هل دفن أمير المؤمنين (ع) نفسه؟

السؤال: توجد رواية عن البرسي تقول بأن الذي تولى دفن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو الإمام أمير المؤمنين نفسه، ما مدى صحة هذه الرواية؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه الرواية نقلها الحافظ رجب البرسيّ بصياغتين:

الصياغة الأولى: نقل العلّامة المجلسيّ والسيّد هاشم البحرانيّ وغيرهما عن الحافظ رجب البرسيّ أنّه نقل: « عن محدّثي أهل الكوفة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لـمّا حمله الحسن والحسين (عليهما السلام) على سريره إلى مكان البئر المختلف فيه إلى نجف الكوفة، وجدوا فارساً يتضوع منه رائحة المسك، فسلّم عليهما، ثمّ قال للحسن (عليه السلام): أنت الحسن بن عليّ، رضيع الوحي والتنزيل، وفطيم العلم والشرف الجليل، خليفة أمير المؤمنين وسيّد الوصيين؟ قال: نعم، قال: وهذا الحسين بن أمير المؤمنين وسيّد الوصيين، سبط الرحمة ورضيع العصمة، وربيب الحكمة ووالد الأئمّة؟ قال: نعم، قال: سلّماه إليّ وأمضيا في دعة الله، فقال له الحسن (عليه السلام): إنّه أوصى إلينا أن لا نسلّم إلّا إلى أحد رجلين: جبرئيل أو الخضر، فمَن أنت منهما؟ فكشف النقاب فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ قال للحسن (عليه السلام): يا أبا محمّد، إنه لا تموت نفس إلّا ويشهدها، أفما يشهد جسده؟ » [بحار الأنوار ج42 ص300، مدينة المعاجز ج3 ص60].

ولـم نعثر على الرواية في الكتب المطبوعة للحافظ البرسيّ، وبالخصوص كتاب مشارق أنوار اليقين، مع أنّ المجلسيَّ نقل الرواية من مشارق الأنوار، فيبدو أنّ المطبوع فيه نقص.

الصياغة الثانية: نقلها الحافظ البرسيّ في كتابه (تأويل الآيات البيّنات)، وهو غير مطبوع، وهذا لفظه: « وأمّـا حديث الدفن: فقد رواه أهل الكوفة: أنّ أمير المؤمنين لـمّا دفنه الحسن والحسين (عليهم السلام)، جاء رجل فساعدهم، فسألاه: مَن أنت؟ فكشف اللثام فإذا هو أمير المؤمنين ».

أقول: هذه الرواية ضعيفة جدّاً، لا مجال للاعتماد عليها بكلتا صياغتيها، وإنْ كان حال الصياغة الثانية أهون من حال الصياغة الأولى، وذلك لعدّة إشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ الرواية مرسلة، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد سنة 40 هـ، في حين أنّ الحافظ البرسيّ من علماء القرن الثامن أو التاسع الهجري، فتوجد فاصلة زمنية كبيرة بينهما، والظاهر أنّ محدّثي أهل الكوفة الناقلين للرواية ليسوا من المعاصرين للحادثة، فلا يُعلم الواسطة بينهم وبين الحاضرين للحادثة.

الإشكال الثاني: أنّ الرواية غريبة، فإنّها لَـم ترد بهذه السياقة في شيء من المدوّنات عند الشيعة ولا السنّة، فهي غريبة، تفرّد بنقلها الحافظ رجب البرسيّ الذي هو من المتأخّرين، وقد تفرّد البرسيّ بنقل جملة من الروايات الغريبة، حتّى أنّ مثل العلّامة المجلسيّ لا يعتمد على ما ينفرد به، وقد صرَّح في ذيل هذه الرواية بأنّه لا يعتمد عليها؛ لتفرّد البرسيّ بها.

الإشكال الثالث: أنّ الرواية مضطّربة، وذلك أنّ الحافظ البرسيّ نقلها بصياغتين:

الأولى: مفصّلة، ورد فيها أنّ الفارس الملثّم « قال: سلّماه إليّ وأمضيا في دعة الله »، ويستفاد من سياقها أنّ الحسنين (عليهما السلام) سلّما الجنازة له.

