ باللهِ سابقٌ للإيمانِ بالقرآن، وعليهِ لا يتوقّفُ الإيمانُ بوجودِه تعالى على الإيمانِ بالقرآنِ أوّلاً، بل العكسُ هوَ الصحيح؛ وذلكَ لأنَّ مصدرَ الإيمانِ بالله هوَ العقلُ والفطرةُ التي جُبلَت على التسليمِ بوجودِ خالقٍ، والإيمانُ بالرسلِ وبالكتبِ السماويّةِ يأتي في مرحلةٍ مُتأخّرةٍ بعدَ إيمانِ الإنسانِ بالله، وقد بيّنَ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السلام) هذهِ الحقيقةَ بأروعِ بيانٍ عندَما قالَ له السائل: (فمِن أينَ أثبتَّ أنبياءً ورُسلاً؟ قالَ أبو عبدِ الله عليهِ السلام: إنّا لمّا أثبَتنا أنَّ لنا خالِقاً صانِعاً مُتعالياً عنّا وعن جميعِ ما خلق وكانَ ذلكَ الصانعُ حكيماً لم يجُز أن يُشاهدَه خلقُه ولا يلامسَهم ولا يلامِسوه ولا يباشرَهم ولا يباشروه ولا يحاجَّهم ولا يحاجّوه، فثبتَ أنَّ لهُ سفراءَ في خلقهِ وعبادِه يدلّونَهم على مصالحِهم ومنافعِهم وما بهِ بقاؤهم وفي تركِه فناؤهم، فثبتَ الآمرونَ والناهونَ عن الحكيمِ العليمِ في خلقِه وثبتَ عندَ ذلكَ أنَّ له مُعبّرينَ وهُم الأنبياءُ وصفوتُه مِن خلقِه حُكماءَ مؤدّبينَ بالحكمةِ مبعوثينَ بها غير مُشاركينَ للناسِ في أحوالهِم على مُشاركتِهم لهُم في الخلقِ والتركيب، مؤيّدينَ مِن عندِ اللهِ الحكيمِ العليمِ بالحكمةِ والدلائلِ والبراهين و الشواهدِ مِن إحياءِ الموتى وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ، فلا تخلو أرضُ اللهِ مِن حُجّةٍ يكونُ معهُ علمٌ يدلُّ على صدقِ مقالِ الرسولِ ووجوبِ عدالتِه).
وقد أكّدَت هذهِ الحقيقةَ أيضاً الأدعيةُ المأثورةُ عن أهلِ البيتِ (عليهم السلام) مثلَما جاءَ في كمالِ الدين عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام): (اللهمَّ عرِّفني نفسَك، فإنّكَ إن لم تُعرّفني نفسَك لم أعرِف نبيَّك، اللهمَّ عرّفني رسولَك فإنّكَ إن لم تُعرّفني رسولَك لم أعرِف حُجّتَك اللهمَّ عرّفني حُجّتَك فإنّكَ إن لم تُعرّفني حُجّتَك ضللتُ عن ديني) وعليهِ فإنّنا نعرفُ الرسولَ باللهِ ولا نعرفُ اللهَ بالرّسول، لأنَّ اللهَ أكثرُ ظهوراً مِن أيّ حقيقةٍ أخرى لكونِه قد تجلّى للخلقِ في كلِّ شيءٍ، فعَمِيَت عَينٌ لا تَراكَ عَلَيها رَقيباً، وَخَسِرَت صَفقَةُ عَبد لَم تَجعَل لَهُ مِن حُبِّكَ نَصيباً.
وعليهِ هناكَ الكثيرُ منَ الأدلّةِ العقليّةِ على وجودِ اللهِ تعالى، وقد تكفّلَ علماءُ الكلامِ والإلهيّاتِ ببيانِ العشراتِ مِنها بصورةٍ مُتقنةٍ ومُحكَمةٍ، وسوفَ نستعرضُ بشكلٍ مُختصرٍ بعضَ تلكَ الأدلّة.
