هل غاية الإمام الحسين (ع) من نهضته هي الاستشهاد؟!
السؤال: يقول الشيخ حيدر حبّ الله في كتابه (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر، الجزء 3، صفحة 326)، عن الخطبة التي أعلن فيها الإمام الحسين عليه السلام شهادته، متحدّثاً عن تقطيع أوصاله بين النواويس وكربلاء، بأنّ الخطبة لم يثبت صحّة سندها، فيصعب الاستناد إليها! وهذا الكلام يتنافى مع القول بأنّ غاية الإمام من نهضته الاستشهاد؟!
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
بدءاً، لا بدّ من لفت نظر السائل الكريم، أنّ العبارة المذكورة جاءت في سياق بحث فقهيّ عن مبرّرات الخروج على الأنظمة الفاسدة، ولأنّ نهضة سيّد الشهداء عليه السلام كانت من أبرز أدلّة القائلين بالجواز، تصدّى لتحليل بعض مفرداتها بما يتعلّق بموضوع الثورة والخروج على الحاكم الفاسد، واليك نصّ عبارته: «من الواضح أنّ البحث الفقهيّ في شرعيّة الثورة على الأنظمة الفاسدة من الأبحاث الضروريّة التي تحتاج الى قراءة متأنّية وواعية... ستّة عشر دليلاً لصالح نظريّة شرعيّة الثورة، وكان من بينها ومن أبرزها الاستناد المرجعيّ لنهضة الإمام الحسين عليه السلام، حيث شهد هذا الدليل تنشيطاً ملحوظاً خلال القرن الماضي. بدورنا سوف نحاول تحليل هذه الثورة بما يتّصل بهذا الموضوع..». دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر، ج3، ص305.
فالسؤال الذي كان الكاتب يبحث عن إجابته هو: متى يجوز الخروج على الحاكم والنظام الجائر؟ وهل يمكن استفادة ذلك من خروج الحسين عليه السلام؟
لنتمكّن من الإجابة عن السؤال الثاني، لا بدّ من تحديد غاية الإمام عليه السلام في خروجه، فإنْ كان سبب حركته عليه السلام ـ كما يذهب الكثير من علمائنا ـ هي امتثاله لتكليف خاصّ به، وانطلاقاً من أوامر غيبيّة وجّهت إليه، فحينئذ تغدو حركته حكماً خاصّاً به، لا يمكن الإفادة منه في معرفة حكم الثورة والخروج على الحاكم الفاسد. بخلاف ما لو كانت له عليه السلام مقاصد وغايات، كإسقاط النظام واستلام السلطة أو إحياء ضمير الأمّة الميّت، ونحو ذلك.
فكان الكاتب بصدد نقد أدلّة النظريّة الأولى، والتي منها القول الوارد في السؤال.
والخلاصة: أنّ الشيخ حيدر حبّ الله كانت زاوية بحثه "إمكان استفادة حكم كلّيّ من خروج الإمام الحسين في كربلاء أم لا؟" وبالتالي ناقش الأدلّة المانعة من ذلك، والتي تجعل من الثورة الحسينيّة حكماً خاصّاً بالحسين عليه السلام.
ويخلص الى النتيجة التالية: «من هنا نستنتج أنّ الثورة الحسينيّة ليست من خصائص الإمام الحسين عليه السلام حتّى نخرجها عن دائرة الاستناد الفقهيّ». المصدر نفسه، ص326.
لكن ينبغي الالتفات الى أنّ الكاتب، لم يستقصِ الروايات التي تناولت أسباب خروجه عليه السلام، وبالتالي توهّم أنّ مستند القائلين بخروجه عليه السلام امتثالاً لأوامر غيبيّة، هي خصوص الأحاديث التي ناقشها، مع أنّ نصوصنا مستفيضة عن النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم بما يؤكّدها، من ذلك: صحيحة ضريس الكناسيّ عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام عندما سأله حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ وجلّ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: «يا حمران إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه، ثمّ أجراه. فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلّى الله عليه واله قام عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، وبعلم صمت من صمت منّا». الكافي، ج1، ص262.
