لماذا سكت أمير المؤمنين (ع) عن القوم إذ هجموا على داره؟

 لماذا سكت أمير المؤمنين (عليه السلام) عن القوم إذ هجموا على داره؟ وما هي غايته من السكوت؟ ولماذا لم يستعمل ولايته التكوينية في ذلك الظرف؟

الجوابُ: 

السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،

بيّنَت الرّواياتُ الواردةُ أنَّ القومَ لمّا هَجموا على الدارِ وكسَروا البابَ وثبَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) كالأسدِ مِن داخلِ البيت، إذ كانَ دخولُهم البيتَ فجأةً وبغتةً، فأخذَ بتلابيبِ عُمر وهمَّ بقتلِه، لكِن ذكرَ وصيّةَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فما قتلَه. رويَ عن سلمانَ المُحمّديّ قالَ: « ..فوثبَ عليٌّ (عليهِ السلام) فأخذَ بتلابيبِه [يعني بتلابيبِ عمُر]، فصرعَهُ، ووجأ أنفَه ورقبتَه، وهمَّ بقتلِه، فذكرَ قولَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وما أوصاهُ به، فقالَ: والذي كرّمَ مُحمّداً بالنبوّةِ ـ يا ابنَ الصهّاك ـ، لولا كتابٌ منَ اللهِ سبقَ وعهدٌ عهدَه إليَّ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لعلمتَ أنّكَ لا تدخلُ بَيتي، فأرسلَ عُمرُ يستغيثُ، فأقبلَ الناسُ حتّى دخلوا الدار.. » [كتابُ سُليم ص82].

وهُنا أظهرَ الإمامُ (عليهِ السلام) مدى انقيادِه وإطاعتِه للهِ ولرسولِه بحفظِ الوصيّةِ والعملِ بها، فإنَّ التهوّرَ والتسرّعَ رذيلةٌ، والفضيلةُ تكونُ بالصّبرِ والتحمّلِ، وقد كانَت آثارٌ إيجابيّةٌ عظيمةٌ متوقّفةً على صبرِ الإمامِ (عليهِ السلام) وسكوتِه وتحمّلِه الأذى وعدمِ رفعِه رايةَ الجهادِ على القوم، معَ ما في الصّبرِ منَ المشقّةِ العظيمة. 

وقبلَ بيانِ بعضِ هذهِ الغايات، يجبُ أن يُعلَمَ أمران.. 

الأمرُ الأوّل: أنَّ الإمامَ (عليهِ السلام) معصومٌ مُطهّر، معَ أنّه عالمٌ حكيمٌ لا يفعلُ إلّا ما فيهِ حكمةٌ وعلّةٌ موجبةٌ له، فلا بدَّ أن يكونَ لفعلِهِ وجهٌ راجح، وبدورِنا يجبُ علينا التسليمُ له وقبولُ تصرّفاتِه جميعَها؛ إذ المعصومُ لا يفعلُ إلّا الصّواب، ولا ينطقُ إلّا الصّدق، وفي أفعالِه وسكناتِه مصالحُ راجحةٌ، سواءٌ أدرَكنا وجهَها أو لا، هذا هوَ تكليفُنا تجاهَ تصرّفاتِ المعصومِ (عليهِ السلام). 

الأمرُ الثاني: أنَّ لكلِّ واحدٍ منَ الأئمّةِ (عليهم السلام) تكاليفُ خاصّةٌ منَ اللهِ تباركَ وتعالى، نزلَ بها جبرئيلُ (عليهِ السلام) على النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وسلّمها لأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ثمّ سلّمَها لابنِه الحسنِ (عليهِ السلام) وهكذا إلى سائرِ الأئمّةِ (عليهم السلام). 

وقد عقدَ الشيخُ الكُلينيّ لهذا باباً في كتابِه [الكافي ج1 ص279] بعنوان (بابُ أنَّ الأئمّةَ عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً إلّا بعهدٍ منَ اللهِ عزّ وجلّ وأمرٍ مِنه لا يتجاوزونَه) ونقلَ فيه عدّةَ روايات.. 

