لا حجة لغير الرسل !

في قوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزًا حَكيمًا﴾ [النساء: ١٦٥]. الحجة هنا في الآية الرسل فقط، فيلزم من ذلك أنه لا حجة لغير الرسل، أرجو الجواب عن هذا الاشكال؟

: السيد رعد المرسومي

الجواب:

اعلم أخي السائل أنّ هذه الآية تتحدّث عن إرسال الله تعالى الرسل للناس مبشّرين ومنذرين، فلا يقبل الله عزّ وجلّ يوم القيامة اعتذار أحدٍ بأنّه لم يسمع برسل الله ووجوب الإيمان به وطاعته وعبادته، فلا توجد حجّة لأحد من الناس على الله بعد إرسال الله تعالى الرسل لينذروهم ويبلّغوهم ويقطعوا عذرهم واعتذارهم بالجهل والغفلة، كما ذكر تعالى ذلك بقوله: ((أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ * أو تَقُولُوا إِنَّمَا أَشرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعدِهِم أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبطِلُونَ)) (الأعراف:172-173).

ويترتّب على ذلك أنّ الرسل سوف ينذرون الناس بعقيدة وشريعة، ويوجبون عليهم التسليم والطاعة والقبول، وقولهم حجّة على الناس لا يمكن رفضه أو التشكيك به أو التردّد فيه، فيجب قبول كلّ ما يأتي به الرسول وما يأمر به، ومنه: إقامته الحجج على الناس بعده، وهم: الأوصياء، وهؤلاء ليسوا حججاً مستقلّين في عرض الرسل حتّى يقال: إنّ الآية تنفي هذا النوع من الرسل، وإنّما هم امتداد لحجّيّة الرسل، إذْ من البدهيّ أنّ إقامة الرسول (ع) للدين وللشريعة والأركان والواجبات للناس يجب قبوله بالاتّفاق.

ولـمّا كانت مسألة الإمامة والأئمّة والأوصياء مِـمّا جاءت بها رسل الله عزّ وجلّ وأوصوا بها الناس، فحينئذٍ يجب قبولها منهم، شأنها في ذلك شأن غيرها من مسائل الدين الإسلاميّ التي بلّغوا بها الناس وأوصوهم بها، ولذلك فالأئمّة والأوصياء (عليهم السلام) - في حقيقة الأمر - هم الهداة المهديّون، والخلفاء الراشدون، الذين تتفرّع حجّيتهم عن أوامر الرسل للناس بطاعتهم، حافظين لحجّتهم، فهم امتداد لتلك الحجّة الرسالية لتستمرّ الحجّية على نسقٍ واحد، وإلاّ انقطعت الحجج الإلهية بانقطاع الرسل، كما هو حالنا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنحن لم نر الرسول (ص)، ولم يرسل الله حجّته إلينا، فهل يستطيع أحد بأن يدّعي عدم إقامة الحجّة علينا لعدم إرسال الرسل إلينا؟!

وعليه: إنْ لم نؤمن بضرورة نصب الله تعالى للحجج بعد الرسل، فإننا سوف نواجه مشكلة خلوّ الزمان من الحجة الإلهية، وهذا أمرٌ باطل عقلا ونقلا وحكمةً، لأنه سيجعل للناس على الله حجة في زعمهم بعدم نصبه للحجة، وهذا ما رفضته الآية الشريفة بعدما أسّست لحقيقة نصبه تعالى للحجة بعد الرسل على الناس وقطعت عليهم سبيل الاحتجاج عليه سبحانه.

ونؤكّد على حقيقة هذا المعنى الذي يجب أنْ يكون راسخاً في ذهن كل مسلم لبيب ما جاءت به الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الشأن، إذْ ورد في كلام دقيق للأمام علي (ع) أنّه قال في خطبة طويلة يذكر فيها خلق آدم: واصطفى اللّه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم إلى أن قال : ولم يخل اللّه سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم ، من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ومضت الأبناء.

ومن كلامه عليه السّلام لكميل بن زياد وذكر كلاما من جملته أن قال: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج اللّه وبيناته إلى أن قال : أولئك خلفاء اللّه في أرضه والدعاة إلى دينه.[ ينظر: كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج ١، الحر العاملي، ص ١٦٠، نقلاً عن كتاب نهج البلاغة].

ويقول الأمام الصادق (ع): ((إنّ الله تعالى أجلّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل)) [شرح أصول الكافي، المازندراني، (ج5/ص124)].

وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : لو كان الناس رجلين ، لكان أحدهما الإمام .

وقال أيضاً: إنّ آخر من يموت الإمام ، لئلا يحتج أحد على الله أنه تركه بغير حجة.[ الإمامة والتبصرة، علي ابن بابويه القمي، ص ٣٠].

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تؤكّد على حقيقة هذا المعنى.

ونؤيّد كلامنا وفهمنا لهذه الآية الكريمة بذكر أقوال طائفة من علماء أهل السُنّة:

أ - قال الإيجي في (المواقف): (( مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )) بوعده بنعيمه المقيم ووعيده بنار الجحيم، فأقام بهم على المكلّفين الحجّة، وأوضح المحجّة، فانقطعت بذلك أعذارهم بالكلية قال الله تعالى: (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ )) [ شرح المواقف 1: 13 شرح مقدّمة المصنّف].

ب - وقال الطبري في تفسيره (جامع البيان): (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ))، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشّرين ومنذرين لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضلّ عن سبيلي، بأن يقول، إن أردت عقابه: (( لَولاَ أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزَى )) (طه:134)، فقطع حجّة كلّ مبطل ألحد في توحيده، وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذاراً منه بذلك إليهم؛ لتكون للهّ الحجّة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه))[ جامع البيان 6: 41].

ونقل بسنده عن الربيع بن أنس، قال: ((نفذ علمه فيهم أيّهم المطيع من العاصي، حيث خلقهم في زمان آدم... وقال في ذلك: (( وَلَو رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ )) (الأنعام:28), وفي ذلك قال: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً )) (الإسراء:15), وفي ذلك قال: (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ))، ولا حجّة لأحد على الله)). [جامع البيان 9: 15،16].

ج - وقال الواحدي في تفسيره: (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ )), فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً يعلّمنا دينك، فبعثنا الرسل قطعاً لعذرهم)). [الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير الواحدي) 1: 302].

د - وقال السمعاني في تفسيره: قوله تعالى: (( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )), أي: أرسلنا رسلاً (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ )), وهذا دليل على أنّ الله تعالى لا يعذّب الخلق قبل بعثه الرسل، وهذا معنى قوله: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً )), وقال تعالى: ((وَلَو أَنَّا أَهلَكنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَولاَ أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزَى )). [تفسير السمعاني 1: 503].

هـ - وقال البغوي عن هذه الآية في تفسيره: ((فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسولاً، وما أنزلت إلينا كتاباً، وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يعذّب الخلق قبل بعثة الرسول، قال الله تعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً )). [معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي) 1: 500].

و - وقال ابن الجوزي في (زاد المسير): ((قوله تعالى: (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ )), أي: لئلاّ يحتجّوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأنّ هذه الأشياء إنّما تجب بالرسل)). [زاد المسير 2: 223].

هذا جوابنا باختصار عن هذا السؤال.

ودمتم سالمين.