الأوّلُ: بُرهانُ الصدّيقينَ
يتميّزُ هذا البرهانُ في أنّه لا يتّخذُ واسطةً لإثباتِ الخالق، وإنّما مِن خلالِ النظرِ إلى الوجودِ بما هوَ وجودٌ وبشكلٍ مباشرٍ يستنتجُ أنَّ هناكَ واجباً للوجوب، حيثُ لم ينطلِق مِن مُمكنٍ إلى الواجب، ولا منَ الحادثِ إلى المبدأ، ولا منَ الحركةِ إلى المُحرّك، بل في هذا البرهانِ يكونُ الحقُّ (الله) هوَ الحدُّ الوسطُ في البرهانِ لا غير.
ويتّضحُ هذا البرهانُ بإقامةِ بعضِ المُقدّمات، ويمكنُ تلخيصُها في الآتي
1- واقعيّةُ الأشياءِ منَ الأمورِ التي لا يصحُّ إنكارُها، أي لا يجوزُ التشكيكُ في كونِ أرضٍ وسماءٍ وما فيهما مِن مخلوقات.
2- هذه الواقعيّةُ إمّا أن ترجعَ إلى الوجودِ وإمّا أن ترجعَ للماهيّة، فعندَما نقولُ مثلاً الشجرةُ موجودةٌ، فهناكَ الماهيّةُ وهيَ الشجريّةُ وهناكَ الوجود، والشجريّةُ بما هيَ هي لا تكونُ وجوداً وإنّما تحتاجُ إلى الوجودِ الذي يخرجُها مِن طورِ العدم.
3- وعليهِ فإنَّ الوجودَ هوَ الأصيلُ والماهيّةُ هيَ اعتباريّةٌ.
4- وبحسبِ السيّدِ الطبطبائيّ إنَّ أصلَ الواقعيّةِ لا يقبلُ الزوال، وذلكَ لأنّه يلزمُ مِن فرضِ زوالِه ثبوتُه، والشيءُ الذي يلزمُ مِن فرضِ زوالِه ثبوتُه يستحيلُ قهراً زوالهُ ذاتاً، وإذا استحالَ زوالهُ ذاتاً، يكونُ ثبوتُه وتحقّقُ ذاتِه ضروريّاً، والضرورةُ الذاتيّةُ فلسفيّاً تعني الضرورةَ الأزليّة. فالمُتحصّلُ أنَّ في أصلِ الواقعيّةِ وجودُ واجبٍ بالذاتِ واحدٍ (واجبُ الوجودِ بالذات) واقعيٍّ على نحوِ الضرورةِ الأزليّة. فإذا نظَرنا إلى سائرِ الموجوداتِ نجدُ كلَّ واحدٍ مِنها إمّا أن يكونَ مسبوقاً بالعدمِ (الزّوال) أو مُلحقًا به. ويفهمُ مِن ذلكَ أن لا شيءَ مِنها هوَ الواقعُ المُطلَقُ والواجبُ بالذات بل الكلُّ مِنها يتّكئُ على ذلكَ الواجبِ الأزلي، وبذلكَ يثبتُ أنَّ وجودَ هذهِ الأشياءِ لابدَّ أن يكونَ مسبوقاً بوجودِ واجبٍ أي لا يحتاجُ إلى مُوجدٍ وهوَ اللهُ سُبحانَه وتعالى.
الثاني: برهانُ الوجودِ والإمكان، أو دليلُ الخلقِ والإيجاد:
وهوَ استدلالٌ يحكمُ بضرورةِ وجودِ اللهِ طالما مظاهرُ حدوثِ الكونِ ظاهرةٌ للعيان، فمنَ الواضحِ أنَّ كلَّ شيءٍ يحدثُ بعدَ أن لم يكُن، فمنَ الضروريّ حينَها أن يكونَ له سببٌ وفاعل، وهوَ استدلالٌ عقليٌّ يقينيّ لا يختلفُ فيه أصحابُ الفطرةِ الإنسانيّةِ السليمة. ويقومُ هذا البرهانُ على مُقدّمتينِ أساسيّتينِ:
الأولى: أنَّ الكونَ حادثٌ غيرُ قديمٍ ويثبتُ ذلكَ بدليلِ العقلِ والعِلم، ولا يجادلُ في ذلكَ عاقل..
الثانيةُ: قانونُ العِلّةِ والمعلولِ والسببِ والمُسبّبِ، وهوَ منَ القوانينِ المنطقيّةِ الثابتةِ بالبداهة.
