"المجدد"ما معنى التجديد في الدين؟

يوصف بعض العلماء بأنه "المجدد".. فما معنى التجديد في الدين؟ وهل هو من صلاحيات الفقيه أم المعصوم؟

الجوابُ:

المقصودُ منَ التجديدِ هوَ جعلُ الخِطابِ الإسلاميّ مواكِباً لمُقتضياتِ الظّرفِ الزّماني، فصلاحيّةُ الإسلامِ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ تستدعي مواكبةَ الخِطابِ لِما يحصلُ في الحياةِ مِن مُتغيّرات، وعليهِ لا يعني التجديدُ تغييرَ ثوابتِ الإسلام وإنّما يعني إخضاعَ مُتغيّراتِ الحياةِ لتلكَ الثوابت، فالتكاملُ بينَ العقلِ والوحي هوَ الذي يجعلُ الإسلامَ مُهيمناً على مُتغيّراتِ الحياة، فالعقلُ هوَ المسؤولُ عن فهمِ قيمِ الدينِ وحِكمِه، وبالتالي ينضبطُ العقلُ بهذهِ الحِكمِ ويسترشدُ بهذهِ القيم في مُلاحقتِه للواقع، فمِن دونِ الوحي المُذكِّرِ بهذهِ القيمِ تغيبُ الضوابطُ التي تُحدّدُ مسارَ العقل، ومِن دونِ العقل تصبحُ هذهِ القيمُ حالةً مثاليّةً ليسَ لها علاقةٌ بالواقع، فالعقلُ هوَ الذي يكتشفُ الواقعَ المُتغيّر، وبالتّالي يمكنُه إرجاعُ تلكَ المُتغيّراتِ إلى القيمِ التي يذكِّرُ بها الوحي، وهذهِ التكامليّةُ بينَ الوحي والعقلِ هيَ التي تمنحُ الدينَ حالةَ الاستمرار، بحيثُ تجعلهُ في حالةٍ منَ التطوّرِ الدائمِ المواكبِ لكلِّ جديد، وعليهِ فإنَّ التجديدَ ليسَ ضرورةً تفرضُها الظروفُ فحَسب وإنّما حقيقةٌ تفرضُها طبيعةُ الرّسالةِ الخاتمةِ أيضاً.

والتطويرُ هُنا ليسَ أكثرَ منَ الدعوةِ للعملِ بالعقلِ كما طلبَ القُرآن وأكّد عليه، ولا يمكنُ أن نفهمَ ذلكَ التأكيدَ إلّا مِن أجلِ خلقِ حركةٍ تجديديّة، بحيثُ تشملُ كلَّ مناهجِ وطرقِ العملِ بالشريعةِ وِفقاً للضّروراتِ التي يكتشفُها العقل، ومِن هُنا فإنَّ دعوةَ القرآنِ إلى العقل هيَ دعوةٌ صريحةٌ إلى التطوير، وبتعبيرٍ آخر: إنّها دعوةٌ إلى ضرورةِ فهمِ الشريعةِ وتطبيقِها في إطارِ العقلِ الذي تدعو الشريعةُ ذاتُها إليه، بل القرآنُ الكريم كلُّه إثارةٌ للعقلِ وتطهيرٌ للقلبِ ليكونَ الإنسانُ أكثرَ اقتداراً على إدارةِ الحياة.

وعليهِ فإنَّ العقلَ يُمثّلُ محورَ أيِّ عملٍ تجديديّ ضمنَ الرؤيةِ القرآنيّة، ولذلكَ أكّدَ عليهِ الشرعُ في أمرِه المُباشرِ بضرورةِ التعقّل، ولم يُشكِّك أبداً في أحكامِه، والتطوّرُ الذي هوَ سُنّةُ اللهِ في الحياةِ البشريّة، لابدَّ أن يكونَ ضمنَ هُدى العقل، فإذا تطوّرَت الظروفُ وأمرَ العقلُ بتطبيقِ أمرٍ مُختلِف عمّا كانَ سابقاً فيجبُ اتّباعُه. 

ولم يأمُر القرآنُ بالتقدّمِ والتطوّرِ فحَسب وإنّما قدّمَ مُعالجاتٍ لكلِّ العقباتِ التي تواجِهُ تلكَ المسيرةَ، مثلَ (تقديسِ الآباءِ وتراثِهم، وتقليدِ المُجتمعِ الفاسدِ والخشيةِ مِنه، ومنَ السّلطاتِ الطاغية، وغيرِ ذلكَ منَ الأصنامِ والعاداتِ الفاسدة)، وبالتالي عملَ الإسلامُ على تحطيمِ كلِّ صنمٍ يُقدَّسُ مِن دونِ الله أيّاً كانَ اسمُه وصورتُه.