وكذلك حديث العمريّ عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل على نبيّه صلّى الله عليه واله كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمّد هذه وصيّتي الى النُجَبَة من أهلك.. فدفعه النبيّ صلّى الله عليه واله الى أمير المؤمنين عليه السلام، وأمره أن يفكّ خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففكّ أمير المؤمنين عليه السلام خاتماً وعمل بما فيه. ثمّ دفعه الى ابنه الحسن عليه السلام، ففكّ خاتماً منه وعمل بما فيه. ثمّ دفعه الى الحسين عليه السلام، ففكّ خاتماً منه فوجد فيه: أنِ اخرج بقوم الى الشهادة، فلا شهادة لهم إلّا معك، واشترِ نفسك لله عزّ وجلّ. ففعل. ثمّ دفعه الى عليّ بن الحسين عليه السلام..»، الكافي، ج1، ص280.
هذا إذا تغافلنا عن استفاضة الأحاديث التي نقلها الفريقان عن النبيّ صلّى الله عليه واله في أخباره بقتل ولده، إن لم نقل بتواترها، بل كان ذلك معلوماً عند كثير من المسلمين، فقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله خطب في المسلمين، وأخبرهم بقتل الحسين عليه السلام فضجّ الناس بالبكاء، فقال صلّى الله عليه واله: «أتبكون ولا تنصرونه؟!..». [مقتل الحسين للخوارزميّ، ج1، ص163، والفتوح لابن أعثم، ج4، ص328، بحار الأنوار، ج44، ص248].
وعن ابن عباس أنّه ذكر خطبة النبيّ صلّى الله عليه واله في ذلك، وقال: «ثمّ نزل عن المنبر، ولم يبقَ أحد من المهاجرين والأنصار إلّا وتيقّن بأنّ الحسين مقتولاً». [مقتل الحسين للخوارزميّ، ج1، ص164، والفتوح لابن أعثم، ج4، ص328].
كما روي عن ابن عباس أنّه قال: «ما كنّا نشكّ وأهل البيت متوافرون أنّ الحسين بن عليّ يقتل بالطف». [المستدرك على الصحيحين، ج3، ص179].
وقال الشيخ المفيد (ره): «وروى عبد الله بن شريك، قال: كنت أسمع أصحاب عليّ عليه السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن عليّ عليه السلام. وذلك قبل قتله بزمان». [الإرشاد، ج2، ص131].
وروى أهل السنة أنّ عمر بن سعد قال للإمام الحسين عليه السلام: إنّ قوماً من السفهاء يزعمون أنّي أقتلك. فقال له الإمام الحسين عليه السلام: «ليسوا سفهاء، ولكنّهم حلماء. ثمّ قال: والله إنّه ليقرّ بعيني أنّك لا تأكل برّ العراق بعدي إلّا قليلاً». [تاريخ دمشق، ج45، ص48، في ترجمة عمر بن سعد، تهذيب الكمال، ص359، تهذيب التهذيب، ج7، ص369، تاريخ الإسلام للذهبيّ، ج5، ص195]. ولمن أراد التوسعة فليراجع كتاب فاجعة الطف للمرجع المرحوم السيّد محمّد سعيد الحكيم (ره).
كما تكاثرت الأدلّة التاريخيّة من مصادر الفريقين أنّه عليه السلام تجنّب مظانّ السلامة مع توفّرها، وما ذلك إلّا لأنّه كان يسعى للشهادة امتثالاً، والشواهد كثيرة، يكفيك لقاءه عليه السلام مع الطرماح بن عديّ الطائيّ، فنصحه الطرماح باللجوء الى جبل "أجأ"، فقال له: فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك، ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى "أجأ". امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذُل قطّ. فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثمّ نبعث الى الرجال من بأجأ وسلمى من طيء. فوالله لا يأتي عليك عشرة أيّام حتّى يأتيك طيء رجالاً وركباناً. ثمّ أقم فينا ما بدا لك. فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم. والله لا يوصَل اليك وفيهم عين تطرف.
