أريد تفصيلا من رأي الشيعة في معنى القضاء والقدر

الجوابُ:

ركّزَت رواياتُ أهلِ البيتِ في موضوعِ القضاءِ والقدرِ على كونِ اللهِ فاعلاً مُختاراً، له مشيئةٌ ماضيةٌ وإرادةٌ قاهرة، ولم نجِد لديهم روايةً واحدةً تنسبُ للهِ العجزَ عن تبديلِ وتغييرِ ما قدّرَه. فمثلاً جاءَ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) أنّه قالَ في قولِ اللهِ عزَّ وجل: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ﴾: لم يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا: قد فرغَ منَ الأمرِ فلا يزيدُ ولا ينقص، فقالَ اللهُ جلَّ جلالهُ تكذيباً لقولِهم: ﴿غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَل يَداهُ مَبسُوطَتانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشاءُ﴾، ألم تسمَع اللهَ عزَّ وجل يقول: ﴿يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾)

وقد ارتبطَ مبحثُ القضاءِ والقدر مع مبحثِ (البَداء) بحيثُ لا يمكنُ فهمُ أحدِهما بمعزلٍ عن الآخر، والمقصودُ منَ البَداءِ في المُعتقدِ الشيعيّ هو (الإنشاء) وليسَ الظهور، فهوَ إنشاءٌ بعدَ إنشاء وإرادةٌ بعدَ إرادة، بمعنى أنَّ للهِ مشيئةً ماضيةً وإرادةً مُستمرّة: ﴿للهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ﴾، أي للهِ الأمرُ مِن قبلِ الخلقِ وبعدَ الخلق، ومِن قبلِ الإرادةِ ومِن بعدِ الإرادة، ومِن قبلِ التقديرِ وبعدَ التقدير...، فمشيئتُه لا تُحدُّ وإرادتُه لا تُقهر، حتّى ولو بإرادةٍ سابقة.

والناظرُ إلى طبيعةِ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمخلوق، يجدُ أنَّ اللهَ يُجري الأمورَ بالأسباب، أي أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى يعلِّقُ وقوعَ حدثٍ مُعيّنٍ على شروطٍ مُعيّنة وظروفٍ خاصّة، كما الحاصلُ في نَسخِ بعضِ الآياتِ الكريمةِ التي راعَت واقعاً معيّناً، فبدَّلها اللهُ بعدَ تغيّرِ هذا الواقعِ، فلو كانَت إرادةُ اللهِ واحدةً وأقدارَهُ لا تتغيّر، كيفَ يكونُ قد أرادَ الحُكمَ الأوّلَ ثمَّ بدّلَه بحُكمٍ آخر وبإرادةٍ جديدة؟، قالَ تعالى: ﴿ما نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنها أَو مِثلِها﴾، وقالَ تعالى: ﴿يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾، وقالَ: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾، وقالَ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاستَجَبنا لَهُ فَكَشَفنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيناهُ أَهلَهُ وَمِثلَهُم مَعَهُم رَحمَةً مِن عِندِنا وَذِكرى لِلعابِدِينَ﴾، وقالَ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاتَذَرنِي فَرداً وَأَنتَ خَيرُ الوارِثِينَ * فَاستَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يَحيى وَأَصلَحنا لَهُ زَوجَهُ إِنَّهُم كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيراتِ وَيَدعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾، وقال: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ﴾. 

وغيرُها كثيرٌ مِن آياتِ الذكرِ الحكيم، التي تكشفُ أنَّ اللهَ يُغيِّرُ ويبدِّل، ويعلِّقُ ذلك بفعلِ العبد، فاللهُ لا يغيّرُ واقعَ قومٍ مِن حالٍ إلى حال أحسن، إلّا إذا هُم غيَّروا ما بأنفسِهم، وأيّوبُ لم يكُن اللهُ ليكشفَ عنه السّوءَ لو لم يدعُ الله، والدعاءُ هوَ فعلُ العبد وهوَ سببٌ في كشفِ السّوء، وكذلكَ زكريّا ما رُزقَ الولدَ إلّا بدعائِه وطلبِه وإلحاحِه على الله، وقد فسّرَ الإمامُ الصّادق (ع) قولَهُ تعالى ﴿يَمحُو اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثبِتُ﴾ بقولِه: (وهل يمحو اللهُ إلاّ ما كان؟ وهل يثبتُ إلاّ ما لم يكُن؟).

