مناقشة الادّعاء بأنّ الصحابة يعرفون قبر الزهراء (ع)
السؤال : تقولون: إنّ عمر بن الخطّاب أراد نبش قبر الزهراء ليصلّي عليها، ومنعه الإمام عليّ (ع)، ألَا يدّل هذا على معرفة الصحابة بموقع القبر؟ وإذا كان الصحابة يعرفون أين دفنت الزهراء فينقض هذا قولكم إنّ إخفاء القبر كان بسبب غضب الزهراء (ع) واذا أوردتم الخلاف بما طرح، فهنالك دليل آخر وهو : لم يعرف إلى الآن قبر واحدة من بنات رسول الله أو أقاربه وحتّى أئمّة أهل البيت في البقيع صلوات الله عليهم ولا يوجد دليل قطعيّ في تحديد قبورهم؟ ولذلك أتمنّى أن تجيبوا بأدلّة قويّة وروايات صحيحة على حسب المباني العلمية الإماميّة .
الجواب:
لهذا السؤال شقّان،
الأوّل: حول معرفة الصحابة بقبر الزهراء (ع) وما يترتّب على ذلك حسب ما جاء في السؤال. فنقو: إنّ افتراض معرفة الخليفتين ومن معهما بقبرها عليها السلام غير صحيح، إذْ لا دليل عليه، وإنّما أرادوا أن ينبشوا القبور جميعها حتّى يجدوا قبرها ويصلّوا عليها، وكان هذا الأمر متعسّراً جدّاً، لأنّ الروايات ذكرت أنّ الإمام عليّ (ع) دفنها ليلاً، وسوّى قبرها بالأرض وجعل حواليها أربعين قبراً مزوّرة، ورشّها، حتّى لا يبيّن قبرها عليها السّلام من غيره من القبور، فيكون عثورهم عليه صعباً جدّاً. فمع هذا الحال فما قاله السائل غير صحيح، ومنع الإمام (ع) لهم قد يكون لئلّا يصلوا إليها، فقد يقوم القوم بنبش كلّ قبور البقيع ـ على افتراض أنّ قبرها في البقيع ـ وفيهم الشهداء والصالحين بغرض إيجاد قبرها، وتتعرّض تلك القبور للهتك، وهذا محرّم شرعا، فلا يدلّ منعه عليه السلام لهم على معرفتهم بقبرها.
وممّا يؤكّد ما بيّنته آنفاً وجود طائفة من الروايات، معزّزة بأقوال أهل العلم في هذا الصدد، وفيما يلي توضيح ذلك:
1-روى الطبريّ الشيعيّ بسند صحيح قال : ( حدّثني أبو الحسين محمّد بن هارون بن موسى التلعكبريّ ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني أبو عليّ محمّد بن همام بن سهيل ( رضي الله عنه ) ، قال : روى أحمد بن محمّد بن البرقيّ ، عن أحمد بن محمّد الأشعري القمي ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) ، قال : ولدت فاطمة ( عليها السلام ) في جمادى الآخرة... وقبضت في جمادي الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه ، سنة إحدى عشرة من الهجرة وكان سبب وفاتها أنّ قنفذاً مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره ، فأسقطت محسنا ومرضت من ذلك مرضا شديداً ، ولم تدع أحداً ممّن آذاها يدخل عليها ...) قال الطبريّ : (رجع الحديث إلى تمام حديث أبي عليّ بن همام قال : فخرجا من عندها وهي ساخطة عليهما. قال : وروي أنّها قبضت لعشر بقين من جمادى الآخرة ، وقد كمل عمرها يوم قبضت ثماني عشرة سنة ، وخمسة وثمانين يوما بعد وفاة أبيها ، فغسّلها أمير المؤمنين (عليه السلام ) ، ولم يحضرها غيره ، والحسن ، والحسين ، وزينب ، وأمّ كلثوم ، وفضّة جاريتها ، وأسماء بنت عميس ، وأخرجها إلى البقيع في الليل ، ومعه الحسن والحسين ،وصلّى عليها ، ولم يعلم بها ، ولا حضر وفاتها ، ولا صلّى عليها أحد من سائر الناس غيرهم ، ودفنها في الروضة ، وعفى موضع قبرها ، وأصبح البقيع ليلة دفنت وفيه أربعون قبرا جددا ؟ وإنّ المسلمين لما علموا وفاتها جاءوا إلى البقيع ، فوجدوا فيه أربعين قبرا ، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور ، فضجّ الناس ولام بعضهم بعضا ، وقالوا: لم يخلّف نبيّكم فيكم إلّا بنتا واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا الصلاة عليها ! بل ولم تعرفوا قبرها...).