فجزاه الإمام الحسين عليه السلام وقومه خيراً، وقال: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم ـ يقصد جيش الحرّ ـ قول لسنا نقدر معه على الانصراف. ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة». [تاريخ الطبريّ، ج4، ص50، البداية والنهاية، ج8، ص188، أنساب الأشراف ج3، ص383].
كما يلاحظ على قول الشيخ حبّ الله: «إنّ غاية ما تدلّ عليه جملة النصوص المتقدّمة أو أغلبها، أنّ الإرادة الإلهيّة قد تعلّقت بشهادة الحسين، وهذا لا يعني أنّ هذه الشهادة غدت خاصّة به، بل هذا المدلول أعمّ من الاختصاص وعدمه...». [دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر، ج3، ص319].
أنّ فيه غفلة عن النصوص التي صرّحت بما لا يقبل الشكّ، بأنّ سبب خروجه عليه السلام علم سابق ـ أي تكليف ـ وصل اليه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلا تقتصر دلالة الأحاديث على علمه عليه السلام بمقتله، بل هي صريحة بسبب الخروج.
وأمّا ما استدلّ به الشيخ حبّ الله من أحاديث ذكر فيها الإمام عليه السلام بعض المقاصد والغايات، فقد أجاب عنها السيّد الحكيم (ره)، في فاجعة الطف، (ص50)، بقوله: «ولذا كان عليه السلام يبدو عليه الإحراج مع كثير من ناصحيه من أهل الرأي والمعرفة، الذين يعتمدون المنطق في موازنة القوى. وأقوى ما كان يعتذر به ممّا يصلح لأن يقنع الناس أنّه خرج من مكّة خشية أن تهتك به حرمتها وحرمة الحرم. وفي حديث له مع جماعة فيهم عبد الله بن الزبير: «والله لئن أقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أقتل فيها. ولئن أقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إلي من أن أقتل خارجاً منها بشبر. وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت».
وفيما عدا ذلك كان (صلوات الله عليه).. تارة يكتفي ببيان تصميمه على الخروج ويتجاهل حسابات الناصحين، أو يعدهم النظر في الأمر، أو أنّه سوف يستخير الله تعالى في ذلك، أو يشكر لهم نصحهم، تطييباً لخواطرهم، من دون أن يتعرّض لمناقشة حساباتهم. ثمّ لا يتراجع عن تصميمه. نظير ما تقدّم منه مع ابن عباس وغير ذلك ممّا كان منه معه ومع غيره.
وأُخرى: يعترف بصواب رأيهم، إلّا أنّه لا بدّ من تجاوزه. فقد قال لأحد بني عكرمة: «يا عبد الله إنّه ليس يخفى عليَّ الرأي ما رأيت. ولكن الله لا يغلب على أمره». [تاريخ الطبري، ج4، ص301].
وثالثة: يقطع الطريق عليهم، معتذراً بأنّه رأى رسول الله في المنام، فأمره بأمر هو ماض له. قال ابن الأثير: «فنهاه جماعة، منهم أخوه محمّد بن الحنفيّة وابن عمر وابن عباس، وغيرهم، فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام وأمرني بأمر، فأنا فاعل ما أمر». [أُسد الغابة، ج2، ص21].
ولما سئل عن الرؤيا قال: «ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها أحداً حتّى ألقى ربّي»، كما روي ذلك في حديثه مع عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد بن العاص حينما أدركاه في الطريق بعد خروجه من مكّة المكرمّة. [الكامل في التاريخ، ج4، ص41].
اترك تعليق