وراثة الإمام المهدي (ع) للأرض

السؤال: الآية الكريمة: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105] تشير إلى وعد الله تعالى أنّ الأرض ستؤول إلى عباده الصالحين؛ والسؤال: هل هذه الآية تتعلّق بمجيء الإمام المهديّ، حيث يُعتبر من الصالحين الذين سيقودون الأمّة نحو العدالة ويحقّقون الوعد الإلهيّ في وراثة الأرض؟.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أخي السائل الكريم أنّ تصريح القرآن الكريم بوراثة الصالحين للأرض لم يكن مقصوراً على هذه الآية فقط، بل هنالك عدّة آياتٍ أُخر صرّحت بذلك، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ، وكذا قوله تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، وأيضاً قوله جلّ وعلا: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128]؛ وحينئذٍ فما يمكن استفادته من إحدى هذه الآيات لابدّ وأن يكون مستفاداً من جميعها؛ وذلك لوحدة موضوعها الذي تناولته، وهو (وراثة الصالحين للأرض) فإذا عرفت ذلك فإنّ الإجابة عمّا جاء في سؤالكم تتوقّف على بيان بعض المقدّمات المهمّة:

المقدّمة الأولى: الذي يستفاد من مجموع الآيات المذكورة آنفاً أنَّ المراد من الأرض هو هذا الكوكب الذي نعيش عليه؛ ذلك لوجود قرينتين في الآيات تدلّان على ذلك:

إحداهما: مفهوم الوراثة ومعناها، وهو انتقال الشيء الموروث من شخصٍ سابقٍ إلى آخر لاحق، قال المصطفويّ - في مادة ورث -: (والتحقيق: أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو انتقال شيء - جزءاً أو كلَّا - من شخصٍ أو موضوعٍ انقضى حياته ، إلى آخر ، مادّيّاً أو معنويّاً. فالوارث من انتقل اليه وصار صاحب ميراث. والموروث من انتقل منه بعد انقضاء أجله. والميراث ما ينتقل ويكون وسيلةً لتحقّق الوراثة من شيءٍ مادّىٍّ كالمال أو معنويٍّ كالعلم والمقام) [التحقيق في كلمات القرآن ج13 ص78].

والأخرى: قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ فإنّه لا كفر في الجنّة بعد دخولها كما لا يخفى.

على أنّ ما ذكرناه هنا لا ينافي ما جاء في أحد الأخبار من تفسير الأرض بالجنّة؛ وذلك لأنّ وراثة الجنّة واقعةٌ في طول وراثة الأرض لا في قبالتها، فالصالحون كما يرثون هذه الأرض فلابدّ أن يكونوا هم أهل الجنّة أيضاً؛ لأنّها ما أعدّت إلّا لهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وسيأتي في جملةٍ من روايات الفريقين ما يؤكّد ذلك.

المقدّمة الثانية: المراد من الأرض في آيات الوراثة والأخبار - كما سيأتي - هو مطلق الأرض، وليس خصوص جزءٍ منها؛ ضرورة أنّ وراثة الجزء من الأرض إنّما تقع ضمن سُنّة المداولة التي أجراها الله عزّ وجلّ بين الناس أفراداً وشعوباً وأمماً وحضارات، فإنّه تعالى «يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين»، وهذا سنّة الحياة التي يدركها الإنسان بوجدانه ويشاهدها بعينه منذ زمن آدم (عليه السلام) وإلى يومنا هذا، فالجزء الذي يرثه الصالحون اليوم يمكن أنْ يرثه منهم الكافرون غداً والعكس بالعكس، والشواهد على ذلك كثيرة ؛ فمثلاً مكّة كانت بيد إبراهيم الخليل (عليه السلام) ثمّ ورثها المشركون، ثمّ المسلمون، وبلاد الأندلس كانت بيد الكافرين فورثها المسلمون منهم، ثمّ عاد الكفّار فورثوها، وهكذا الكثير من الأراضي التي كانت على عهد الدولتين العباسيّة والعثمانيّة وغيرهما، فلابدّ - والحال هذه - أنّ يكون الوعد الإلهيّ في هذه الآيات مختلفاً عمّا عليه سنّة التداول في الحياة؛ فإنّها معلومة بالوجدان والحسّ.

فإذا عرفت ذلك، فإنّ المستفاد من الأدلّة أنّ المراد بوراثة الأرض: هو قيام دولة العدل الإلهيّ على يد أهل البيت (عليهم السلام)، ووراثتهم للأرض كلّها، وذلك عند ظهور الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)؛ ليملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وإليك بيان ذلك:

أوّلاً: دلالة الأخبار الشريفة، فمنها:

1ـ ما رواه الكلينيُّ والطوسيُّ بسندٍ صحيحٍ عن أبي خالد الكابليّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب عليّ (عليه السلام): {أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتّقون، والأرض كلّها لنا.. » [الكافي ج1 ص407، التهذيب ج7 ص152، الاستبصار ج4 ص108]، ويلاحظ أنّ الخبر يؤكّد ما تقدّم من أنّ المراد بالأرض هو مطلقها لا خصوص جزءٍ منها.