في تكملة الرواية منع الإمام (ع) لهم من نبش قبرها . راجع : [دلائل الإمامة، محمّد بن جرير الطبريّ ، ص 134 ـ 136].
2-وروى الطبريّ بسنده عن ( المفضّل بن عمر ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين ( عليهم السلام ) ، قال : قال لي أبي الحسين بن عليّ ( عليهما السلام) لما قبضت فاطمة ( عليها السلام ) دفنها أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه )، وعفى على موضع قبرها بيده ...) [نفس المصدر، ص 137].
3-وروى الشيخ المفيد: ( حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن إدريس قال : حدّثنا محمّد بن عبد الجبّار ، عن القاسم بن محمّد الرازيّ ، عن عليّ بن محمّد الهرمزانيّ ، عن عليّ بن الحسين بن عليّ ، عن أبيه الحسين عليهم السلام قال : لمّا مرضت فاطمة بنت النبيّ صلّى الله عليه وآله وعليها السلام وصّت إلى عليّ صلوات الله عليه أن يكتم أمرها ، ويخفي خبرها ، ولا يؤذن أحدا بمرضها ، ففعل ذلك . وكان يمرضها بنفسه ، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رحمها الله على استسرار بذلك كما وصّت به . فلمّا حضرتها الوفاة وصّت أمير المؤمنين عليه السلام أن يتولّى أمرها ، ويدفنها ليلا ، ويعفي قبرها . فتولّى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ودفنها ، وعفى موضع قبرها) [الأمالي، ص 313].
4-قال ابن شهر آشوب نقلا عن تاريخ أبي بكر بن كامل وهو من الجمهور : ( وعَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ - أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ دَفَنُوهَا لَيْلًا وَغَيَّبُوا قَبْرَهَا ) [المناقب، ج 3 ص 363].
وقال : (وَفِي رِوَايَاتِنَا أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَقِيلٌ وَسَلْمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ وَعَمَّارٌ وَبُرَيْدَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَالْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ وَفِي رِوَايَةٍ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ . الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دَفْنِهَا لَيْلًا فَقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ سَاخِطَةً عَلَى قَوْمٍ كَرِهَتْ حُضُورَهُمْ جِنَازَتَهَا وَحَرَامٌ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وُلْدِهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ سَوَّى قَبْرَهَا مَعَ الْأَرْضِ مُسْتَوِياً وَقَالُوا سَوَّى حَوَالَيْهَا قُبُوراً مُزَوَّرَةً مِقْدَارَ سَبْعَةٍ حَتَّى لَا يُعْرَفَ قَبْرُهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ رَشَّ أَرْبَعِينَ قَبْراً حَتَّى لَا يَبِينَ قَبْرُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهَا ) نفس المصدر .
5-وقال الشيخ الطوسيّ : ( والذي يدلّ على صحّة دعواها وأنّها كانت مظلومة بالدفع عن حقّها : ما تواتر الخبر به بأنّها بعد مفارقتها لذلك المجلس لم تكلّمهم حتّى ماتت وأوصت أن تدفن ليلا ، ففعل ذلك أمير المؤمنين ، ولم يصلّيا عليها . وروي أنّه رشّ أربعين قبرا حتّى لا يبين قبرها من غيره من القبور ، فيصلّون عليه . ومثل هذا لا يفعل بمن ترضى بأفعاله ، ولا كانت عليها السلام تفعل مثل هذا بمن هو مصيب في فعله ، وليس لأحد أن ينكر ما قلناه ، لأنّ الروايات بذلك أكثر من أن تحصى . والقصّة أشهر من أن تخفى ) [تلخيص الشافي، ج 3 ص 130].
هذه مجموعة أخبار فيها الصحيح وغيره، تقوّي بعضها بعضا، وهي أخبار تأريخيّة لا يشترط بها صحّة السند ، بل يكفي شهرة الحادثة في الكتب المتقدّمة للقول بصحّتها.
أمّا قول السائل : (وإذا كان الصحابة يعرفون أين دفنت الزهراء فينقض هذا قولكم إنّ إخفاء القبر كان بسبب غضب الزهراء (ع) )، فقوله غير سليم، إذْ لا دليل عليه، وهم كما قلت إنّما أرادوا إيجاد القبر من خلال البحث عن القبور الجديدة، وكان هذا متعسّرا جدّا، خاصّة مع التشويش الذي مارسه الإمام ع من خلال تسوية القبر بالأرض، وجعل أربعين قبرا مزيّفة ورشّها لتبدو جديدة.