والأخرى: مختصرة، ورد فيها: « جاء رجل فساعدهم »، ولا يخفى أنّ المساعدة تغاير مفاد: « سلّماه إليّ وأمضيا.. » الوارد في الصياغة الأولى.

وهذه الصياغة الثانية ليس فيها أكثر من ظهور أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسنين (عليهما السلام) ببدنه المثاليّ، وهو لا مانع منه كما سيأتي، وإنّما الكلام فيما يظهر من الصياغة الأولى: من أنّ الحسنين (عليهما السلام) لم يدفنا جسد أبيهما (عليهما السلام)، وإنّما تولّى هو (عليه السلام) دفن جسده.

الإشكال الرابع: أنّ الرواية شاذّة منكرة، وذلك من وجوه:

الأوّل: أنّ هذه الرواية بهذه السياقة مخالفة للروايات المعتمدة؛ إذْ إنّ الروايات المشهورة والمعروفة تبيّن أنّ الحسنين (عليهما السلام) هما اللذان دفنا جسد أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام)، في حين أنّ ظاهر هذه الرواية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أخذ الجنازة لدفنها وتركها الحسنان (عليهما السلام)، تقول الرواية: « قال: سلّماه إليّ وأمضيا في دعة الله، فقال له الحسن (عليه السلام): إنّه أوصى إلينا أن لا نسلّم إلّا إلى أحد رجلين: جبرئيل أو الخضر، فمَن أنت منهما؟ فكشف النقاب فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام).. »، ويُفهم من سياقها أنّ الحسنين (عليهما السلام) سلّماه الجنازة ومضيا، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) دفن جسده الطاهر.

وقد نقل السيّد عبد الكريم ابن طاوس الحليّ جملةً وافرة من تلك الروايات في كتابه: (فرحة الغريّ في تعيين قبر أمير المؤمنين علي)، ننقل في المقام بعضاً منها:

1ـ ما نقله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « لـمّا أصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن والحسين (عليهما السلام): غسّلاني وكفّناني وحنّطاني واحملاني على سريري، واحملا مؤخّره تكفيان مُقدّمه، فإنّكما تنتهيان إلى قبرٍ محفور، ولحدٍ ملحود، ولبن موضوع، فالحداني وأشرجا عليّ اللبن.. » [فرحة الغري ص111-114].

2ـ ما نقله عن أبي عبد الله الجدليّ – في حديث -: « وقد حضره (عليه السلام) وهو يوصي الحسن، فقال: يا بني، إنّي ميت من ليلتي هذه، فإذا أنا متّ فاغسلني، وكفّني، وحنّطني بحنوط جدّك... ثم احفر لي قبراً في موضعه إلى منتهى كذا وكذا، ثمّ شقّ لحداً فإنّك تقع على ساجة منقورة ادّخرها لي أبي نوح، وضعني في الساجة.. » [فرحة الغري ص117-119].

3ـ ما نقله عن أم كلثوم بنت عليّ قالت: « آخر عهد أبي إلى أخوي (عليهما السلام) أن قال: يا بني، إذا أنا مت فغسّلاني، ثمّ نشفاني.. فخرجتُ أشيّع جنازة أبي، حتّى إذا كنّا بظهر الغريّ ركز المقدّم فوضعا المؤخّر، ثم برز الحسن بالبردة التي نُشّف بها رسول الله وفاطمة وأمير المؤمنين، ثمّ أخذ المعول فضرب ضربة، فانشق القبر عن ضريحٍ، فإذا هو بساجة مكتوب عليها سطران بالسريانيّة: بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر نوح النبيّ لعليّ وصي محمّد قبل الطوفان بسبع مائة عام... » [فرحة الغري ص119-121].

