ماهو الفرق بين العقل الاداتي والعقل الموضوعي عند لالاند

الجوابُ:

يبدو أنَّ مُصطلحَ العقلِ الأداتيُّ عُرفَ ضمنَ مدرسةِ فرانكفورت التي بلورَت نظريّةً نقديّةً تقومُ على نقدِ العقل، وقد اهتمَّت الفلسفةُ الألمانيّةُ بذلكَ منذُ نيتشه الذي قامَ بنقدِ العقلِ والأخلاقِ والميتافيزيقا، والسؤالُ الذي يفرضُ نفسَه هوَ أيُّ عقلٍ تعملُ هذهِ الاتّجاهاتُ على إقصائِه؟

العقلُ الذي عملَت هذهِ الاتّجاهاتُ على نقدِه وتحطيمِه هوَ ما أسماهُ هوركهيمر (بالعقلِ الأداتي)، وبحسبِ مدرسةِ فرانكفورت هوَ قدرةُ الإنسانِ على التصنيفِ والاستنتاج، وهوَ لا يعدو أن يكونَ نشاطاً تجريديّاً يقومُ به الإنسانُ حينَما يمارسُ عمليّةَ التفكير، وأهمُّ ما يُميّزُ هذا العقلَ هوَ تركيزُه واهتمامُه بالمنهجِ بعيداً عن فحوى الموضوعِ الذي يتمُّ دراستُه والتفكيرُ فيه، أي هوَ مُجرّدُ أداةٍ ووسيلةٍ لتحصيلِ معرفةٍ بالموضوعات، ويبدو أنَّ هذا العقلَ هوَ الذي انتشرَ في القرنِ العشرين، وهوَ الذي قادَ أوروبا إلى ما حقّقَته مِن تقدّمٍ تكنولوجي، ولقد حلَّ هذا العقلُ الذاتيُّ البرغماتي محلَّ العقلِ الموضوعي أو المعياري، وهوَ العقلُ الذي يجبُ إعادةُ الاعتبارِ له، فقد كانَ للعقلِ الموضوعيّ السيادةُ على مدى التاريخ، حيثُ كانَ جميعُ الفلاسفةِ لا يختصرونَ العقلَ في جانبِ التفكيرِ التجريدي، وإنّما يتصورونَه بوصفِه منطِقاً ونظاماً منَ العلاقاتِ القائمةِ بينَ الأشياءِ في الطبيعة كما بينَ الأفرادِ في المُجتمع، فهوَ عقلٌ مُستقلٌّ عن الإنسانِ الفردِ ولا يصبغُ الأشياءَ بصبغتِه الخاصّةِ وإنّما يراها كما هيَ في حقيقتِها وواقعِها، وعليهِ فإنَّ القولَ بالعقلِ الموضوعيّ لا يعني إلغاءَ العقلِ الأداتي، وإنّما يعني النظرَ إليه بوصفِه تعبيراً محدوداً وجُزئيّاً للمعقوليّةِ الكُلّيّةِ التي مِنها تُستمدُّ المعاييرُ الخاصّةُ بمجموعِ الأشياءِ والطبيعة. 

أمّا أندريه لالاند فهوَ فيلسوفٌ فرنسيٌّ له كتابٌ بعنوان (العقلُ والمعايير) وقد كتبَه ردّاً على الفلاسفةِ التجريبيّينَ الذينَ يذهبونَ إلى أنَّ المعقولاتِ الرئيسيّةَ مُستمدّةٌ منَ التجربة، وهيَ في نظرِه إنكارٌ لقيمةِ العقل، ولذلكَ يُفرّقُ لالاند بينَ العقلِ المُكوَّنِ والعقلِ المُكوِّنِ، فالمعقولاتُ المُستفادةُ منَ التجربةِ تعودُ إلى مبدأ ثابتٍ وهوَ العقلُ المكوَّنُ، أمّا مجموعةُ (المبادئِ) أو (المعقولاتِ) فتعودُ إلى العقلِ المُكوِّن، فالأوّلُ ثابتٌ، وهوَ المبدأُ الواضحُ للقيمِ والمعاييرِ والقواعد، والثاني قابلٌ للتغيّرِ، وهوَ العقلُ الذي يشيرُ إليهِ التجريبيّونَ حينَ يتحدّثونَ عن التغيّرِ الدائمِ لمفاهيمِ المَعقولات، ومِن ثمَّ ينكرونَ قيمةَ العقل.