مِنها: ما رواهُ بإسنادِه عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ: « إنَّ اللهَ (عزَّ وجل) أنزلَ على نبيّه (صلّى اللهُ عليهِ وآله) كتاباً قبلَ وفاتِه، فقالَ: يا محمّد، هذهِ وصيّتُك إلى النّجبةِ مِن أهلِك، قالَ: وما النّجبةُ يا جبرئيل؟ فقالَ: عليٌّ بنُ أبي طالب وولدُه (عليهم السلام)، وكانَ على الكتابِ خواتيمُ مِن ذهب، فدفعَه النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) إلى أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام)، وأمرَهُ أن يفكَّ خاتماً مِنه ويعملَ بما فيه، ففكَّ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) خاتماً وعملَ بما فيه، ثمَّ دفعَهُ إلى ابنِه الحسنِ (عليهِ السلام)، ففكَّ خاتماً وعملَ بما فيه، ثمَّ دفعَهُ إلى الحُسين (عليهِ السلام)، ففكَّ خاتماً فوجدَ فيه: أن اخرُج بقومٍ إلى الشهادة، فلا شهادةَ لهُم إلّا معَك واشرِ نفسَك للهِ (عزَّ وجل)، ففعلَ، ثمَّ دفعَهُ إلى عليٍّ بنِ الحُسين (عليهما السلام) ففكَّ خاتماً فوجدَ فيه: أن أطرِق واصمُت والزَم منزلَك واعبُد ربّكَ حتّى يأتيكَ اليقين، ففعلَ، ثمَّ دفعَهُ إلى ابنِه مُحمّدٍ بنِ عليّ... إلى آخرِه ».

ومِنها: ما رواهُ عن عيسى بنِ المُستفادِ الضّرير، عن الإمامِ الكاظمِ (عليهِ السلام)، عن أبيهِ الصّادقِ (عليهِ السلام) قالَ: « نزلَت الوصيّةُ مِن عندِ اللهِ كِتاباً مُسجّلاً، نزلَ به جبرئيلُ معَ أمناءِ اللهِ تباركَ وتعالى منَ الملائكةِ، فقالَ جبرئيل: يا محمّد، مُر بإخراجِ مَن عندَك إلّا وصيُّك، ليقبضَها مِنّا وتُشهدَنا بدفعِكَ إيّاها إليهِ ضامِناً لها - يعني عليّاً (عليهِ السلام) -، فأمرَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بإخراجِ مَن كانَ في البيتِ ما خلا عليّاً (عليهِ السلام)، وفاطمةُ فيما بينَ السّترِ والباب، فقالَ جبرئيل: يا محمّد، ربُّكَ يُقرئِكَ السلام ويقولُ: هذا كتابُ ما كنتُ عهدتُ إليكَ وشرطتُ عليكَ وشهدتُ بهِ عليكَ وأشهدتُ بهِ عليكَ ملائكَتي وكفى بي ـ يا محمّدُ ـ شهيداً، قالَ: فارتعدَت مفاصلُ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فقالَ: يا جبرئيلُ ربّيَ هوَ السلامُ ومنهُ السّلام وإليهِ يعودُ السّلام، صدقَ عزَّ وجلّ وبر، هاتِ الكتابَ، فدفعَهُ إليه وأمرَهُ بدفعِه إلى أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) فقالَ له: أقرأه، فقرأهُ حرفاً حرفاً، فقالَ: يا عليّ، هذا عهدُ ربّي تباركَ وتعالى إليَّ شرطهُ عليَّ وأمانتُه وقد بلّغتُ ونصحتُ وأدّيتُ، فقالَ عليٌّ (عليهِ السلام): وأنا أشهدُ لكَ ـ بأبي وأمّي أنتَ ـ بالبلاغِ والنصيحةِ والتصديقِ على ما قلتَ ويشهدُ لكَ به سَمعي وبصَري ولَحمي ودَمي، فقالَ جبرئيلُ (عليهِ السلام): وأنا لكُما على ذلكَ منَ الشاهدين، فقالَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): يا عليّ، أخذتَ وصيَّتي وعرفتها وضمنتَ للهِ ولي الوفاءَ بما فيها، فقالَ عليٌّ (عليهِ السلام): نعَم ـ بأبي أنتَ وأمّي ـ عليَّ ضمانُها وعلى اللهِ عَوني وتوفيقي على أدائِها، فقالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): يا عليّ إنّي أريدُ أن أشهدَ عليكَ بموافاتي بها يومَ القيامة، فقالَ عليٌّ (عليهِ السلام): نعَم أشهد، فقالَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): إنَّ جبرئيلَ وميكائيلَ فيما بينِي وبينَكَ الآن، وهُما حاضرانِ معَهُما الملائكةُ المُقرّبونَ لأشهِدَهم عليك، فقالَ: نعَم، ليشهدوا وأنا - بأبي أنتَ وأمّي - أشهدُهم، فأشهدَهم رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وكانَ فيما اشترطَ عليهِ النبيّ بأمرِ جبرئيلَ (عليهِ السلام) فيما أمرَ اللهُ عزَّ وجل أن قالَ له: يا عليّ، تفي بما فيها مِن موالاةِ مَن والى اللهَ ورسولَه، والبراءةَ والعداوةَ لمَن عادى اللهَ ورسولَه والبراءةَ مِنهم على الصّبرِ مِنك وعلى كظمِ الغيظِ وعلى ذهابِ حقِّك وغصبِ خُمسِك وانتهاكِ حُرمتِك؟ فقالَ: نعَم يا رسولَ الله، فقالَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام): والذي فلقَ الحبّةَ وبرأ النسمة، لقد سمعتُ جبرئيلَ (عليهِ السلام) يقولُ للنبيّ: يا محمّدُ عرِّفهُ أنّه يُنتهَكُ الحُرمةَ، وهيَ حُرمةُ اللهِ وحُرمةُ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وعلى أن تُخضّبَ لِحيتُه مِن رأسِه بدمٍ عبيط، قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام): فصعقتُ حينَ فهمتُ الكلمةَ منَ الأمينِ جبرئيل حتّى سقطتُ على وجهي، وقلتُ: نعَم قبلتُ ورضيتُ وإن انتهكَت الحُرمة وعُطّلَت السُّننُ ومُزّقَ الكتابُ وهُدمَت الكعبةُ وخُضّبَت لِحيتي مِن رأسي بدمٍ عبيطٍ صابِراً مُحتسِباً أبداً حتّى أقدمَ عليكَ، ثمَّ دعا رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فاطمةَ والحسنَ والحُسين وأعلمَهم مثلَما أعلمَ أميرَ المؤمنين، فقالوا مثلَ قولِه فخُتمتَ الوصيّةُ بخواتيمَ مِن ذهب، لم تمسَّه النار، ودُفعَت إلى أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام). 

فقلتُ لأبي الحسنِ (عليهِ السلام): بأبي أنتَ وأمّي، ألا تذكرُ ما كانَ في الوصيّة؟ فقالَ: سُننُ اللهِ وسُننُ رسولِه، فقلتُ: أكانَ في الوصيّةِ توثّبُهم وخلافُهم على أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام)؟ فقالَ: نعَم واللهِ شيئاً شيئاً، وحَرفاً حَرفاً، أما سمعتَ قولَ اللهِ عزَّ وجل: {إنّا نحنُ نُحيي الموتى ونكتبُ ما قدّموا وآثارَهم وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مُبين}؟ واللهِ لقد قالَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لأميرِ المؤمنينَ وفاطمةَ (عليهما السلام): أليسَ قد فهِمتُما ما تقدّمتُ بهِ إليكُما وقبِلتماه؟ فقالا: بلى، وصبَرنا على ما ساءَنا وغاظَنا »، انتهى.

وقد جاءَت رواياتٌ كثيرةٌ عندَ الفريقين

إذن: كانَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ـ إضافةً إلى علمِه وعصمتِه ـ مأموراً مُكلّفاً بتكاليفَ خاصّةً منَ اللهِ تباركَ وتعالى، بلزومِ الصّبرِ على المشاقِّ وتحمّلِ الأذى ولو على انتهاكِ الحُرمة. 

 

ولنذكُر الآنَ بعضَ الآثارِ المُترتّبةِ على سكوتِ الإمامِ (عليهِ السلام) وصبرِه وتحمّلِه على ما حصل:

الغايةُ الأولى: حفظُ الدينِ وحفظُ الإسلامِ وحفظُ عقائدِ الإنسانِ وإبقاؤهم على ظاهرِ الإسلام، فإنَّ النبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أمرَه بالسّكوتِ ونهاهُ عن القيامِ معَ عدمِ المُعينِ لئلّا ينهدمَ الدينُ برأسِه ويخربَ البُنيانُ مِن أسِّه فلا يبقى منهُ شيءٌ، وقد صرّحَت بذلكَ جملةٌ منَ الرّوايات: 

مِنها: ما رواهُ الشيخُ الكُلينيّ في [الكافي ج8 ص295] بالإسنادِ عن الإمامِ الباقر (عليهِ السلام) قالَ: « إنَّ الناسَ لمّا صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر، لم يمنَع أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السلام) مِن أن يدعو إلى نفسِه إلّا نظراً للنّاسِ وتخوّفاً عليهم أن يرتدّوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثانَ، ولا يشهدوا أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ محمّداً رسولُ الله، وكانَ الأحبُّ إليه أن يُقرَّهم على ما صنعوا مِن أن يرتدّوا عن الإسلام ».

ومِنها: ما رواهُ الشيخُ الصّدوقُ في [عِللِ الشرائعِ ج1 ص149] عن عليٍّ بنِ حاتم بإسنادِه عن زُرارةَ قالَ: « قلتُ لأبي عبدِ الله (عليهِ السلام): ما منعَ أميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) أن يدعو الناسَ إلى نفسِه؟ قالَ: خوفاً مِن أن يرتدّوا » قالَ عليٌّ بنُ حاتم: وأحسبُ في الحديثِ: « ولا يشهدوا أنّ محمّداً (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه) رسولُ الله ». 

ومِنها: ما رواهُ الصّدوقُ أيضاً في [عللِ الشّرائع ج1 ص150] بالإسنادِ عن بعضِ أصحابِنا، قالَ: « قلتُ لأبي عبدِ الله (عليهِ السلام): لِمَ كفَّ عليٌّ (عليهِ السلام) عَن القوم؟ قالَ: مخافةَ أن يرجِعوا كُفّاراً ». 

ومِنها: ما نقلَه سليمُ بنُ قيس في [كتابِه ص305] عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام): « .. ثمَّ قال (صلّى اللهُ عليهِ وآله): .. واعلَم أنّكَ إن لم تكفَّ يدَك وتحقنَ دمَك إذا لم تجِد أعوانا أتخوّفُ عليكَ أن يرجعَ الناسُ إلى عبادةِ الأصنامِ والجحودِ بأنّي رسولُ الله ، فاستظهِر الحُجّةَ عليهم وادعُهم ليهلكَ الناصبونَ لكَ والباغونَ عليكَ ويُسلّمَ العامّةُ والخاصّة . فإذا وجدتَ يوماً أعواناً على إقامةِ الكتابِ والسنّةِ فقاتِل على تأويلِ القُرآن كما قاتلتُ على تنزيلِه.. ».

ومِنها: ما ذكرَه ابنُ أبي الحديدِ المُعتزليّ في [شرحِ نهجِ البلاغة ج20 ص326]: « لامَتهُ فاطمةُ (عليها السلام) على قعودِه وأطالَت تعنيفَه، وهوَ ساكتٌ حتّى أذّنَ المؤذّنُ، فلمّا بلغَ إلى قولِه: (أشهدُ أنَّ محمّداً رسولُ الله)، قالَ لها: أتحبّينَ أن تزولَ هذهِ الدّعوةُ منَ الدّنيا؟ قالَت: لا، قالَ: فهوَ ما أقولُ لك ».

أقولُ: لا يخفى على المؤمنينَ أنَّ كلامَ السيّدةِ الزّهراءِ (عليها السلام) ليسَ لوماً حقيقيّاً؛ إذ إنّها (عليها السلام) تعلمُ يقيناً أنّ تكليفَ الإمامِ (عليهِ السلام) هوَ السّكوتُ والقعودُ معَ قلّةِ الأعوانِ والأنصار، وإنّما هوَ لومٌ صوريٌّ ظاهريّ، ليُعلمَ وجهُ سكوتِ مولانا (عليهِ السلام)، ومِن بابِ إيّاكِ أعني واسمَعي يا جارة، فهَو تحريضٌ وملامةٌ للأمّةِ حقيقةً لا للإمامِ (عليهِ السلام)، كما جاءَت آياتٌ قرآنيّةٌ ظاهرُها أنّها تلومُ النبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بينَما اللومُ حقيقةً للأمّةِ لا لهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله). 

 

الغايةُ الثانية: حفظُ الأمّةِ منَ التفرقة: فإنَّ قيامَ الإمامِ (عليهِ السلام) بالسيفِ معَ قلّةِ الأنصارِ سيتسبّبُ في إيجادِ التفرقةِ بينَ المُسلمين واختلالِ أمورِهم بحيثُ يطمعُ الكُفّارُ والمُشركونَ فيهم، وقد ذكرَ ذلكَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) في بعضِ كلماتِه: 

مِنها: ما ذكرَه في كتابٍ له (عليهِ السلام) في جوابِ مُعاوية: « وقد كانَ أبوكَ أبو سُفيان جاءني في الوقتِ الذي بايعَ الناسُ فيه أبا بكر، فقالَ لي: أنتَ أحقُّ بهذا الأمرِ مِن غيرِك، وأنا يدُك على مَن خالفَك، وإن شئتُ لأملأنَّ المدينةَ خيلاً ورجلاً على ابنِ أبي قُحافة... فلم أقبَل ذلكَ، واللهُ يعلمُ أنَّ أباكَ قد فعلَ ذلكَ فكنتُ أنا الذي أبيتُ عليهِ مخافةَ الفُرقةِ بينَ أهلِ الإسلام » [بحارُ الأنوار ج29 ص632].

مِنها: ما رواهُ سُليمٌ بنُ قيس في [كتابِه ص215] عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ ـ في جوابِ سؤالِ الأشعثِ بنِ قيس ـ: « .. وأخبرَني (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أنّي مِنه بمنزلةِ هارونَ مِن موسى، وأنَّ الأمّةَ سيصيرونَ مِن بعدِه بمنزلةِ هارونَ ومَن تبعَهُ والعجل ومَن تبعَه، إذ قالَ لهُ موسى: {يا هارونُ، ما منعَك إذ رأيتَهم ضلّوا ألّا تتبعنِ أفعصيتَ أمري قالَ يا بنَ أمِّ إنَّ القومَ استضعَفوني وكادوا يقتلونَني}، وقالَ: {يا بنَ أمِّ لا تأخُذ بلِحيتي ولا برأسِي، إنّي خشيتُ أن تقولَ فرّقتَ بينَ بني إسرائيلَ ولم ترقُب قولي}، وإنّما يعني: إنَّ موسى أمرَ هارونَ - حينَ استخلفَه عليهم - إن ضلّوا فوجدَ أعواناً أن يُجاهدَهم، وإن لم يجِد أعواناً أن يكفَّ يدَهُ ويحقنَ دمَهُ ولا يفرّقَ بينَهم، وإنّي خشيتُ أن يقولَ لي ذلكَ أخي رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): لمَ فرّقتَ بينَ الأمّةِ ولم ترقُب قولي، وقد عهدتُ إليكَ إن لم تجِد أعواناً أن تكفَّ يدكَ وتحقنَ دمَك ودمَ أهلِ بيتِك وشيعتِك؟ ».

 

الغايةُ الثالثة: حفظُ الودائعِ المؤمنةِ في الأصلابِ الكافرة، فإنَّ اللهَ تعالى قدّرَ أن يولدَ بعضُ المؤمنينَ مِن أصلابِ الكافرين، والإمامُ (عليهِ السلام) يلاحظُ هذهِ القضيّةَ عندَ إرادتِه الإجهازَ على شخصٍ ما، وقد جاءَت جملةٌ منَ الرواياتِ تُبيّنُ أنَّ هذهِ القضيّةَ كانَت منَ الأمورِ التي منعَت أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السلام) مِن عدمِ رفعِ السيفِ على القومِ الظالمين..

مِنها: ما رواهُ الشيخُ الصّدوق في [عللِ الشرائعِ ج1 ص147] بالإسنادِ عن محمّدٍ بنِ أبي عُمير عمَّن ذكرَه عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ: « قلتُ له: ما بالُ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) لم يُقاتِل فُلاناً وفُلاناً وفُلاناً؟ قالَ: لآيةٍ في كتابِ اللهِ عزَّ وجل: {لو تزيّلوا لعذَّبنا الذينَ كفروا مِنهم عذاباً أليماً}، قالَ: قلتُ: وما يعني بتزايلِهم؟ قالَ: ودائعُ مؤمنين في أصلابِ قومٍ كافرين، وكذلكَ القائمُ (عليهِ السلام) لن يظهرَ أبداً حتّى تخرجَ ودائعُ اللهِ تعالى، فإذا خرجَت ظهرَ على مَن ظهرَ مِن أعداءِ اللهِ فقتلَهم ».

ومِنها: ما رواهُ الشيخُ الصّدوقُ في [عللِ الشرائعِ ج1 ص147] بالإسنادِ عن إبراهيمَ الكرخي قالَ: « قلتُ لأبي عبدِ الله (عليهِ السلام) ـ أو قالَ لهُ رجلٌ ـ: أصلحكَ الله، ألم يكُن عليٌّ (عليهِ السلام) قويّاً في دينِ الله عزَّ وجل؟ قالَ: بلى، قالَ: فكيفَ ظهرَ عليهِ القوم؟ وكيفَ لم يدفَعهم؟ وما منعَه مِن ذلك؟ قالَ: آيةٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجل منعَته، قالَ: قلتُ: وأيُّ آيةٍ؟ قالَ: قولهُ تعالى: {لو تزيّلوا لعذّبنا الذينَ كفروا مِنهم عذاباً أليماً} إنّه كانَ للهِ عزَّ وجلَّ ودائعُ مؤمنينَ في أصلابِ قومٍ كافرينَ ومُنافقين، فلم يكُن عليٌّ (عليهِ السلام) ليقتُلَ الآباءَ حتّى تخرجَ الودائع، فلمّا خرجَت الودائعُ ظهرَ عليٌّ على مَن ظهرَ فقاتلَه، وكذلكَ قائمُنا أهلَ البيت لن يظهرَ أبداً حتّى تظهرَ ودائعُ اللهِ عزَّ وجل فإذا ظهرَت ظهرَ على مَن ظهرَ فقتلَه ».

 

الغايةُ الرّابعة: حفظُ نفسِ الإمام، وحفظُ سُلالةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؛ إذ منَ الواضحِ أنَّ الإمامَ (عليهِ السلام) لو أرادَ أن يواجهَ القومَ ويحاربَهم ـ معَ قلّةِ الناصرِ ـ لقتلوهُ وقتلوا معَه أنصارَه وأهلَ بيتِه (عليهم السلام)، وهذا غايةُ آمالِ الخليفةِ وأعوانه، فيضيعُ بذلكَ جميعُ ما تحمّلَه النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) في إقامةِ الدين. 

والرواياتُ الواردةُ في وصيّةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بلزومِ حفظِ نفسِه كثيرةٌ قد مرَّ ذكرُ بعضِها، ومِنها: ما رواهُ سليمُ بنُ قيس في [كتابِه ص215] عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ ـ في جوابِ سؤالِ الأشعثِ بنِ قيس ـ: « .. وإنّي خشيتُ أن يقولَ لي ذلكَ أخي رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): لمَ فرّقتَ بينَ الأمّةِ ولم ترقُب قولي، وقد عهدتُ إليكَ إن لم تجِد أعواناً أن تكفَّ يدكَ وتحقنَ دمَك ودمَ أهلِ بيتِك وشيعتِك؟ ».

ومِنها: ما رواهُ سليمُ بنُ قيس في [كتابِه ص134] عن سلمانَ المُحمّديّ عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ: « قلتُ: بأبي أنتَ وأمّي يا رسولَ الله، فما تأمُرني إذا كانَ ذلكَ أن أفعل؟ فقالَ لك: إن وجدتَ عليهم أعواناً فجاهِدهم ونابِذهُم، وإن أنتَ لم تجِد أعواناً فبايع واحقُن دمَك، فقالَ عليٌّ (عليهِ السلام) [وخطابُه مُوجّهٌ لأبي بكرٍ وعُمر وأعوانهما]: أما واللهِ، لو أنَّ أولئكَ الأربعينَ رجلاً الذينَ بايعوني وَفوا لي لجاهدتُكم في الله، ولكن أما واللهِ لا ينالُها أحدٌ مِن عقبِكُما إلى يومِ القيامة ». 

 

ولو قلتَ: لماذا لم يصدُر مِن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) آنذاكَ أمرٌ إعجازيٌّ خارقٌ للعادة، فيقاتلَهم بما لهُ مِن قُدرةٍ تكوينيّةٍ ولو معَ قلّةِ الأنصار؟ 

قلتُ: الإمامُ (عليهِ السلام) كالنبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لا يستعملُ الأمورَ الخارقةَ للعادةِ إلّا بمواردَ محدودةٍ مُعيّنة، فالمعصومونَ (عليهم السلام) لم يكونوا مأمورينَ بالإعجازِ في جميعِ أمورِهم، بل فيما أذنَ اللهُ لهم، وقد شاءَ اللهُ تباركَ وتعالى أن يصبرَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ويتجرّعَ مرارةَ ما جرى عليهِ منَ المصائب، كما شاءَ أن يُستشهدَ سيّدُ الشهداء (عليهِ السلام) بكربلاءَ دونَ أن يستعملَ ولايتَه التكوينيّةَ، كما شاءَ أن يستشهدَ كثيرٌ منَ الأنبياءِ ويذوقوا مرارةَ العذابِ والقتلِ دونَ أن يستعملوا ولايتَهم التكوينيّة. 

والإمامُ (عليهِ السلام) أعلمُ بمواردِ استعمالِه، فسواءٌ استعملَ ولايتَه أو لا فإنّ تكليفَنا هوَ التسليمُ والقبول؛ لأنّه معصومٌ مُطهّر، لا يفعلُ إلّا الصّواب، وقد أشارَ إلى هذهِ النكتةَ سلمانُ المُحمّديّ ذلكَ الوقتَ حينَما أخذوا أميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) مِن بيتِه، حينَ تمنّى عمّارُ بنُ ياسر أن تعودَ السيوفُ لأيديهم ليقاتلوا، وذكرَ مقدادُ أنّه لو شاءَ الإمامُ (عليهِ السلام) لدعا ربَّه عليهم ـ وهوَ كنايةٌ عَن إعمالِ ولايتِه التكوينيّة ـ، فعقّبَ سلمانُ بأنَّ الإمامَ أعلمُ بما يصنعُه، وردَ عن الإمامِ الباقرِ (عليهِ السلام) قالَ: « لمّا مرّوا بأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) وفي رقبتِه حبلُ آلِ زريق، ضربَ أبو ذرٍّ بيدِه على الأخرى، ثمَّ قال: ليتَ السيوفَ قد عادَت بأيدينا ثانيةً، وقالَ مقداد: لو شاءَ لدعا عليهِ ربَّه (عزَّ وجلّ)، وقالَ سلمانُ: مولانا أعلمُ بما هوَ فيه » [اختيارُ معرفةِ الرّجال ج1 ص37]، ورُويَ عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أنّهُ قال: « لولا عهدٌ عهدَه إليَّ النبيُّ الأمّيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) لأوردتُ المُخالفينَ خليجَ المنيّةِ، ولأرسلتُ عليهم شآبيبَ صواعقَ الموت، وعن قليلٍ سيعلمون » [الكافي ج8 ص33].

معَ مُلاحظةِ أنَّ مرارةَ التحمّلِ والصّبرِ تزدادُ فيما لو كانَ الإنسانُ قادِراً على ردِّ الاعتداءِ ولو بطريقٍ إعجازيّ، وقد أشارَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) في خُطبتِه الشقشقيّةِ إلى صعوبةِ الحالِ عليهِ بقولِه: « .. فصبرتُ وفي العينِ قذى، وفي الحلقِ شجى.. »، وقالَ (عليهِ السلام): « فنظرتُ فإذا ليسَ لي مُعينٌ إلّا أهلُ بيتي، فضننتُ بهم عَن الموت، وأغضيتُ على القذى، وشربتُ على الشجى، وصبرتُ على أخذِ الكَظم، وعلى أمرِّ مِن طعمِ العَلقم »، فسلامُ اللهِ عليهِ ما أعظمَ صبرَه. 

وسيعلمُ الذينَ ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبونَ والعاقبةُ للمُتّقين

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.