لماذا خلق الله الكافرين وهو يعلم أن مصيرهم هو النار؟!
بما أنَّ اللهَ عزَّ وجل أوقفَ دخولَ الجنّةِ على الإيمانِ به والطاعةِ له، فلماذا خلقَ الكُفّارَ وغيرَهم ممّن يعلمُ عدمَ إيمانِهم، وأنّهم سيكونونَ مِن أهلِ النّار؟! ألا يتنافى ذلكَ معَ عدلِه ورحمتِه وحكمتِه؟!
الجوابُ في نقاط:
إنّما يردُ هذا الإشكالُ على أصحابِ المدرسةِ الجبريّة، الذينَ يتصوّرونَ أنَّ علمَ اللهِ بأعمالِنا يعني أنّه أجبرَنا عليها، ويذهبونَ إلى أنَّ الإنسانَ مُسيّر، ولا يملكُ أيَّ شيءٍ منَ الإرادةِ والحُرّيّةِ والاختيار، أمّا غيرُهم فلا يردُ عليهم هذا الإشكالُ البتّة، ويمكنُنا توضيحُ ذلكَ في عدّةِ نقاط:
النقطةُ الأولى: العلمُ لا يلزمُ منهُ الجبر، واللهُ لا يُعذّبُ بالعلمِ وإنّما بالعمل:
نودُّ أن ننطلقَ في إجابتِنا منَ الإشارةِ إلى أنَّ علمَ اللهِ بما سيختارُه الإنسانُ مِن كفرٍ أو إيمان، إنّما يدلُّ على انكشافِ واقعِ الإنسانِ له سبحانه، وذلكَ باعتبارِ أنَّ علمَ الله حضوريٌ، بمعنى حضورِ كلِّ المعلوماتِ لديه وانكشافِها له، وانكشافُ هذا الواقعِ والعلمُ به على حقيقتِه لا يلزمُ منه أن يكونَ الإنسانُ مجبوراً، بل هوَ يُقدّمُ على ما يُقدّمُ عليه مِن قولٍ وعملٍ بكاملِ حُرّيّتِه واختيارِه، وسبقَ أن بيّنّا ذلكَ بشيءٍ منَ التفصيلِ في جوابِ سؤال (علمُ اللهِ بأعمالنا هل يعني أنّه أجبرَنا عليها؟) فراجع.
كما أنَّ اللهَ لا يُعذّبُ أحداً فقط لعلمِه تعالى بأنّه سيرتكبُ منَ الأعمالِ ما يجعلهُ مُستحقّاً للعذاب، وإنّما يُعذّبُه لارتكابِه تلكَ الأعمالَ فعلاً، وأيضاً بعدَ البيانِ لهم، وإقامةِ الحُجّةِ عليهم، كما سنُبيّنُه في مستقبلِ هذا الجواب.
النقطةُ الثانية: الإشكالُ على وجودِ الكافرينَ إشكالٌ على وجودِ الخلقِ بأسرِه:
إنَّ اللهَ عزَّ وجل خلقَ حياتينِ جعلَ الأولى مِنهما (وهيَ الحياةُ الدّنيا) دارَ اختبار، وجعلَ الثانيةَ (وهيَ الحياةُ الآخرة) دارَ قرار، وخلقَ الناسَ في الحياةِ الدّنيا ليُمتحنوا ويُختبروا ليُحدّدوا لأنفسِهم مصيرَهم يومَ القيامة، فمَن آمنَ فلهُ الجنّة، ومَن كفرَ فلهُ النار، وهذا لا يمكنُ أن يتحقّقَ إلّا بخلقِ الفريقين منَ الناسِ معاً (مَن يعلَم اللهُ أنّهم سيؤمنونَ وسيكونُ مصيرُهم الجنّة، ومَن يعلم أنّهم سيكفرونَ وسيكونُ مصيرُهم النار) أمّا بخلقِ فريقٍ دونَ فريق فلا يمكنُ أن يتحقّقَ الغرضُ الإلهي مِن خلقِ الناسِ، والمُتمثّلُ -كما أشَرنا- في امتحانِهم في هذهِ الحياةِ ليُحدّدوا مصيرَهم في الحياةِ الآخرة.
