مَن قال: (سيدنا معاوية) فقد أسخط الله!
السؤال: هل يجوز أن يطلق لفظ (السيادة) على معاوية مثل قول العامة: (سيدنا معاوية)؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى عليكم أخي السائل الكريم أنّ إطلاق وصف (السيادة) على شخصٍ ما إنّما يكون من باب التعظيم والإجلال له، فلابدّ - والحال هذه - من أن يكون الموصوف بها مستحقّاً لذلك وأهلاً له، وإلّا لزم وضع الشيء في غير موضعه وهو قبيحٌ عقلاً، كما أنّه مستهجن في نظر العرف العقلائيّ أيضاً؛ لأنّه مخالف لأصول اللغة عندهم، ففي اللسان قال: (السيد: يطلق على الربّ والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ،ومحتمل أذى قومه، والزوج، والرئيس والمقدّم) [لسان العرب ج3 ص228].
وقال الراغب: (والسيّد المتولي للسواد - أي الجماعة الكثيرة - ويُنسب إلى ذلك فيقال: سيد القوم، ولَمّا كان من شرط المتولي للجماعة أنْ يكون مهذّب النفس قيل لكلِّ من كان فاضلاً في نفسه: سيّد ، وعلى ذلك قوله: {وسَيِّداً وحَصُوراً}) [المفردات ص432].
ولذا ذكر علماء التفسير في قوله تعالى: {وسَيِّداً وحَصُوراً} [آل عمرن:39]: أنّ لفظ السيّد يختصّ بالشخص المشتمل على صفات الكمال الموجبة لإعظامه وإجلاله، قال الرازيّ: (والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً: الأول: قال ابن عباس: السيّد الحليم، وقال الجبائيّ: إنّه كان سيّداً للمؤمنين، رئيساً لهم في الدين، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع، وقال مجاهد: الكريم على الله، وقال ابن المسيب: الفقيه العالم ، وقال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب، قال القاضي: السيّد هو المتقدّم المرجوع إليه، فلمّا كان سيّداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفّة والزهد والورع) [تفسير الرازيّ ج8 ص38].
بناءً على ذلك، فإنّ إطلاق لفظ السيادة على معاوية بن أبي سفيان مخالفٌ لمقتضى حكم العقل، ولطريقة العقلاء ولغتهم؛ لأنّه رجل منطمس البصيرة وخبيث السريرة وذو شخصيّةٍ إجراميّةٍ ونفسٍ شيطانيّةٍ عاريةٍ تماماً عن جميع الفضائل والمكارم الموجبة لأدنى مراتب الاحترام والتقدير، كما أوضحنا ذلك في عدّة إجابات سابقة، هذا من الناحية العقليّة والعُقلائيّة.
ومنه يتّضح موقف الشريعة؛ فإنّ الشارع المقدّس سيّد العقلاء فلا يمكن أنْ يخالف طريقتهم ما دامت صائبةً وصحيحةً، ولبيان ذلك لابدّ عقد الكلام في مقدّمتين بهما تتّضح النتيجة:
أمّا المقدّمة الأولى: فقد تواتر النقل عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أنّ حبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو آية الإيمان علامته، كما أنّ بغضه آية النفاق، هذا فضلاً عن اتّفاق الفريقين – السنّة والشيعة - على صحّة الأحاديث المرويّة في ذلك وبعدّة طرق، يكفي منها في المقام ما أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة وغيرهم بالإسناد إلى عليّ (عليه السلام) قال: «والذي فلق الحبّة وبرأ النسَمَة إنّه لعهدُ النبيّ الأميّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) إليَّ: أن لا يحبُّني إلّا مؤمن ولا يبغضني إلّا منافق » [صحيح مسلم ج1 ص60، مسند أحمد ج1 ص486، سنن ابن ماجة ج1 ص42، مصنَّف ابن أبي شيبة ج18 ص54]، وسند الحديث من أصحّ الأسانيد عند القوم، ويغنينا عن ذكر تصحيحات العلماء وروده في صحيح مسلم.
وأمّا المقدّمة الثانية: فقد أثبتنا في أجوبةٍ سابقةٍ قيام معاوية بن أبي سفيان بممارسات تنافي تعاليم الإسلام عقيدةً وفقهاً وسلوكاً [ينظر أجوبة: "جرائم معاوية المنافية للإسلام" ، "مثالب معاوية بن أبي سفيان عند العامّة"]، ولعلّ من أبرزها ما عُرف به معاوية من شدّة بغضه أمير المؤمنين (عليه السلام) وعداوته له إلى حدّ قيامه بسنّ سبّه على المنابر، وكان يأمر الناس بذلك، فقد أخرج مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فلن أسبّه..» [صحيح مسلم ج7 ص120]، وقد صرّح كثيرٌ من علماء السنّة: بأنّ معاوية كان يسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويأمر الناس بسبّه، وأنّه أمرَ سعداً بذلك، ويمكن مراجعة الجواب المنشور بعنوان: (هل أمر معاوية سعد بن أبي وقاص بسبّ الامام علي). وكذلك روى البلاذريّ والطبريّ وابن الأثير: أنّ معاوية لـمّا استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، دعاه ليوصيه بوصايا، فكان منها قوله: «..ولست تاركاً إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم عليٍّ وذمّه، والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب عليٍّ والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم..» [أنساب الأشراف ج5 ص243، تاريخ الطبريّ ج4 ص187، الكامل في التاريخ ج3 ص472].
