الإشكالات المترتّبة على نفي الأشاعرة للغرض والغاية عن أفعاله تعالى..!.

السؤال: هل في قول الأشاعرة (أفعال الله غير معلَّلةِ المصالح والغايات) مشكلة..؟!

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم..

وبعد.. اعلم أخي السائل الكريم، أنّ الإجابة عن سؤالكم تتلخّص في بيان أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الذي يُفهم من كلمات علماء الأشاعرة هو أنّ لهم مسلكين في مسألة نفي الغرض والغاية عن أفعاله تعالى، فلا بدّ من ذكرهما؛ لأنّ جواب سؤالكم - في الجملة - تارة يرتبط بالقول الأوّل منهما وأخرى بالثاني، وإليك بيانهما:

المسلك الأوّل: عدم جواز أن تكون أفعالُه تعالى معلّلةً بالغرض والغاية، قال الرازيّ:((لا يجوزُ أن تكونَ أفعالُ اللهِ تعالى وأحكامُه مُعلَّلةً بعِلَّةٍ البتَّةَ))[الأربعين في أصول الدين:ج1،ص350] وعن العضد الإيجيّ: ((إنَّ أفعالَ اللهِ تعالى ليست مُعَلَّلةً بالأغراضِ، إليه ذهبَتِ الأشاعِرةُ، وقالوا: لا يجوزُ تعليلُ أفعالِه تعالى بشيءٍ مِن الأغراضِ والعِلَلِ الغائيَّةِ))[شرح المواقف للقاضي الجرجانيّ:ج8،ص202].

والمسلك الثاني: ما يظهر من كلمات بعض آخر منهم من أنّه تعالى لا يجب عليه أن يفعل لغرض وغاية، وإن أمكن وجود غرض وغاية في بعض أفعاله، قال الآمديُّ: ((لا نُنكِرُ كونَ اللهِ تعالى حكيمًا في فِعلِه..!، ولكنَّ ذلك يتحقَّقُ فيما يُتقنُه في صُنعِه، وتحقُّقُه على وَفقِ عِلمِه به وإرادتِه، ولا يتوقَّفُ ذلك على أن يكونَ له في فِعلِه غَرَضٌ وغايةٌ، والعَبَثُ إنّما يلزمُ في فِعلِه بانتفاءِ الغرَضِ فيه أنْ لو كان فِعْلُه ممَّا يُطلَبُ فيه الغرَضُ، وهو محَلُّ النِّزاعِ))[أبكار الأفكار في أصول الدين:ج2،ص157]، وعن الغزاليّ قال:(( (الأصل السابع: أنّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء، فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده ؛ لما ذكرناه من أنّه لا يجب عليه سبحانه شيء، بل لا يعقل في حقِّه الوجوب، فإنّه: "لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ"))[إحياء العلوم للغزاليّ:ج2،ص196]. وهنا لا بدّ من التنبيه على بعض الفروق بين المسلكين المذكورين لأهميّة ذلك، فنقول:

1- إنّ معنى عدم الجواز المذكور في القول الأوّل هو الاستحالة وضرورة الامتناع، وبعبارة أدقّ معناه: وجوب نفي الغرض والغاية، بخلاف القول الثاني فإنّ معنى عدم وجوبهما هو إمكانهما، أي أنّ ذلك ليس واجباً عليه تعالى ولا لازماً لفعله، فقد تكون بعض أفعاله معلّلة ولها غرض، وقد لا تكون كذلك. قال التفتازانيّ: ((ما ذهب إليه الأشاعرة: من أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض، يفهم من بعضِ أدلّته عموم السلب ولزوم النفي، بمعنى أنّه يمتنع أن يكون شيء من أفعاله معلّلاً بالغرض، ومن بعضها [الآخر] سلب العموم ونفي اللزوم بمعنى أنّ ذلك ليس بلازم في كلّ فعلٍ...))[شرح المقاصد في علم الكلام للتفتازانيّ:ج2،ص156].