وبانتفاءِ هذا الغرضِ (الامتحان) تنتفي الحاجةُ إلى الرّسلِ والأنبياء، والتبشيرِ والإنذار، والوعدِ والوعيد، والثوابِ والعقاب، والجنّةِ والنار، بل والدّنيا والآخرة...لأنَّ ذلكَ كلُّه مُتوقّفٌ على وجودِ الناسِ في هذهِ الحياة، وعلى دعوتِهم عن طريقِ الرّسلِ والأنبياءِ إلى الإيمانِ بالله، وترغيبِهم في ذلكَ عن طريقِ التبشيرِ بالجنّة، وترهيبِهم منَ الكُفر عن طريقِ الإنذارِ بالنّار، وأن تكونَ لديهم الحُرّيّةُ الكاملةُ في الإيمانِ وعدمِه ليُحدّدوا مصيرَهم يومَ القيامةِ وفقَ إيمانِهم أو كُفرِهم باللهِ سُبحانَه وتعالى.
وبهذا نفهمُ أنَّ الإشكالَ على خلقِ مَن يعلمُ اللهُ أنّهم سيكفرونَ به وسيكونُ مصيرُهم النار، يعني -في حقيقتِه- الإشكالُ على وجودِ الخلقِ كلّه ومِن دونِ استثناء!
النقطةُ الثالثة: الإشكالُ على خلقِ مَن يعلمُ اللهُ كفرَهم يؤدّي إلى المُطالبةِ بالجبر:
إنَّ اللهَ عزَّ وجل لم يخلِق أناساً مؤمنينَ، وأناساً كافرين، لأنَّ هذا لا يكونُ إلّا معَ الجبرِ وسلبِ الحُرّيّةِ والاختيار، وإنّما خلقَ الناسَ جميعاً ومنحَهم الحُرّيّةَ الكاملةَ على اختيارِ الإيمانِ أو الكُفر، والطاعةِ أو المعصية، وهذا هوَ المُصحّحُ لمبدأ الوعدِ والوعيد، والتبشيرِ والإنذارِ، والثوابِ والعقاب، وبما أنَّ اللهَ خلقَ الناسَ أحراراً، فالحُرّيّةُ تقتضي أن يختارَ أحدُهم الإيمانَ فيكونُ مُستحقّاً للجنّة، وأن يختارَ الآخرُ الكفرَ فيكونُ مُستحقّاً للنّار، وكلُّ أحدٍ هوَ المسؤولُ عن اختيارِه ونتائجِه.
وبهذا نفهمُ أنَّ الإشكالَ على خلقِ مَن يعلمُ اللهُ كفرَهم، أو المطالبةَ بأن لا يخلقَ اللهُ إلّا المؤمنين، يؤدّي -في نتيجتِه- إلى المُطالبةِ بسلبِ حُرّيّةِ الإنسان، ليكونَ مجبوراً على الإيمانِ، وكما أشَرنا: متى أصبحَ الإنسانُ مُسيّراً، فعندَها لا يصحُّ أن يوجّهَ إليهِ لا أمرٌ ولا نهي، ولا أن يُكلّفَ بتكاليف، وببطلانِ التكليفِ يبطلُ الثوابُ والعقاب، وببطلانِهما ينتفي الدّين، ولا يكونُ هناكَ موجبٌ لبعثِ الرّسلِ والأنبياء، وبذلكَ يكونُ الخلقُ عبثاً وغيرَ مُنسجمٍ معَ الحكمةِ الإلهيّةِ البالغة، تماماً كما أوضحَهُ الإمامُ أميرُ المؤمنين في بيانِ المفهومِ الحقيقيّ للقضاءِ والقدر بقولِه في جوابِ مَن ظنَّ أنَّ القضاءَ والقدرَ يسلبانِ حُرّيّةَ الإنسان كما في ج5ص13-14 مِن بحارِ الأنوار: (أوتظنُّ أنّهُ قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟! إنّه