مع العلم أنّ غضب الزهراء (ع) على القوم حقيقة لا غبار عليها، إذْ ذكرتها عائشة كما روى ذلك البخاريّ ومسلم في صحيحهما. راجع : صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر ، ج5 ص 82
ثم إنه ليس هناك من داعٍ لأنْ يخفي الإمام (ع) قبرها لو كانوا على وئام ومودّة ، فدلّ فعله عليه السلام على الخلاف الشديد بين عليّ والزهراء (ع) من جهة وبين القوم من جهة أخرى، إضافة لهذا فالصلاة على الجنازة من شؤون خليفة المسلمين، وهذه سيّدة النساء، وبنت خاتم النبيّين، ليست من عوامّ الناس، وعدم صلاة الخليفة عليها يثير في أذهان الناس علامات استفهام عديدة حول شرعيّة حكم الخليفتين، وقد أدرك القوم خطورة الموقف فأرادوا تدارك الأمر بإيجاد قبرها والصلاة عليها، فحال الإمام (ع) بينهم وبين ما يريدون.
وأمّا الشقّ الثاني من السؤال: وهو زعم السائل خفاء قبور بنات النبيّ وكذا أئمّة أهل البيت وعدم وجود دليل قطعيّ يحدّد موقع قبورهم، فأراد بذلك أنْ يقول: إنّ حال الزهراء هو حال بنات النبيّ الأخريات، إذْ مادام جميعهُنَّ لا تٌعرف قبورهنّ؛ فليس في هذا دلالة على غضب الزهراء (ع) على الخليفتين، وكلامه هذا عليه ملاحظات منها:
أوّلاً: أنّ غضب الزهراء (ع) عليهما، ثابت في مصادر الجمهور، روته عائشة كما في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم، وقد تقدّم المصدر والرواية مشهورة، فإنكار ذلك مكابرة وجهل.
وثانياً: أنّ قبور أئمّة أهل البيت (ع) في البقيع معروفة، إذْ يزورهم الشيعة دائما ولو من خلف السياج. وكذا قبور بنات النبيّ أو ربائبه. قال محمّد أمين الأمينيّ : ( وفي ما يلي نذكر القبور على الترتيب على أساس الدخول إلى البقيع من الباب الغربيّ المقابل للمسجد النبويّ الشريف في الوقت الحاضر :
1. البقيع، قبور أئمّة أهل البيت ع ( قبور أئمّة أهل البيت عليهم السلام)، أمام المدخل الرئيسيّ باتّجاه الجنوب، على يمين الواقف قبور بنات رسولاللَّه صلّى الله عليه و آله، وفيه القبور الآتية
الف) الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
ب) الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام .
ج) الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام .
د) الإمام جعفر الصادق عليه السلام ...
2. قبور بنات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله، أمام المدخل الرئيسيّ للبقيع وعلى بعد منه بحوالي 30 متراً، ولا يفصلها عن المدخل إلّا الساحة الرئيسّية له، نجد قبور بنات رسول الله صلّى الله عليه و آله ) راجع : بقيع الغرقد في دراسة شاملة، ج1 ص 140 ـ 141
أمّا طلب السائل إثبات موقع القبور بدليل قطعيّ، فهو طلب من لا يعلم كيفيّة إثبات المسائل، فحتّى الأحكام الشرعيّة أغلبها أحكام ظنيّة لا قطعيّة، وإثبات مكان تلك القبور يكون حتّى بالخبر التاريخيّ، ولا ينبغي التشدّد في ذلك.
ـ أنّ قياس خفاء قبور بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لو افترضنا ذلك فعلا ـ على خفاء قبر الزهراء هو قياس مع الفارق، فالزهراء ع سيّدة نساء أهل الجنة ... ، وبنات الرسول الأخريات هنّ في الحقيقة ربائبه ولسن بناته من صلبه. إنّما هنّ بنات أخت خديجة، مات أبوهنّ فربّتهنّ خديجة، [ينظر كتاب بنات رسول الله (ص) ربائب للسيّد جعفر مرتضى العامليّ].
وعليه فلا يمكن مقارنتهن بالزهراء سيّدة نساء العالمين كما جاء في الأحاديث الصحيحة، على أنّ قبور ربائب النبيّ معروفة ولو بأدلّة ظنية ، وإن أنكر ذلك من أنكر.
اترك تعليق