2ـ ما رواه أيضاً بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ قال: «نظر أبو جعفر (عليه السلام) إلى أبي عبد الله (عليه السلام) يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}» [الكافي ج1 ص306].

3ـ أخرج الصدوق بإسناده عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظر إلى عليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلتُ له: ما معنى ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: معناه أنّكم الأئمّة بعدي، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة » [معاني الأخبار ص79، شواهد التنزيل ج1 ص555].

4ـ أخرج الطوسيّ بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} قال: «هم آل محمد يبعث الله مهديّهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذلّ عدوّهم» [الغيبة ص184].

5ـ ما رواه الاسترآباديّ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «قوله عزّ وجلّ: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} هم آل محمد صلوات الله عليهم» [تأويل الآيات ج1 ص332].

6ـ وبإسنادٍ آخر عنه (عليه السلام) قال: «قوله عزّ وجلّ: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} هم أصحاب الإمام المهديّ في آخر الزمان» [المصدر السابق].

7ـ وأخرج النعمانيّ بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في معنى قوله عزّ وجلّ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} قال: «نزلت في القائم وأصحابه» [الغيبة للنعمانيّ ص247].

8ـ روى الخزّاز القميّ خبر دخول جندب بن جنادة اليهوديّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفيه: «قال جندب: يا رسول الله، قد وجدنا ذكرهم في التوراة وقد بشرنا موسى بن عمران بك وبالأوصياء بعدك من ذريتك، ثمّ تلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، فقال جندب: يا رسول الله فما خوفهم ؟ قال: يا جندب في زمن كلّ واحد منهم سلطان يعتريه ويؤذيه، فإذا عجّل الله خروج قائمنا يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً » [كفاية الأثر ص60].

9ـ وأمّا من طرق العامّة، فقال السيوطيّ: (وأخرج البخاريّ في تاريخه، وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: قال: رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «قال الله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}، فنحن الصالحون» )[الدرّ المنثور ج4 ص687، تفسير ابن أبي حاتم ج8 ص2471].

10ـ وروى ابن جرير الطبريّ بالإسناد إلى عن ابن عباس في قوله: {ولَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ..} قال: «أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أنْ تكون السموات والأرض، أنْ يُورث أمّة محمدٍ الأرض، ويدخلهم الجنّة، وهم {الصَّالِحُونَ}» [تفسير الطبريّ ج17 ص138]،

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة والتي تدلّ بمجموعها على أنّ وراثة الأرض ستكون للإمام المهديّ وسائر أهل البيت (عليه وعليهم الصلاة والسلام) وأنصارهم الصالحين المتّقين.

ثانياً: ما يُستفاد منه ذلك بالدلالة الالتزاميّة أو دلالة الاقتضاء:

فبالعودة إلى النصوص الشرعيّة نجدها تبشّر المسلمين بوعدين إلهيّين محتومين، لا محالة من وقوعهما:

أحدهما: ما جاء في القرآن الكريم من الوعد بإظهار الدين الإسلاميّ على سائر أديان الخليقة ونصرته عليها وإنْ كره أهلها ذلك، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، الصفّ: 9] ، وقال عزّ من قائل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].

فقد روى الصدوق بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فقال: «والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم (عليه السلام)، فإذا خرج القائم (عليه السلام) لم يبقَ كافرٌ بالله العظيم ولا مشركٌ بالإمام إلّا كره خروجه حتّى أنْ لو كان كافراً أو مشركاً في بطن صخرة لقالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله» [كمال الدين ص670]، وفي هذه الآية أيضاً روى القندوزيّ الحنفيّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «والذي نفسي بيده، لا تبقى قريةٌ إلّا نُودي فيها بشهادة أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، بكرةً وعشيّاً» [ينابيع المودّة ج3 ص240].

والآخر: ما تواتر لدى جميع المسلمين من أنّ المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هو الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلئت جوراً وظلماً، فمن ذلك قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «لن تنقضي الأيام والليالي حتّى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه أسمى يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً» [الإرشاد ج2 ص340]، ومن طرق العامّة روى أحمد بن حنبل بإسنادين قول النبيّ (صلى الله عليه وآله ): ‌«لو ‌لم ‌يبق ‌من ‌الدنيا ‌إلّا ‌يومٌ لبعث الله عزّ وجلّ رجلاً منًا، يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً» [مسند أحمد ج1 ص500]، قال أحمد شاكر: (إسناداه صحيحان).

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هذه النصوص دالّةٌ بالملازمة على أنّ الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هو الذي سيرث الأرض؛ وذلك لأنّ إظهاره للدين الإسلاميّ على جميع الأديان، وكذا بسطه العدل في الأرض يلزم منهما - أو فقل يقتضي كلّ واحدٍ منهما - أنْ تكون له (عليه السلام) سلطنةً على البلاد والعباد تمكّنه من فعل ذلكّ في سائر أرجاء المعمورة.

ختاماً نسأله تعالى أن يعجّل في فرجه الشريف ويجعلنا وإيّاكم من أنصاره وأعوانه، والذابّين بين يديه، والمستَشهَدين في جملة أولياءه، والحمد لله ربّ العالمين.