وقد جاءَ في الرواياتِ أنَّ صلةَ الرحمِ تزيدُ في العُمر، (صلةُ الأرحامِ تُزكّي الأعمالَ وتنمّي الأموالَ وترفعُ البلوى وتيسّرُ الحساب وتُنسئُ في الآجال)، بمعنى أنَّ اللهَ يُقدّرُ للإنسانِ منَ العُمرِ أربعينَ عاماً مثلاً، ولكنّه يصلُ رحمَهُ فيمحو الأربعينَ ويكتبُ له عُمراً أطولَ حسبَ حكمتِه البالغة، وقد جاءَ الحديث: (ما بعثَ اللهُ- عزّ وجلّ- نبيّاً حتّى أخذَ عليه ثلاثَ خِصال: الإقرارُ بالعبوديّة، وخلعُ الأنداد، وأنُّ اللهَ يقدّمُ ما يشاءُ ويؤخّرُ ما يشاء) 

وبذلكَ كلّه يتّضحُ أنَّ البَداءَ مرادفٌ للمحو، والنسخِ، والتغييرِ، الذي نطقَ به القرآنُ وجاءَت به السنّة، وهوَ أنَّ اللهَ فاعلٌ مختار، يقدِّمُ ما يشاءُ ويؤخِّر، وليسَ معناهُ تغيُّر علمِ اللهِ سبُحانه، أو نسبةُ الجهلِ إليه، تعالى عن ذلكَ علوّاً كبيراً، يقولُ الإمامُ الصّادق عليهِ السلام: (إنَّ اللهَ لم يَبْدُ لهِ مِن جهل)

 هذا هوَ الأساسُ الذي يبتني عليه الوعيُ الشيعيُّ في موضوعِ القضاءِ والقدر فيما يتعلّقُ بفعلِ اللهِ تعالى، وما أجراهُ مِن مقاديرَ على خلقِه. 

أمّا القضاءُ والقدر على مُستوى فعلِ العبد، وهوَ مثارُ جدلٍ واسعٍ بينَ المدارسِ الإسلاميّة، التي انحصرَت رؤيتُها بينَ مُجبّرةٍ ومفوّضة، فهناكَ مَن قالَ بالجبرِ اعتماداً على كونِ اللهِ هوَ الفاعلَ ولا فاعلَ سواه، وإنَّ الإنسانَ وما يفعلُ هوَ خلقُ الله، ففراراً منَ التفويضِ وقعوا في الجبر، أمّا المُعتزلة فقد

فرّوا منَ الجبرِ لكنّهم وقعوا في التفويض، وعليهِ فإنَّ الخلافَ في فعلِ العبد يدورُ بينَ محظورين: الجبرُ أو التفويض، ولكلِّ واحدٍ مِنهما لوازمُ تُنافي أصلَ العقيدة.

وما جاءَ في أحاديثِ أهلِ السنّةِ في بابِ القضاءِ والقدر صريحٌ في الجبرٓ وأنَّ كلَّ أفعالِ العباد تجري على أقدارٍ سابقة، ولا وجودَ لروايةٍ واحدةٍ يُفهَمُ مِنها خلافُ ذلك، ومِن هذهِ الرواياتِ على سبيلِ المثال: في الاعتقادِ للبيهقيّ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها أُمِّ المؤمنين، أنّها قالت: أُتيَ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بصبيٍّ منَ الأنصارِ ليُصلّي عليه قالت: فقلتُ: يا رسولَ الله طوبى لهذا، عصفورٌ مِن عصافيرِ الجنّة، لم يعمَل سوءاً ولم يَدرِه، فقالَ: أوَ غيرَ ذلكَ يا عائشة، إنَّ اللهَ خلقَ الجنّة، وخلقَ لها أهلاً، خلقَها لهم وهُم في أصلابِ آبائِهم، وخلقَ النار، وخلقَ لها أهلاً، خلقَها لهُم وهُم في أصلابِ آبائهم).

وروى البخاريُّ عن زيدٍ بنِ وهب، عن عبدِ الله قالَ: حدّثنا رسولُ الله (ص): (.. إلى أن يقول- في موضوعِ الجنين في بطنِ أمّه- ثمَّ يبعثُ اللهُ ملَكاً فيؤمَرُ بأربع: رزقه وأجله وشقيٌّ أو سعيد، فواللهِ إنَّ أحدَكم- أو الرجلُ- يعملُ بعملِ أهلِ النار حتّى ما يكونَ بينَه وبينَها غيرَ باعٍ أو ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ الجنّةِ فيدخلها، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنّة حتّى ما يكونَ بينَه وبينَها غيرَ ذراعٍ أو ذراعين، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعملِ أهلِ النار فيدخلها).

وروى مسلمٌ عن سراقةَ بنِ مالك، أنّه قال: (يا رسولَ الله، بيّن لنا دينَنا كأنّا خُلقنا الآن، فيمَ عملُ اليوم؟ أفي ما جفُّت بهِ الأقلامُ وجرَت به المقادير؟ أم فيما يُستقبَل؟، قالَ: لا، بل فيما جفَّت بهِ الأقلامُ وجرَت به المقادير، قالَ: ففيمَ العمل؟ قال: اعملوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلقَ له، وكلُّ عاملٌ بعملِه).