لو كانَ كذلكَ لبطلَ الثوابُ والعقاب، والأمرُ والنهيُ والزجرُ، ولسقطَ معنى الوعدِ والوعيد، ولم تكُن على المُسيءِ لائمةٌ، ولا لمُحسنٍ محمدةٌ، ولكانَ المُحسنُ أولى باللائمةِ منَ المُذنب، والمذنبُ أولى بالإحسانِ منَ المُحسن، تلكَ مقالةُ عبدةِ الأوثان وخصماءِ الرّحمن، وقدريّةِ هذهِ الأمّة ومجوسِها، يا شيخ إنَّ اللهَ عزَّ وجل كلّفَ تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليلِ كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مُكرَها، ولم يخلِق السماواتِ والأرض وما بينَهُما باطلاً، ذلكَ ظنُّ الذينَ كفروا فويلٌ للذينَ كفروا منَ النار)
النقطةُ الرّابعة: حُرّيّةُ الاختيار ِلا تعني حقَّ حُرّيّةِ الاعتقاد:
إنَّ اللهَ وإن منحَ الإنسانَ الحُرّيّةَ، إلّا أنّه سبحانَه لم يُعطِه الحقَّ في أن يستخدمَها وفقَ أهوائِه ورغباتِه، بل أوجبَ عليه أن يُسخّرَها في طاعتِه، ويجعلَها مُنسجمةً مع إرادتِه تعالى، فإن آمنَ باللهِ واستجابَ لأوامرِه ونواهيه، فهذا يعني أنّه وظّفَ حُرّيّتَه توظيفاً صحيحاً، وأصبحَ مُستحقّاً لثوابِه عزَّ وجل، وإن لم يُوظّفها هذا التوظيفَ، فكفرَ باللهِ وخالفَ تكاليفَهُ وأوامرَه ونواهيه، فهذا يعني أنّه أساءَ استغلالَ هذهِ الحُرّيّة، واستعملَها في غيرِ المسموحِ له به، فأصبحَ مُستحقّاً للعقوبةِ الإلهيّة، ففرقٌ كبيرٌ بينَ منحِ الحُرّيّةِ للإنسان، وبينَ أن يكونَ مِن حقِّه استعمالُها كما يشاء.
وبما أنَّ الدّينَ الذي ارتضاهُ اللهُ لعبادِه هوَ الإسلام، وقد أكّدَ سبحانَه في الآيةِ (85) مِن سورةِ آلِ عمران على أنَّ {مَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلَامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}، وبما أنَّ الغرضَ من خلقِ الإنسان هو العبادة كما يقولُ عزّ وجلّ في الآية (56) مِن سورةِ الذاريات: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ}، وبما أنَّ اللهَ لم يسمَح للإنسانِ أن يستعملَ حُرّيّتَه إلّا فيما يريدُه هوَ عزَّ وجل، فعليهِ يجبُ على العبادِ أن يُحقّقوا الغرضَ مِن خلقِهم بالإيمانِ بالله، وعبادتِه وفقَ الدينِ الذي ارتضاه، وبما أنَّ الكافرينَ لم يُحقّقوا هذا الغرضَ، واختاروا الكفرَ على الإيمان، فهُم المسؤولونَ عن النتائجِ المُترتّبةِ على ذلك، وليسَ الله حتّى نسألَ ونقول: لماذا اللهُ خلقَهم وهوَ يعلمُ أنَّ مصيرَهم هوَ النار؟!