كما لم يكتفِ القرآنُ بالتأكيدِ على ضرورةِ مُراعاةِ الواقع عندَما أمرَهُ بالتعقّلِ والتدبّر، وإنّما ذكَّرَ ببعضِ النماذجِ، التي يتدخّلُ فيها الظرفُ في تحديدِ الحُكمِ الشرعيّ، ونضربُ لذلكَ بعضَ الأمثلة.

1- الأخذُ بالأحسَن، قالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُوا الأَلبابِ﴾، وقالَ: ﴿وَقُل لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطانَ كانَ لِلإِنسانِ عَدُوًّا مُبِيناً﴾. 

ومعروفٌ أنَّ الأحسنَ يخضعُ للمُتغيّرات، فما هوَ الأحسنُ في حالةٍ، قد لا يكونُ الأحسنَ في حالةٍ أخرى، ولعلّهُ لذلكَ أمرَ باتّباعِ الأحسنِ وتركِ الحسنِ الذي قد يتنافى والظروفِ المُستجدّة، والذي يظهرُ منَ السياقِ في الآيةِ الثانية، أنَّ المقياسَ لمعرفةِ الأحسنِ أمران:

الأوّلُ: الأحسنُ بالنظرِ إلى سائرِ الأدلّة، فقد يكونُ للقولِ الواحدِ أكثرُ مِن معنىً مُحتمَل، فعلينا أن ننظُرَ أيَّ معنىً يتوافقُ أكثرَ فأكثر معَ روحِ الشريعة، وعُرفِ المُتشرّعة، وبتعبيرٍ أدق: معَ سائرِ النصوصِ الدينيّة، لأنَّ اللهَ سُبحانَه يقول: ﴿الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُوا الأَلبابِ﴾، فعرَفنا أنَّ هدايةَ اللهِ لهُم، جعلَتهم يختارونَ الأحسنَ، فإذاً هُم كانوا يستفيدونَ مِن هُدى الله في تقييمِ القولِ ومعرفةِ أحسنِه.

الثاني: نورُ العقل، والذي يهدي صاحبَهُ إلى الأحسنِ بالنّسبةِ إلى نفسِه في ضعفِها وقوّتِها، إقبالِها وإدبارِها، أو بالنّسبةِ إلى ظروفِه ومُجتمَعِه، وهكذا، لأنَّ اللهَ سُبحانَه قالَ في ختامِ الآية: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُوا الأَلبابِ﴾.

2- اتّباعُ المعروفِ والبُعدُ عَن المُنكَر، قالَ سُبحانَه: ﴿خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجاهِلِينَ﴾، والعُرفُ والمَعروف، قد لا يكونُ في كلِّ الظروفِ واحِداً، بل يتغيّرُ ضِمنَ مجموعةِ عواملَ يهتدي إليها العَقل، وكذلكَ النّكرُ والمُنكَر، وقد أفتى فقهاءُ الإسلام في مواردَ شتّى، وانطلاقاً مِن هذهِ الآيات، بضرورةِ رعايةِ العُرف، وما العُرفُ إلّا ما اهتدى إليهِ الناسُ بعقولِهم، وفي إطارِ ظروفِهم المُتغيّرة. 

3- لقد بعثَ اللهُ رسولَهُ إلى الناسِ ليتلو عليهم آياتِه ويعلّمَهم الكتابَ والحِكمة، فقالَ سُبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُوا عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾

والسؤالُ: ما هيَ الحِكمة؟ أليسَت هيَ معرفةُ أصولِ العِلم، ومبادئِ الفقهِ التي يعرفُ الإنسانُ بها حُكمَ كلِّ حادثةٍ وواقعة؟ وهذا يعني أنَّ الحياةَ تتطوّرُ والشريعةُ خالدةٌ، لأنّها تُعطي المؤمنينَ الحكمةَ التي تؤهّلُهم لمعرفةِ أحكامِ الشريعة، أنّى تطوّرَت الحياة.

وفي المُحصّلةِ إنَّ إثارةَ نصوصِ الإسلامِ للعَقل، ومُخاطبتَه للعُقلاء، ورفعَ حُجبِ الشّهوات، وتنميةِ الإرادةِ، كلُّ ذلكَ يُقصَدُ مِنه العملُ بما يقتضيهِ العقلُ والعِلم، وبما يكشفانِ مِن حقائقِ الحياةِ وواقعيّاتِها، فإن كانَت الحقائقُ ثابتةً عمِلنا وفقِهنا، وإذا كانَت مُتغيّرةً عمِلنا وفقِهنا أيضاً..