وفي مقالٍ عن مفهومِ العقلِ عندَ لالاند وصداهُ عندَ الجابريّ لجادِ الكريم جباعي يعرضُ مفهومَ العقلِ عندَ لالاند، حيثُ يقول: (عرّفَ لالاند العقلَ بأنّه «قوّةٌ عظيمةٌ للعمل، آثارُها باديةٌ لنا، ولكنّها لا تتكشّفُ إلّا في فعلِها الذي تمارسُه فيما تعملُ فيه، وفي نجاحِ محاولاتِها أو فشلِها. وفي وسعِنا أن نجعلَ العقلَ يُطبّقُ على نفسِه التحليلَ التراجعي، الذي يُفسّرُ هوَ الطبيعةَ بوساطتِه، وأن يبحثَ عمّا هوَ مُشترَكٌ في تطبيقاتِه المُتباينة، كما في تعميماتِ المُستوى المتوسّطِ الذي بدأت تميلُ إليه أكثرُ العقولِ تأمّلاً لتفكيرِها». وهذا هوَ العقلُ المُنشِئ أو المُكوِّن، «الذي يسوّي ديكارت بينَه وبينَ البداهةِ السديدة، والذي يرمي إليهِ مَن يقول: إنَّ فُلاناً على حقٍّ، ... والإيمانُ بالعقل، بهذا المعنى، هوَ الاعترافُ بأنَّ لدى كلِّ امرئٍ قدرةً حقيقيّةً (أو عينيّةً) على إدراكِ أنَّ قضايا مُعيّنةً صائبةٌ أو خاطئة، وتقدير فروقِ الاحتمالات، وتمييز الأفضلِ والأسوأ. ولا يتمُّ هذا بصورةٍ تأثّريّةٍ فحسب، بضربٍ منَ الرأي الانطباعيّ... بل في صورةِ أفكارٍ عامّةٍ وتوكيداتٍ واعية، نُطلِقُها بغيرِ لبسٍ، وتفرضُ ذاتَها على الأذهان في علاقاتِها العقليّةِ ما بقيَت صادقةَ النيّة، فتضعُها فوقَ المُناقشة. وهيَ منطوقاتٌ غيرُ كاملةٍ بطبيعةِ الحال، شأنُ كلِّ ما هوَ بشري، بيدَ أنّها قابلةٌ لهذا الضربِ منَ الدقّةِ الذي نتطلّبُه في الصيغِ القضائيّةِ الجيّدة، أو في القوانينِ المُتعلّقةِ بالظواهرِ الطبيعيّة.

والعملُ بمُقتضى العقلِ (أو العملُ الرشيد) (هوَ) ألّا يكونَ حافزُكَ الأوحدُ للفعلِ اندفاعاتٌ ومشاعر؛ بل تكونُ حيثُ تستطيعُ تفسيرَ أفعالِك لمَن يقدرونَ على فهمِها، مُستعيناً بأفكارٍ وقواعدَ يُقرّونَ هُم أيضاً حُجِّيّتَها. فالعقلُ، إذاً، عنصرٌ جوهريٌّ مِن عناصرِ الشخصيّةِ الخُلُقيّة، مِن حيثُ هيَ غيرُ قابلةٍ للتفسيرِ بالمصالحِ والانفعالاتِ والأهواءِ الشخصيّة».

وعرّفَ العقلَ المُنشأ أو المُكوَّن، بقوله: «العقلُ المُنشأ (هوَ) العقلُ، على نحوِ ما يوجدُ في لحظةٍ مُعيّنة. وعندَما نتكلّمُ على هذا العقلِ المُنشأ بصيغةِ المُفرَدِ يجبُ أن يُفهمَ مِن ذلك أنَّ الأمرَ يتعلّقُ بهذا العقلِ في حضارتِنا وفي عصرِنا. وإذا أرَدنا أن نكونَ غايةً في الدقّةِ وجبَ علينا أن نقولَ: في مِهنتنا، لأنَّ هذا العقلَ ليسَ هوَ تماماً لدى الرسّامينَ ولدى العُلماء؛ بل ولا لدى الفيزيائيّينَ والمُشتغلينَ بعلمِ الحياة. وعندَ الانتقالِ مِن بيئةٍ إلى أخرى نضطرُّ، في كثيرٍ منَ الأحيان، إلى تفسيرِ أو إثباتِ ما هوَ جليٌّ في غيرِ تلكَ الحالةِ بنفسِه.

ولكنَّ هذا العقلَ، على ما هوَ عليه في كلِّ لحظة، لهُ سمتانِ عظيمتا الأهميّةِ: فهوَ مِن جهةٍ يؤكّدُ تماسكَ الجماعةِ (المتفاوتةِ الحَجم) التي تنتسِبُ إليه، ولكنّهُ يُؤكّدُ هذا التماسكَ بطريقةٍ مُختلفةٍ تماماً عن الطريقةِ التي تنجمُ عن "تقسيمِ العملِ الاجتماعي"؛ بل مُضادّةٍ لها». إنَّ طريقةَ التماسكِ التي يتّبعُها العقلُ المُنشأ ترمي إلى إيجادِ "أنا آخر" في كلِّ كائنٍ منَ الكائناتِ التي تُوحّدُ (هذهِ الطريقةُ) بينَها)

ونفهمُ مِن ذلكَ أنَّ لالاند يتحدّثُ عن العقلِ بوصفِه بديهيّةً وملكةً للحُكمِ والتقديرِ مُتساويةً لدى البشر، كما يتحدّثُ عن مُنتجاتِ عقولِ الأفرادِ عندَما تُصبِحُ ثقافةً عامّةً مِن خلالِ التواصلِ والتفاعلِ والتبادلِ والتداول، وذلكَ وهوَ العقلُ المُنشأ أو العقلُ المُكوَّنُ الذي يُعدُّ عامِلاً مِن عواملِ تماسكِ الجماعة.