2- إنّ المسلك الأوّل يرجع في حقيقته إلى خلط الأشاعرة بين الغرض الفاعليّ والغرض الفعليّ، بخلاف الثاني فهو راجع إلى خلطهم بين مفهوم الوجوب العقليّ ومفهوم الوجوب الشرعيّ أو فقل المولويّ، وسيأتي بيان ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

3- إنّ المسلك الأوّل هو مشهورهم والمعروف عنهم بين المذاهب الكلاميّة، بخلاف الثاني، إذْ قال كبيرهم أبو الحسَنِ الأشعريُّ: ((لا يُسأَلُ في شيءٍ من ذلك عمَّا يفعلُ، ولا لأفعالِه عِللٌ؛ لأنَّه مالِكٌ غيرُ مملوكٍ، ولا مأمورٍ ولا مَنهيٍّ)) [رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب:ص241].

الأمر الثاني: أنّ اختلاف الأشاعرة على مسلكين لا يعفيهم من ترتّب جملة من المشاكل سواء على كلّ واحد منهما أم عليهما معاً، وسنتكلّم هنا فقط عن أبرز ثلاثة إشكالات يمكن أن ترد على المسلكين معاً لكفاية ذلك في الكشف عن فسادهما:

الإشكال الأوّل: تَرَتُّب الكثير من الإشكالات واللوازم الفاسدة على كلا المسلكين، منها ما ذكره العلّامة الحلّيّ وهو التالي:

اللازم الأوّل: إثبات العبثيّة واللغو له تعالى على القولين؛ لأنّ كلّ فعل يخلو من الغاية يكون عبثاً ولغواً، وهذا أمر واضح، مع أنّ انتفاء اللّغو والعبث عنه تعالى أمر لازم لكماله سبحانه ؛ لأنّهما قبيحان، فلا بدّ من تَنزُّهه عنهما. [نهج الحق للعلّامة الحلّيّ:ص89]

اللازم الثاني: منافاته للعدل الإلهيّ واستلزامه للظلم ؛ لأنّه تعالى إذا كان يفعل لا لغاية أو مصلحة لم يجب عليه فعل الحسن وترك القبيح، فيتساوى عند المؤمن والكافر يوم القيامة، ولا يمتنع دخول الأوّل للنار والثاني للجنّة..!، وهذا في غاية الفساد.[ المصدر السابق: ص94]، والغريب أنّ الأشاعرة يقرّون بهذا اللازم ولا ينفونه بل هو من جملة معتقداتهم في الله تعالى ولا يعدّونه ظلماً..!.

اللازم الثالث: لزوم بطلان جميع النبوّات؛ إذْ لو أظهر الله المعجز ولم يكن لغرض التصديق بالنبيّ فحينئذٍ لم يجب التصديق به لا عقلاً ولا شرعاً ، بل اللازم هو الحكم بكذب جميع الأنبياء (ع) ؛ إذْ مجرّد حصول المعجزة لهم لا يدلّ على النبوّة، فلعلّ الله أظهرها جزافاً وعبثاً ، وليس لغرض التصديق بهم..!، ويترتّب على ذلك أن يجوز لكلّ شخص ادّعاء النبوّة ؛ إذ لا فرق حينئذٍ بين أن تكون للمدّعي معجزة أو لا تكون. قال العلّامة:((... ومنها - أي من اللوازم - أنّه يلزم الطامّة العظمى، والداهية الكبرى عليهم، وهو: إبطال النبوّات بأسرها، وعدم الجزم بصدق أحد منهم. بل يحصل الجزم بكذبهم أجمع...))[نهج الحقّ للعلّامة الحلّيّ: ص91].