وحتّى يكتملَ الاستدلالُ لابدَّ مِن إثباتِ بطلانِ التسلسلِ والدورِ وهوَ ما تكفّلَ بهِ علمُ المَنطق، فالعللُ لا يمكنُ أن تكونَ غيرَ مُتناهيةٍ، والحادثُ لا يمكنُ أن يُوجِدَ نفسَه، وبمُقتضى الجمعِ بينَ المُقدّمتينِ تصبحُ النتيجةُ الحتميّةُ أنَّ الكونَ الحادثَ لابدَّ له مِن إلهٍ أحدثَه.
الثالثُ: برهانُ النّظم، أو دليلُ الإحكامِ والإتقان، أو دليلُ التصميمِ
يُستدلُ بهذا الدليلِ على ضرورةِ وجودِ اللهِ تعالى، وذلكَ لِما في العالمِ منَ الإتقانِ في الخِلقةِ والإحكامِ في تفاصيلِه الدقيقةِ المُذهلة، ولتحقّقِ ذلكَ لابدَّ مِن فاعلٍ يتّصفُ بالقُدرةِ والحكمةِ وسعةِ العلم. وبالتالي دليلُ الإتقانِ لا يتضمّنُ فقط الإقرارَ بوجودِ خالقٍ بل يتضمّنُ كذلكَ اتّصافَه بصفاتِ العلمِ والإرادةِ والحِكمة.
ويقومُ البرهانُ على مُقدّمتينِ:
الأولى: وهيَ رصدُ النظامِ الدقيقِ الذي يكتنفُ هذا الكون، سواءٌ كانَ رصداً حسيّاً بسيطاً أو كانَ رصداً علميّاً تجريبيّاً، كما هوَ حالُ العلومِ الطبيعيّةِ التي تتحدّثُ بدهشةٍ عن دقّةِ هذا النظام، وهناكَ دراساتٌ علميّةٌ مُفصّلةٌ في شتّى الحقولِ والمجالاتِ تتحدّثُ عن هذا النظامِ الكوني، ومِن هذهِ الزاويةِ تدخلُ الأدلّةُ العلميّةُ في إثباتِ وجودِ اللهِ تعالى، وعليهِ يقومُ البرهانُ على بداهةِ هذا النظامِ في الكون.
الثانيةُ: دليلُ العقلِ على أنَّ كلَّ معلولٍ لابدَّ له مِن علّة، فبعدَ التأكيدِ على وجودِ هذا النظامِ والتسليمِ به، يأتي العقلُ ليحكمَ بضرورةِ وجودِ مُنظّمٍ لهذا النظام؛ لأنّهُ منَ المُستحيلِ عقلاً القولُ بوجودِه عن طريقِ الصّدفة.
وهكذا تكتملُ الشروطُ الأساسيُّة للبُرهان، وحتّى يكونَ مُلزِماً للآخرِ لابدَّ مِن إبطالِ التسلسلِ والدورِ كما أشَرنا سابقاً، وعليهِ يصبحُ برهانُ النظمِ دليلاً مُحكَماً في إثباتِ وجودِ الخالقِ سُبحانَه وتعالى.
وهكذا الحالُ في بقيّةِ الأدلّةِ فإنّها ترتكزُ جميعُها على بداهةِ قانونِ العِلّةِ والمعلول والسببِ والمُسبّب، فلا يُعقلُ أبداً أن يكونَ هذا الكونُ قد أتى مِن فراغ، وقد ساعدَت البحوثُ والاكتشافاتُ العلميّةُ على تمتينِ البحوثِ الفلسفيّةِ وجعلِها أكثرَ قُرباً مِن وعي الإنسانِ المُعاصر، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ إثباتَ وجودِ إلهٍ خاضعٍ لاشتراطاتِ البحوثِ العلميّةِ الطبيعيّة. وفوقَ كلِّ ذلكَ يظلُّ دليلُ الفطرةِ والوجدانِ هوَ الدليلَ الأقربَ فاللهُ فطرَ الجميعَ على معرفتِه فكلُّ إنسانٍ طبيعيٍّ يشعرُ بوجودِه تعالى في عُمقِ شعورِه ووجدانِه، قالَ تعالى: (قَالَت رُسُلُهُم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ)
اترك تعليق