ما الفرق بين السجود التكوينيّ والسجود التشريعيّ؟

السؤال‬‏: من تناقضات القرآن: هل يسجد الجميع لله؟ (نعم يسجدون): "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا" و "لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. (لا يسجدون): "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ" و "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا.."

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ليس في هذا السؤال إشكال يستحقّ الكثير من العناء، ولكنْ من الجيّد أن نجعل منه مناسبة لبيان الفرق بين السجود بالمعنى التشريعيّ والسجود بالمعنى التكوينيّ، وبمعنى آخر: ما الفرق بين أن يكون الإنسان في عمق كيانه ساجداً لله تعالى، وبين أن يكون ساجداً باختياره؟

ولكي نقترب من السجود بالمعنى التشريعيّ، لا بدّ أن نقترب أوّلاً من السجود بالمعنى التكوينيّ، إذْ كون الإنسان عبداً باختياره، يعني بالضرورة كونه عبداً في كيانه، فلا فرق بين أن نقول: إنّ الإنسان بذاته عبد لله، وبين أن نقول: إنّ الإنسان بذاته كائن مخلوق لله، فمتى ما صدق عنوان الخلق والمخلوقيّة ثبت عنوان العبد والعبوديّة؛ وذلك لأنّ المخلوق بذاته معلّق دائماً بخالقه، والموجود محتاج دائماً إلى مَنْ أوجده، وتلك العلاقة الاضطراريّة هي نفسها العبوديّة التكوينيّة.

فإذا لم يخلق الإنسان نفسه ولم يمدّها بطاقة البقاء، فهو حتماً موسوم بطابع (العبوديّة الذاتيّة)، النابعة من كيانه الطارئ المعلّق بيد الله تعالى، فأيّ عبدٍ أشدّ عبوديّة وأوسع رقّاً من هذا الذي لا يملك خلقه ولا يضمن لنفسه البقاء؟! وفي المقابل، أيّ سيّد أقوى سيادة وأوسع سلطاناً من (الله) الذي يعطي الوجود ويضمن البقاء، وإن شاء منع؟.

وبحسب تعبيرات الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ: "السجود التكوينيّ هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها، حتّى إنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنوديين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكويناً" (الأمثل ج 10 ص 308).

أمّا السجود المعبّر عن العبادة التشريعيّة هو ما يقوم به الإنسان بإرادته واختياره، وقد عرّفه أمير المؤمنين (ع) بقوله: "السجود الجسمانيّ هو وضع عتائق الوجوه على التراب، واستقبال الأرض بالراحتين والكفّين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النيّة، والسجود النفسانيّ فراغ القلب من الفانيات، والإقبال بكنه الهمّة على الباقيات وخلع الكبر والحميّة، وقطع العلائق الدنيويّة، والتحلّي بالخلائق النبويّة" (ميزان الحكمة ج 2 ص 1253).

وقد كرّم الله الإنسان بأن منحه العقل والحريّة والإرادة، ثمّ طلب منه أن يختار بمحض إرادته أن يكون عبداً لله تعالى، وعليه تكون العبادة في السلوك اختياراً تعبير عن العبادة في الكيان اضطراراً، والتسليم في عمق الشعور تعبير عن التسليم في عمق الوجود، والطاعة في حقل الإرادة تعبير عن الطاعة في حقل السنن الكونيّة، والعمل وفق هدى الله في التشريع تعبير عن العمل وفق هداه في التكوين، والسجود على الأرض اختياراً تعبير عن السجود في الكيان اضطراراً، والصيام عن الشهوات وهي مقدورة تعبير عن الصيام عن التمنّيات وهي مستحيلة، والدين، كلّ الدين، انعكاس في الشعور وفي الإرادة، عمّا هو حقيقة وواقع في اللاشعور وفي النظم الكونيّة فيما وراء الإرادة.

وعندما يختار المؤمن بإرادته العبادة يكون قد وضع نفسه في المسار التكامليّ للوجود، بعكس الكافر الذي يسير في الاتّجاه المعاكس فيفسد وجوده ويفسد الوجود من حوله، حاله في ذلك حال الخليّة السرطانيّة التي تدمّر ذاتها وتدمّر ما حولها من خلايا.

وبذلك يتّضح أنّ هناك نحوين من السجود، الأوّل: وهو السجود المعبّر عن اضطرار المخلوق لخالقه، أو المعبّر عن الحاجة التكوينية لجميع المخلوقات، وهذا السجود ليس خاصّاً بالإنسان وإنّما يشمل جميع مخلوقات الله عزّ وجلّ من أصغر ذرّة إلى أكبر مجرّة.

والثاني: وهو السجود المعبّر عن إقرار المؤمن بحاجته وفقره لله تعالى، فيسجد لله تعالى باختياره اظهاراً للخضوع والحاجة والتواضع والذلّة لله تعالى، وهذا السجود خاصّ بالإنسان الذي هداه الله إلى سلوك أحد السبيلين، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

وإذا ارتكزنا على هذه المقدّمة المقتضبة يرتفع ما أشار إليه السائل من إشكال، فالآية الأولى التي استدلّ بها وهي قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)، فالآية تحكي عن سجود جميع من في السموات والأرض، والسجود هنا بمعنى الخضوع، أي أنّ كلّ من في السموات والأرض خاضع لله تعالى طوعاً وكرهاً، فالمؤمن خاضع لله بكيانيه واختياره، والكافر خاضع له بكيانه وإن كان مستكبراً باختياره.

وفي سورة الحج الآية 18 تأكيد لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها وهي قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، إذْ تحدّثت الآية عن سجود السماوات والأرض والشمس والقمر .. في إشارة واضحة للسجود بالمعنى التكوينيّ، وعندما جاء الحديث عن الناس صرّحت الآية بأنّ كثيراً منهم يسجدون وكثيراً منهم حقّ عليه العذاب لعدم سجودهم لله تعالى.

أمّا الآية الثانية وهي قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، فإنّ السجود في هذه الآية يعبّر عن العنوان العامّ الذي يمضي عليه الوجود بكلّ ما فيه، والواجب على الإنسان أن لا يكون نشازاً عن كلّ ذلك بتمرّده واستكباره، فإذا كانت السموات وما فيها من ملائكة، والارض وما فيها من دوابّ، يسجدون لله؛ فكيف يستكبر الإنسان عن عبادة ربّه؟، جاء في تفسير هذه الآية من تفسير الأمثل: "فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عامّا شاملا لكلّ الموجودات المادّية وغير المادّية، وفي أيّ مكان...وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلّمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهيّة فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلّها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزّ وجلّ، ولتدلّل على أنّها آية على غناه وجلاله" (تفسير الأمثل ج 8 ص 209).

أمّا الآيات التي تصوّر السائل أنّها مناقضة للآيات التي تحدّثت عن سجود ما في السموات والأرض لله تعالى، فإنّ هذه الآيات تتحدّث عن السجود التشريعيّ الذي يقوم به الإنسان باختياره، فالمؤمن يستجيب ويسجد لله تعالى والكافر والمشرك يرفض ويستكبر، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ)، أي إذا قيل لهؤلاء المشركين (اركعوا) أيْ صلّوا (لا يركعون) أي لا يصلّون. وكذلك الحال في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا..)، أي أنّ هؤلاء الكفّار رفضوا الاستجابة لرسول الله (ص) عندما دعاهم للسجود للرحمان.

وفيما تقدّم من أدلّة كفاية لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.