وغيرُ ذلكَ منَ الأخبارِ الدالّةِ على كونِ الإنسانِ يسيرُ في الحياةِ وفقاً لِما قُدّرَ له قبلَ ولادتِه، وهذا خلافُ رواياتِ أهلِ البيتِ التي نفَت الجبرَ كما نفَت التفويض، ففي روايةِ الفضلِ بنِ سهلٍ سألَ الرّضا عليهِ السلام بينَ يدي المأمون فقالَ: يا أبا الحسنِ الخلقُ مجبورون؟ فقالَ: اللهُ أعدلُ مِن أن يجبرَ خلقَه ثمَّ يعذّبهم، قالَ: فمُطلَقون؟ قالَ: اللهُ أحكمُ مِن أن يهملَ عبدَه ويكلَه إلى نفسِه.

روى الكُليني عن أبي جعفرٍ وأبي عبدِ الله عليهما السلام، قالا: (إنَّ اللهَ أرحمُ بخلقِه مِن أن يُجبرَ خلقَه على الذنوبِ ثمَّ يعذّبَهم عليها، واللهُ أعزّ مِن أن يريدَ أمراً فلا يكون، قالَ: فسُئلا عليهما السلام هل بينَ الجبرِ والقدرِ منزلةٌ ثالثة؟ قالا: نعَم أوسعُ مِن ممّا بينَ السّماءِ والأرض).

وعن هشام بنِ الحكم قالَ: سألَ الزنديقُ أبا عبدِ الله عليهِ السلام فقالُ: أخبرني عن اللهِ عزَّ وجل، كيفَ لم يخلُق الخلقَ كلّهم مُطيعينَ موحِّدين، وكانَ على ذلكَ قادراً؟ قالَ عليهِ السلام: لو خلقَهم مُطيعينَ لم يكُن لهم ثوابٌ؛ لأنَّ الطاعةَ إذا ما كانَت فعلهم لم تكُن جنّةٌ ولا نار، ولكن خلقٌ خلقَه فأمرَهم بطاعتِه، ونهاهُم عن معصيتِه، واحتجَّ عليهم برسلِه، وقطعَ عذرَهم بكتبِه، ليكونوا هُم الذينَ يُطيعونَ ويعصون، ويستوجبونَ بطاعتِهم له الثواب، وبمعصيتِهم إيّاه العقاب، قالَ (الزنديق): فالعملُ الصّالحُ منَ العبدِ هوَ فعله، والعملُ الشرُّ منَ العبدِ هوَ فعله؟ قالَ: العملُ الصالح، العبدُ يفعلهُ واللهُ بهِ أمرَه، والعملُ الشر، العبدُ يفعلهُ واللهُ عنهُ نهاه; قالَ: أليسَ فعلَهُ بالآلةِ التي ركّبها فيه؟ قالَ: نعم، ولكن بالآلةِ التي عملَ بها الخير، قدرَ بها على الشرِّ الذي نهاهُ عنه، قالَ: فإلى العبدِ منَ الأمرِ شيء؟ قالَ: ما نهاهُ اللهُ عن شيءٍ إلّا وقد علمَ أنّه يطيقُ تركَه، ولا أمرَهُ بشيءٍ إلّا وقد علمَ أنّه يستطيعُ فعلَهُ، لأنّه ليسَ مِن صفتِه الجورُ والعبثُ والظلمُ وتكليفُ العبادِ ما لا يطيقون، قالَ: فمَن خلقَهُ اللهُ كافراً يستطيعُ الإيمانَ وله عليهِ بتركِه الإيمانَ حُجّة؟ قالَ عليهِ السلام: إنَّ اللهَ خلقَ خلقَهُ جميعاً مُسلمين، أمرَهم ونهاهم، والكفرُ اسمٌ يلحقُ الفعلَ حينَ يفعلُهُ العبد، ولم يخلُق اللهُ العبدَ حينَ خلقَهُ كافراً، إنّه إنّما كفرَ مِن بعدِ أن بلغَ وقتاً لزمَتهُ الحُجّةُ منَ الله، فعُرضَ عليهِ الحقُّ فجحدَه، فبإنكارِه الحقَّ صارَ كافراً، قالَ الزنديق: فيجوزُ أن يُقدّرَ على العبدِ الشرَّ، ويأمرُهُ بالخير وهوَ لا يستطيعُ الخير أن يعملَه ويعذّبَه عليه؟ قالَ عليهِ السلام: إنّه لا يليقُ بعدلِ الله ورأفتِه أن يقدّرَ على العبدِ الشرَّ ويريدَهُ منه، ثمَّ يأمرُه بما يعلمُ أنّه لا يستطيعُ أخذَه، والإنزاعَ عمّا لا يقدرُ على تركِه، ثمَّ يعذّبُه على تركِ أمرِه الذي علمَ أنّه لا يستطيعُ أخذَه).

وغيرُ ذلكَ منَ الأخبارٓ الدالّةِ على مسؤوليّةِ الإنسانِ عن فعلِه مِن غيرِ جبرٍ أو تفويض، وللوقوفِ على تفصيلٍ أكثر يمكنُ الرجوعُ إلى مقالٍ تمَّ نشرُه في مركزِ الرصدِ بعنوانِ القضاءِ والقدر ومقالٍ آخر بعنوانِ البداء.