النقطةُ الخامسة: اللهُ أقامَ الحُجّةَ على الناس:
كما أنَّ اللهَ خلقَ الناسَ أحراراً كذلكَ أقامَ الحُجّةَ عليهم مِن خلالِ طرقٍ كثيرة، نكتفي مِنها بذكرِ طريقٍ واحد هوَ: أنَّ اللهَ بعثَ إلى الناسِ رُسلاً يُعرّفونَهم به، ويدعونَهم إليه، ويبلّغونَهم رسالتَه، ويبيّنونَ لهُم تكاليفَه وأوامرَه ونواهيه وحلالهُ وحرامَه، ويبشّرونَ المؤمنينَ مِنهم بالجنّة، وينذرونَ الكافرينَ بالنار، فتمَّت بذلكَ الحُجّةُ عليهم، حتّى لم يعُد لهُم في كُفرِهم مِن عُذر، تماماً كما يقولُ سُبحانَه في الآية (165) مِن سورةِ النساء: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
ولولا إقامةُ الحُجّةِ على هؤلاءِ الكافرينَ وإلّا لكانَ تعذيبُهم ظلماً، ولكانَ في إمكانِهم أن يحتجّوا على اللهِ بعدمِ استحقاقِهم للعذابِ لعدمِ البيانِ لهم، وإقامةِ الحُجّةِ عليهم، كما هوَ واضحٌ بالبداهةِ العقليّة، وكما يشيرُ إليه القرآنُ الكريم في العديدِ مِن آياتِه البيّنات، كقولِه تعالى في الآيةِ (134) مِن سورةِ طه: {وَلَو أَنَّا أَهلَكنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَولَا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخزَىٰ}، وقولِه في الآيةِ (47) مِن سورةِ القصص: {وَلَولَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَولَا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ}
وكما هوَ واضحٌ مِن هذهِ الآياتِ الكريمةِ فإنَّ إقامةَ الحُجّةِ عن طريقِ إرسالِ الرّسلِ لم تكُن محصورةً في أناسٍ دونَ غيرِهم، بل أقامَها اللهُ على الناسِ جميعاً مِن دونِ استثناء، وهوَ ما تؤكّدُه عدّةُ آياتٍ أخرَ أيضاً، كقولِه تعالى في الآياتِ (8-11) مِن سورةِ المُلك: {كُلَّمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَم يَأتِكُم نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَىٰ قَد جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيءٍ إِن أَنتُم إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصحَابِ السَّعِيرِ * فَاعتَرَفُوا بِذَنبِهِم فَسُحقًا لِّأَصحَابِ السَّعِيرِ}، وكذا قولهُ عزَّ شأنُه في الآيتينِ (71-72) مِن سورةِ الزّمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَتُهَا أَلَم يَأتِكُم رُسُلٌ مِّنكُم يَتلُونَ عَلَيكُم آيَاتِ رَبِّكُم وَيُنذِرُونَكُم لِقَاءَ يَومِكُم هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِن حَقَّت كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ * قِيلَ ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئسَ مَثوَى المُتَكَبِّرِينَ}.
وهُنا يجبُ أن نُلاحظَ أنَّ الكافرينَ اعترفوا على أنفسِهم بتكذيبِهم وذنبِهم، وإقامةِ الحُجّةِ عليهم، واستحقاقِهم للعذابِ، ولم يحتجّوا على اللهِ بأنّه لماذا خلقَهم وهوَ يعلمُ أنَّ مصيرَهم إلى النار؟! وما ذاكَ إلّا لعلمِهم وإدراكِهم بأنَّ خلقَه تعالى لهُم وهوَ يعلمُ مصيرَهم لا يُنافي عدلهُ ورحمتَهُ وحكمتَه، لأنَّ علمَهُ بمصيرِهم لا يعني أنّه تعالى سلبَهم حُرّيّتَهم واختيارَهم، ولا أنّه أجبرَهم على الكُفر، بل هُم اختاروا ذلكَ بكاملِ حُرّيّتِهم وإرادتِهم، رغمَ البيانِ لهم، وإقامةِ الحُجّةِ عليهم، ممّا يعني عدمَ صحّةِ هذا الاحتجاجِ الذي يطرحُهُ البعضُ كإشكالٍ على اللهِ وعدلِه ورحمتِه وحكمتِه، وإلّا لو كانَ هذا الإشكالُ صحيحاً ومُلزِماً، لاحتجَّ به أهلُ النارِ أنفسُهم، فهُم أصحابُ الشأن، وأحرصُ على إنقاذِ أنفسِهم منَ العذابِ مِن غيرِهم، فتأمّل جيّداً.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على مُحمّدٍ وآلِه الطيّبينَ الطاهرين.
اترك تعليق