اللازم الرابع: يلزم من نفي الغرض والغاية نفي كلّ تفضّل ومنّة وإحسان منه تعالى على خلقه؛ إذ الإحسان ما كان مقصوداً لفاعله لا ما نتج عن الفعل اتّفاقاً ولم يكن مريداً له ولا قاصداً حصوله ، مع أنّ إجماع المسلمين ـــ حتّى الأشاعرة ــــ قائم على اتّصافه تعالى بالإحسان وأنّه تعالى منعم متفضّل، والنصوص القرآنيّة صريحة بثبوت ذلك له تعالى. [انظر المصدر السابق:ص89]

اللازم الخامس: أنّ وجوب شكر المنعم ثابت بأدلّة العقل والنقل، بل هو من أدلّة وجوب المعرفة عند المسلمين، واللازم من نفي الغاية ولغرض هو عدم وجوبه ؛ لأنّ شكر المنعم فرع ثبوت إحسانه وإنعامه ، وقد عرفت من اللازم السابق انتفاءَهما. هذا غيض من فيض، وإلّا فإنّ هنالك لوازم أخرى أعرضنا عنها تجنّباً للإطالة

الإشكال الثاني: الخلط بين المفاهيم وهو إشكالٌ يعمُّ العلوم والمعارف بمختلف أصنافها، ويبرز هذا الإشكال في موردين:

أحدهما: ما ذكره الأشاعرة من أنّه تعالى لو كان يفعل لغرض وغاية فهذا يعني أنّه فقير ومحتاج إلى استكمال ذاته وصفاته بواسطة ذلك الغرض، وهذا محال ؛ لأنّه تعالى غنيّ في ذاته وصفاته. وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه، ولكنّه أجنبي عن مسألة تعليل أفعاله تعالى بالغرض والمصلحة والغاية، فتطبيقه هنا خلط واضح بين الغرض الفاعليّ والغرض الفعليّ، فمحذور استكمال الذات أو الصفات الذي ذكروه إنّما يلزم فيما لو كان الغرض والغاية والمصلحة راجعة إليه تعالى، وهذا ممّا لا يقول به أحد العدليّة - أي الشيعة والمعتزلة ومن وافقهم - وإنّما يقولون برجوع ذلك كلّه إلى أفعاله تعالى، أي إلى مخلوقاته التي خلقها وفعلها، فهي التي تحتاج إلى رعاية مصلحتها وإلى الغاية والغرض في كلّ ما يتعلّق بها، فمثلاً يقول العدليّة: إنّ الله لم يخلق الخلق إلّا لحكمةٍ وغرضٍ وهو بلوغهم الكمال، كما أنّه لم يتعبّدهم بالتكاليف الشرعية إلّا لغايةٍ وهي سعادتهم في الدارين، وهكذا في جميع أفعاله تعالى، فإذا كان هذا هو مرادهم من تعليل أفعاله تعالى بالغرض والغاية والمصلحة فأيّ علاقة له بمحذور الاستكمال..؟!. [انظر الإلهيّات للشيخ السبحانيّ:ص263].

والآخر: خلطهم بين مفهوم الوجوب الشرعيّ أو المولويّ وبين مفهوم الوجوب العقليّ، فقد عرفت من كلام الغزاليّ امتناع وجوب الغرض والغاية على الله؛ بدعوى أنّ الحكم بلزوم الغرض والغاية في فعله تعالى يعني الوقوع تحت تأثير العقل والغاية، فيكون اللّه تعالى محكوماً لا حاكماً، واللّه تعالى منزّه عن المحكوميّة.

والحقّ أنّهما مفهومان بينهما تمام التباين وأحدهما أجنبيّ عن الآخر، فإنّ معنى الوجوب الشرعيّ أو المولويّ: هو صدور الأوامر أو النواهي من المولى الآمر اتّجاه مَن هو دونه في المرتبة بشكل يُوجِبُ على المأمور التزام الطاعة واجتناب المخالفة. ولكنّ هذا النوع من الوجوب هو غير الوجوب العقليّ ولا علاقة للعقل به ؛ إذ لا قدرة له على إصدار الأوامر والنواهي حتّى اتّجاه صاحبه الإنسان فضلاً عن واهبه وهو الله تعالى. وإنّما معنى الوجوب العقليّ هو: أنّ العقل حين يتدبّر في صفات الله تعالى يجده مجمعاً للكمالات كلّها، ثمّ يتدبّر في معنى اللّغو والعبث واللّعب فيجده قبيحاً، ثمّ يعقد العقل مقارنة بين الذات المقدّسة وبين صدور الفعل القبيح فيدرك ويتفهّم ويتعقّل عدم مناسبة صدور ذلك القبيحٌ من الإله الجامع لكلّ تلك الكمالات؛ لأنّ كلَّ واحد من الفعلين الحسن والقبيح هو فعل اختياريّ له تعالى، ولا يناسبه عزّ وجلّ إلّا أن يختار الحسن منهما؛ لأنّه اللائق بقداسته وعظمته وحكمته. وحينئذِ يحكم العقل - أي يجزم ويقطع ويؤمن - باستحالة صدور فعل لا غاية له منه تعالى.

وبعبارة أخرى: إنّ معنى حكم العقل ليس إلّا إدراكه للملازمة بين كمال الله المطلق وبين استحالة فعله للقبيح. ومن الواضح أنّه بناءً على هذا المعنى لا توجد حاكميّة للعقل على الله، لا من قريب ولا من بعيد. [انظر أصول المظفر:ج2،ص177، وكذا الإلهيّات للشيخ السبحانيّ تقرير الشيخ حسن محمّد مكّيّ العامليّ:ص256].

قال السيد الخوئي "قدّس سرّه" : ((لا يخفى أنّا لم نرد بلفظ الحكم في قولنا : يحكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل واللّطف على الله تبارك وتعالى ، معناه الاصطلاحيّ المتبادر إلى الذهن من البعث والإلزام والإيجاب ونحو ذلك كي يقال باستحالته ، إذ كيف يُعقل حكومة العقل المقهور على خالقه القاهر جلّ شأنه ليلزمه بشيء أو يزجره عنه ، وهو الحاكم على عباده والقاهر عليهم ، بل المراد بذلك هو إدراك الواقع وما هو أمر ثابت في نفس الأمر، وهو على حذو قولنا : إنّ العقل يحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، وبأنّ الاثنين مكرّر الواحد ، وأنّ الواحد نصف الاثنين ، فهل يتوهّم عاقل أنّ معنى الحكم في أمثال ذلك هو البعث أو ما يقاربه من المعاني ؟ كلّا ....))[مجمع الرسائل ـــ رسالة في الأمر بين الأمرين:ص9 وما بعدها].

وهكذا الكلام في الغاية فإنّها لا تلغي قدرة الله تعالى على فعل القبيح؛ لأنّ قدرته تامّة ومتساوية بالنسبة إلى جميع الأفعال وهو قادر على كلا الفعلين الحسن والقبيح معاً، وإنّما الغرض والغاية والمصلحة بوجودها يصير الفعل فعلاً حسناً متناسباً مع كمال الذات، ومع عدمها يصير الفعل قبيحاً لا يناسب الذات ؛ لذا تتنزه الذات المقدسة عن ارتكابه بإرادتها واختيارها لا مقهورة ولا مغلوبة ولا محكومة. إذنْ: فأثر الغاية يظهر على الفعل لا على الفاعل حتّى يلزم ما ذكروه من حاكميّتها على الله تعالى.

الإشكال الثالث والأخير: إسقاطهم لحجّية القرآن الكريم من خلال مخالفة عقيدتهم لعشرات من آياته الشريفة التي تُصرّح تارة بثبوت الغرض والغاية من جهة، وأخرى بانتفاء العبث واللّغوية عن أفعاله تعالى من جهة أخرى، وإليك بعضاً منها:

1- الآيات التي تثبت الغرض والغاية والحكمة: كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقوله سبحانه: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}[ إبراهيم: 1 ] وقوله عزّ وجلّ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] وقوله عزّ من قائل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].

2- الآيات النافية للعبث واللغوية: كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] وقوله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ}[الدخان : الآية 38] وقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَ الأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]، وقوله تقدّست أسماؤه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107 ] إلى غير ذلك من عشرات بل مئات الآيات الواضحة والصريحة إمّا بإثبات الأوّل أو نفي الثاني. ودمتم سالمين.