ولا شكّ في أنّ سبّ عليّ (عليه السلام) هو سبٌّ للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقد روى علماء السنّة بالإسناد عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: «دخلتُ على أمّ سلمة، فقالت لي: أَيُسَبُّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فيكم؟ قلتُ: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها، قالت: سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يقول: من سبَّ عليّاً، فقد سبَّني »، [مسند أحمد ج44 ص329، سنن النسائيّ ج7 ص441، المستدرك ج6 ص36]، قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وقال شعيب الأرنؤوط: (إسناده صحيح).
هذا مضافاً إلى خروجه على الإمام (عليه السلام) وقتاله له في صفّين مع كونه الخليفة الشرعيّ بإجماع الأمّة، وكذلك شراكته في مقتله كما ذكره المحقّقون، وبالتالي فهذا - بحدّ ذاته - يكون كافياً في الحكم بنفاق معاوية.
بل كان الرجل يراسل أمير المؤمنين فيشتمه في رسائله جهاراً، ويكفي منها مكاتبته للإمام بهذه العبائر: «أمّا بعد، فما أعظم الرّين على قلبك، والغطاء على بصرك، والشره من شيمتك، والحسد من خليقتك، فشمّر للحرب، واصبر للضرب. فوالله، ليرجعنّ الأمر إلى ما علمت، والعاقبة للمتّقين. هيهات هيهات، أخطأك ما تتمنّى، وهوى قلبك مع مَن هوى، فاربِع على ظلعك، وقس شبرك بفترك، لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، ويفصل بين أهل الشكّ علمه والسلام»، بل قد ختم بعض رسائله بإعلانه البغض للإمام (عليه السلام) صريحاً مستشهداً بأبيات كعب بن جُعيل:
أرى الشام تكره ملكَ العراق * وأهلُ العراق لهم كارهينا
وكلّاً لصاحبه مبغض يرى * كلّ ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم * ودنّاهم مثل ما يقرضونا
[للوقوف على جميع الرسائل المتبادلة بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية ينظر: موسوعة أمير المؤمنين ج11 ص119–149].
فإذا أدركت ما في هاتين المقدّمتين، فاعلم أنّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان قد نهى عن تعظيم المنافق وعن إطلاق وصف السيادة عليه، فقد روى البخاريّ وأحمد بن حنبل والنسائيّ بإسناد صحيح عن بريدة، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): لا تقولوا للمنافق: سيّدنا؛ فإنّه إنْ يكُ سيّدكم، فقد أسخطتم ربَّكم عزّ وجلّ» وفي لفظ أبي داود: «لا تقولوا للمنافق: سيّد..»، وفي لفظ الحاكم: «إذا قال الرجل للمنافق يا سيّد، فقد أغضب ربّه تبارك وتعالى» [الأدب المفرد ص267، مسند أحمد ج 5 ص348 ، سنن النسائيّ ج6 ص70، سنن أبي داود ج4 ص451، المستدرك ج9 ص20]، قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيح الاسناد ولم يخرجاه)، وقد تابع الحاكم في تصحيحه كلّ من: الإمام النوويّ في [الأذكار ص449]، والمنذريّ في [الترغيب والترهيب ج3 ص359]، والحافظ العراقيّ في [تخريج أحاديث الإحياء ص1056]، ثمّ الألبانيّ في [صحيح الأدب المفرد ص284].
وقال الطحاويّ في شرح هذا الحديث: (فتأملنا ما في هذا الحديث، فوجدنا السيّد المستحقّ للسؤدد هو الذي معه الأسباب العالية التي يستحق بها ذلك، ويَبِين بها عَمَّن سواه ممَّن ساده... فكان من يستحقّ هذا الاسم والكون بهذا المكان مَن هذه صفته، وكان المنافق بضدِّ ذلك، ولَمّا كان كذلك لم يستحقّ به أن يكون سيّداً، وكان من سمّاه بذلك واضعاً له بخلاف المكان الذي وضعه الله به، وكان بذلك مسخطاً لربِّه) [شرح مشكل الآثار ج15 ص347].
وقد أوضحنا في جوابٍ سابقٍ تصريح علماء السنّة بعدم ثبوت فضيلةٍ واحدةٍ لمعاوية على الإطلاق [ينظر جوابنا: هل صحّ في فضل معاوية شيء؟]، وعليه فإنّ النهي الوارد في الحديث هو نصّ في التحريم بقرينة أنّ تسمية المنافق بالسيّد موجبٌ لسخط الله تعالى وغضبه، والله لا يسخط ولا يغضب إلّا ممّا كان محرّماً.
وعليه يكون المتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ إطلاق لفظ السيادة على معاوية بن أبي سفيان ممّا يوجب سخط الله وغضبه، فيحرم شرعاً؛ لتواتر الدلائل على اتصاف الرجل بالنفاق ومخالفاته الشنيعة للإسلام عقيدةً وعملاً، حتّى صار شيخ المنافقين بلا منازع. ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق