هل الإسلام الذي علمه رسول الله لأصحابه تختلف عن الإسلام الذي علمه لأهل بيته ؟

يسألني بعض أصدقائي هذا السؤال مرارا وهو هل الإسلام الذي علمه رسول الله لأصحابه تختلف عن الإسلام الذي علمه لأهل بيته ؟ إذا اتبعنا سنته التي علمه أصحابه , فهل نحن على ضلال؟

الجوابُ:

السّؤالُ فيهِ تبسيطٌ مُخلٌّ لجوهرِ الخلافِ بينَ الشيعةِ والسنّة، فإذا كانَ إجماعُ الأمّةِ على القرآنِ لم يرفَع الخلافَ بينَهُم فإنَّ فرضَ اتّفاقِهم على سنّةِ الرّسولِ لا يرفعُ الخلافَ أيضاً، ففي الواقعِ إنَّ هناكَ خيارَين لمسيرةِ الرّسالةِ بعدَ وفاةِ الرسولِ الأكرم (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، الخيارُ الأوّل: هوَ الذي تحكّمَ في الواقعِ السياسيّ للأمّة، وقد ولَّدَ هذا الخيارُ وعياً إسلاميّاً يمكنُه التأقلمُ معَ أيّ نظامٍ سياسيّ، بل تكيّفَ فِعلاً معَ كلِّ المُتناقضاتِ التي حدثَت في التاريخ، ومُبرّراً ما حدثَ بينَ الصّحابةِ مِن اختلافاتٍ وحروب، حتّى أنّه ساوى بينَ عليٍّ ومعاوية، وبينَ الحُسينِ ويزيد، ولم يستشعِر بوجودِ أيّ فوارقَ بينَ الإسلامِ الذي يتبنّاهُ الإمامُ عليّ والحسينُ عليهما السلام، وبينَ الإسلامِ الذي يتبنّاهُ معاويةُ ويزيد.

 والخيارُ الثاني: هوَ الخيارُ المُنطلقُ في فهمِه للإسلامِ مِن واقعِ النصِّ الديني، القرآنِ وأحاديثِ النبيّ الأكرم (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فلم يستمدَّ وعيَهُ مِن واقعِ التجربة، وبالتالي كانَ مُعارِضاً لِما هوَ موجودٌ، فتمسّكَ هذا الخيارُ بالقياداتِ التي دلَّت عليها النصوصُ، بوصفِهم النُّخبةَ المسؤولةَ عن الرّسالةِ وهمومِها المُستقبليّة، وقد أعدّهم الرّسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأشرفَ على تأهيلِهم للقيامِ بهذا الدور، وبيّنَ فضلَهم ومكانتَهم للأُمّةِ، فطهّرَهم اللهُ منَ الرّجسِ دونَ غيرِهم، وأوجبَ على الأُمّةِ مودّتَهم. 

ومِن هُنا يمكنُنا الجزمُ، أنَّ التشيّعَ اكتسبَ شرعيّةَ خيارِه مِن خلالِ القرآنِ وتوصياتِ الرّسول (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فإذا جازَ لنا أن نقولَ: إنَّ الإسلامَ السنّيَّ ولدَ مِن رحمِ السّلطة، يجوزُ لنا أن نقولَ: إنَّ التشيّعَ ولدَ مِن رحمِ الرّسالة.  

ولو حاولتُ هُنا أن أبيّنَ، كيفَ رسمَ الشيعةُ خيارَهم لمُستقبلِ الرّسالة، ولم يتساهلوا معَ الواقعِ الموجود، فلا بدَّ أن أبيّنَ المُرتكزَ الذي مثّلَ المُفارقةَ في الوعيّ الشيعيّ وهوَ الإمامة، والإمامةُ هُنا لا تمثّلُ النظامَ السياسيّ فحسب، وإنّما تمثّلُ مرجعيّةً فكريّةً ومعرفيّةً نضبطُ مِن خلالِها وعينا بالدّين. 

فكلُّ مذهبٍ منَ المذاهبِ الفقهيّةِ أو العقائديّة، على رأسِه إمامٌ يُمثّلُ الوسيطَ لفهمِ النصِّ الديني، فالقولُ أنَّ القرآنَ والسنّةَ يُمثّلانِ مرجعاً لكلِّ مُسلِمٍ، أمرٌ لا يُصدّقُه الواقع، ففي العقائدِ نجدُه إمّا أشعريّاً أو حنبليّاً أو ... وفي الفقهِ إمّا مالكيّاً أو شافعيّاً أو...، وهذا حالُ جميعِ المُسلمينَ، وحتّى الذينَ وصلوا إلى مرحلةِ الاجتهادِ نجدُهم يدورونَ في فُلكِ أئمّةٍ سابقين، وبالتالي فإنَّ الرجوعَ بأفكارِ المُسلمينَ وعقائدِهم إلى القرآنِ والسنّةِ بشكلٍ مباشر أمرٌ فيه مُسامحة، والصحيحُ أنَّ نسبةَ هذهِ الأفكارِ والأحكامِ للأئمّةِ أصدقُ مِن نسبتِها للقرآنِ والسنّة. 

والغريبُ أنَّ أهلَ السنّةِ عندَما رفضوا الإمامةَ المَعصومة، بوصفِها وسيطاً مُعيّناً منَ اللهِ لتحقيقِ فهمٍ صحيحٍ للدّين، لم يلتزموا بهذا الرّفض، وأوجدوا مِن عندِ أنفسِهم أئمّةً أوكلوا لهُم فهمَ الدين، وتعبّدوا بآرائِهم، لأنَّ الوسيطَ الذي يحقّقُ لنا الفهمَ أمرٌ لا مفرَّ مِنه، فإمّا أن يتكفّلَ اللهُ بتعيينِه واختيارِه وإمّا أن يختارَ الناسُ لأنفسِهم مَن يتّبعوه، فإن كانَ هناكَ احتمالٌ أنَّ اللهَ قد عيّنَ لنا أئمّةً، ألا يكفي هذا الاحتمالُ لتحريكِ الأُمّةِ مِن أجلِ البحثِ عن هذا الإمام؟

 فطالما هناكَ قاعدةٌ تلزمُ الجاهلَ بالرّجوعِ إلى العالِم، لمعرفةِ مُرادِ الله، فلا بدَّ أن تكونَ لفكرةِ الإمامةِ منَ الوضوحِ بقدرِ دورِها المحوريّ في عمليّةِ الفهم، أمّا أن تكونَ مِن دونِ مُحدّداتٍ واضحةٍ ومعاييرَ مُنضبطةٍ، فإنّها ستؤدّي إلى نتائجَ سلبيّة، بل قد تكونُ معوّقاً أمامَ الحركةِ الطبيعيّةِ للأمّة، كما أنَّ الكلامَ عن مُستقبلِ الرّسالةِ ومسارِها الطبيعيّ لا يستقيمُ إلّا بالكلامِ عن الإمامةِ، لأنَّ الإمامَ هوَ الشخصُ الذي يتحمّلُ مسؤوليّةَ هذهِ الرّسالةِ مِن بعدِ الرّسول، وليسَ منَ الصّحيحِ أن يوكلَ هذا الأمرُ إلى مجموعِ الأُمّة، وذلكَ لعدّةِ أسباب.

 أوّلاً: لأنَّ الأُمّةَ بمجموعِها غيرُ مؤهّلةٍ لتسلّمِ أعباءِ هذهِ المُهمّة، فما زالَت حديثةَ عهدٍ بالكُفر، ولم تصِل إلى درجةٍ منَ النُّضجِ لكي تستوعبَ هذهِ الرّسالةَ التي جُعلَت للنّاسِ كافّة.

ثانياً: لأنَّ التباينَ والاختلافَ الذي حصلَ بين َالصّحابةِ، والحروبَ التي دارَت بينَهم، تؤكّدُ على أنَّ إيكالَ الأمرِ لمُجمَلِ الأُمّةِ هوَ حُكمٌ على التجربةِ بالفشل؛ لأنَّ التنازعَ والاختلافَ يؤثّرُ على البُنيةِ الموحّدةِ للدّعوة، ممّا يُهدّدُ وجودَها ومُستقبلها.

ثالثاً: إنَّ وجودَ تيّارٍ منَ المُنافقينَ بينَ الصّحابة، يُهدّدُ مُستقبلَ الدّعوة، وخاصّةً أنَّ هذا التيّارَ يمتلكُ قُدرةً منَ التخفّي، لا تستطيعُ الأُمّةُ معَها التمييزَ بينَ المؤمنِ والمُنافق، حتّى قالَ اللهُ تعالى في حقّهم: ﴿وَمِمَّن حَولَكُم مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ وَمِن أَهلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعلَمُهُم نَحنُ نَعلَمُهُم﴾، ووجودُ هذا التيّارِ الذي يُمثّلُ جُزءاً مِن مكوّناتِ هذا المُجتمع، يُعتبرُ عقبةً حقيقيّةً أمامَ أيّ مشروعٍ مُستقبليٍّ للرّسالة، فإمكانيّةُ تأثيرِ هذا التيّارِ على مصادرِ القرارِ والرّأي العامّ، إمكانيّةٌ كبيرة، خاصّةً وأنَّ هذا التيّارَ يُمثّلَ خطراً في نظرِ القرآن، ولذلكَ حذّرَ منهُ في كثيرٍ منَ الآيات، بل أمرَ اللهُ نبيّهُ أن يُقاتلَ المُنافقينَ كما أمرَهُ بقتالِ الكُفّار: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم﴾.    

رابعاً: مستوى التفاوتِ في درجاتِ العلمِ والفهمِ بينَ الصّحابة، يفرضُ عقلاً أن يتصدّرَ بعضُهم موقعَ القيادةِ والمسؤوليّة، كنُخبةٍ تُمثّلُ مرجعيّةً فكريّةً وثقافيّةً لبقيّةِ الأُمّة، ممّا يجعلُ وجودَ جهةٍ مُحدّدةٍ هوَ الخيار الطبيعيّ لتحمّلِ أعباءِ الرّسالة، الأمرُ الذي يرجعُ بنا مِن جديدٍ إلى رفضِ أن يكونَ مجموعُ الأُمّةِ هوَ المسؤول عن مُستقبلِ الرّسالة؛ لأنّهُ أمرٌ لا يتماشى معَ الطبيعةِ البشريّة، التي توكلُ الأمورَ إلى أهلِ الاختصاص.  

خامساً: إنَّ تسارعَ بعضِ الصّحابة، للاجتماعِ في سقيفةِ بني ساعدة، لتعيينِ خليفةٍ بعدَ وفاةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مُباشرةً، يؤكّدُ أنَّ الأمرَ لا يستقيمُ إلّا بتعيينِ مَن يتولى أمورَ الإسلامِ والمُسلمين، ومِن هُنا يُصبحُ وجودُ خليفةٍ ضرورةً تفرضُها طبيعةُ الرّسالةِ نفسُها، لأنَّ مُستقبلَ الرّسالةِ ومسيرةَ الدعوة، لا بدَّ أن تكونَ منوطةً بشخصٍ مُحدّد، يتحمّلُ أعباءَ هذهِ المسيرة.

وكما سبقَ وأكّدنا، فإنَّ حاجةَ الأُمّةِ إلى هذا الإمام، ليسَ على مُستوى الضرورةِ السياسيّةِ فحسب، معَ ما تمثّلهُ هذهِ الحاجةُ مِن أهميّةٍ لنظمِ أمرِ المُسلمين، وتحديدِ خياراتِهم المُستقبليّةِ وضبطِ رؤيتِهم الإستراتيجيّة، إلّا أنَّ الإمامَ معَ ذلكَ يقومُ بالدورِ المِحوريّ لبيانِ مضامينِ هذهِ الرّسالة، وتفهيمِ الأُمِّة وتوعيتِها بحقيقةِ الإسلام، بوصفِه المرجعيّةَ التي تُحقّقُ فهمَ النصّ، والجهةَ الموثوقةَ لبيانِ مدلولاتِ الرّسالةِ وتحديدِ مُراداتِ اللهِ عزَّ وجل، ولذلكَ لا يمكنُ الاكتفاءُ بالنصِّ دونَ آليّةٍ تضبطُ فهمَ ذلكَ النص.

كلُّ هذا الكلامِ يبتني على مُفارقةٍ جوهريّة، هيَ أساسُ الخلافِ بينَ الطرحِ الشيعيّ والسنّيّ في موضوعِ الإمامة، فالإمامُ عندَ الشيعةِ لا بدَّ أن يكونَ معصوماً منَ الخطأ، وهذا الشرطُ هوَ الذي يميّزُ الإمامَ عن بقيّةِ المُسلمين، حتّى تكونَ لهُ أولويّةُ القيادةِ والاتّباع، ومن دونِ هذا الشرطِ لا يمكنُ تسميتُه إماماً؛ لأنّهُ حينئذٍ يكونُ مأموماً لحاجتِه لمَن هوَ أفضلُ منه. 

والعصمةُ قبلَ أن تكونَ ضرورةً شرعيّة، فهيَ ضرورةٌ عقليّة، فالعقلُ يقضي بوجوبِ اتّباعِ المعصوم، كما يحكمُ بقُبحِ تركِه واتّباعِ غيرِه، وقد تسالمَ بناءُ العُقلاءِ على أنَّ المرجعيّةَ المعصومةَ هيَ الطريقُ الذي يُحقّقُ وحدةَ النّاس، وأنَّ السّببَ المُباشرَ لتشتّتِ الجهودِ واختلافِ الناسِ هوَ تعدّدُ القيادات، وهذا حكمٌ توافقَ عليهِ كلُّ العُقلاء، فلا يمكنُ توحيدُ أيّ مجموعةٍ منَ الناسِ كبيرةً أو صغيرةً ضمنَ رؤيةٍ واحدةٍ وتوجّهٍ واحد، إلّا بأن يكونَ على رأسِ هذه المجموعةِ شخصٌ واحد، يمثّلُ المرجعيّةَ الفكريّةَ لهذهِ المجموعة، ولا يمكنُ ضمانُ مسارِ هذه المجموعةِ من دونِ أيّ انحراف، إلّا إذا اتّصفَ هذا القائدُ بالعِصمة. 

وهكذا الإسلامُ لا يمكنُ أن يكونَ واحداً، إلّا إذا كانَ هناكَ إمامٌ معصومٌ يلتزمُ الناسُ باتّباعِه، كما لا يمكنُ أن تُحقّقَ الأُمّةُ الاطمئنانَ في مسيرِها، إلّا إذا كانَ على رأسِها معصوم.

فإذا خُيّرَ الإنسانُ المُسلِمُ، بينَ أن يختارَ اللهُ له إماماً معصوماً ليتّبعَه، وبينَ أن يختارَ هوَ لنفسِه إماماً مِن بينِ عامّةِ الناس، فاختيارُ اللهِ هوَ الرّاجحُ عندَ كلِّ عاقل؛ لأنَّ العقلَ لا يجدُ سبباً للفُرقةِ بينَ الناس، إلّا تعدّد القياداتِ التي تُمثّلُ خياراتٍ مُختلفة، يمكنُ للنّاسِ اتّباعُها، ولا يمكنُ أن يتحقّقَ إجماعُ المُسلمينَ على إمامٍ واحد، إلّا إذا كانَ هذا الإمامُ معصوماً ومُختاراً مِن قبلِ اللهِ عزَّ وجل.

فتفويضُ الأمرِ إلى الأُمّةِ يؤدّي بشكلٍ قطعيّ إلى تعدّدِ الأئمّة، وهوَ السببُ المُباشرُ لوجودِ هذه المذاهب، لأنَّ المذهبَ بإشارةٍ مباشرةٍ هوَ إمامٌ له أتباع، وكلّما تعدّدَت الأئمّةُ تعدّدَت المذاهبُ، ولو قطعَ الرسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) الطريقَ على الأُمّةِ، بأن عيّنَ لها أئمّةً أوكلَ إليهم أمرَ الدين، وأمرَ الناسَ باتّباعِهم فحينئذٍ لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ هناكَ مذاهبَ وفِرقاً.

هذهِ الضّرورةُ العقليّةُ والحالةُ الفطريّةُ تُمثّلُ الرّكيزةَ الأولى للخيارِ الشيعيّ، ومنَ الواضحِ أنَّ هذا الخيارَ يصطدمُ معَ واقعِ التجربةِ التي حكمَت الأُمّةَ، ممّا يعني أنَّ الشيعةَ لم يَبنوا فهمَهم للدّينِ على واقعِ التجربة، كما أكّدنا سابقاً، وبالتالي لا نجدُ مُبرّراً لرفضِ هذا الفهم، سِوى التماشي معَ الواقعِ وتفادي الاصطدامِ بالتجربةِ التي حكمَت، فالمُسلمُ والحالُ هذه بينَ خيارين: التمرّدُ على حُكمِ العقلِ والنقل، أو التمرّدُ على واقعِ التجربةِ الإسلاميّة.

فحاجةُ الأُمّةِ للإمامِ المعصومِ هيَ لبيانِ مضامينِ هذهِ الرّسالة، دونَ الانحرافِ عن حقائقِ الدينِ ومعالمِه، فهُم الجِهةُ الموثوقةُ والقدوةُ المعصومة، والعترةُ الطاهرةُ التي أذهبَ اللهُ عنها كلَّ رجسٍ وعيب، ولذا أوجبَ اللهُ علينا اتّباعَهم وأخذَ الدينِ عَنهم، كما أوجبَ ذلكَ على الصّحابةِ أنفسِهم، فلا يمكنُ الاكتفاءُ بالنصِّ دونَ مرجعيّةٍ لفهمِ ذلكَ النصّ، قالَ تعالى: (فاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إن كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ) وأهلُ البيتِ (عليهم السلام) هُم المِصداقُ الأتمُّ لأهلِ الذكرِ الذينَ يجبُ أن نسألَهم ونتعلّمَ مِنهم.