4ـ ما نقله عن مولىً لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: « لـمّا حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين: إذا أنا متّ فاحملاني على سريرٍ، ثمّ أخرجاني، واحملا مؤخّر السرير فإنّكما تُكفيان مقدّمه، ثمّ آتيا بي الغريّين، فإنّكما ستريان صخرة بيضاء، فاحتفروا فيها فإنّكما ستجدان فيها ساجة، فادفناني فيها... » [فرحة الغري ص123-124].

5ـ ما نقله عن الحسين الخلّال عن جدّه، قال « قلت للحسن بن علي (صلى الله عليه): أين دفنتم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)؟ فقال: خرجنا به ليلاً حتّى مررنا على مسجد الأشعث، حتّى خرجنا إلى الظهر ناحية الغري » [فرحة الغري ص124-125].

6ـ ما نقله عن أبي مطر قال: « لـمّا ضرب ابن ملجم الفاسق (لعنه الله) أميرَ المؤمنين قال له الحسن: أقتله؟ قال: لا، ولكن احبسه، فإذا متّ فاقتلوه، فإذا متّ فادفنوني في هذا الظهر، في قبر أخويّ هود وصالح » [فرحة الغري ص126-127].

7ـ ما نقله عن أبي طالب قال: « سألت الحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: على شفير الجرف، ومررنا به ليلاً على مسجد الأشعث، وقال: ادفنوني في قبر أخي هود » [فرحة الغري ص128-129].

فهذه الروايات وغيرها واضحة الدلالة على أنّ الحسنين (عليهما السلام) هما اللذان تولّيا دفن جسد أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا أنّهما رجعا دون دفنه فتولّى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) دفن الجسد.

الثاني: ورد في الرواية: « قال: سلّماه إليّ وأمضيا في دعة الله، فقال له الحسن (عليه السلام): إنّه أوصى إلينا أن لا نسلّم إلّا إلى أحد رجلين: جبرئيل أو الخضر، فمَن أنت منهما؟ فكشف النقاب فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) ».

وهذه العبارة غريبة من حيثيتين: أحدهما: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أوصاهما بتسليم الجنازة لجبرئيل أو الخضر والمضيّ في سبيلهما، ولم يرد في شيء من الروايات مثل هذه الوصيّة، فقد تفرّدت هذه الرواية بهذه اللفظة. والأخرى: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) – في الرواية – أوصاهما بتسليم جنازته لجبرئيل أو الخضر ولَـم يوصهما بتسليمها له فيما لو ظهر لهما، ثمّ يظهر لهما ويطلب منهما تسليم الجنازة له والمضيّ في سبيلهما مع أنّه لم يوصهما بذلك!

الثالث: أنّ هذه الرواية توافق – من وجه - رواية شائعة عند بني أميّة، نقلها بعض المخالفين، أنّ الحسنين (عليهما السلام) لم يدفنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنّما ضاعت الناقة التي تحمل النعش الشريف، بيان ذلك: اتّفقت الشيعة الإماميّة خلفاً عن سلف عن أئمّتهم (عليهم السلام) - وتبعهم العلماء المحقّقون من المسلمين – أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مدفون في الغريّ في الموضع المعروف الآن، وقد صنّف السيّد عبد الكريم ابن طاوس كتابه الفخم (فرحة الغريّ) في تحقيق ذلك. وأمّـا المخالفون فقد اضطّربت أقوالهم في ذلك، فيرى بعضهم: أنّه دُفن في قصر الإمارة، ويرى بعضهم: أنّه في المدينة، وبعضهم: أنّه دفن في الكوفة في مكان غير معلوم، وبعضهم: أنّه لا يُدرى أين قبره على الحقيقة، ونقل بعضهم: أنّه وُضع جسده على بعير ثمّ ضاع البعير، فلا يُدرى موضع دفنه بالتحديد.

نقل الخطيب وابن عساكر عن البعض: « أنّه صُيِّر في صندوق وأُكثِر عليه من الكافور، وحُمِل على بعير يريدون به المدينة، فلمّا كان ببلاد طيئ أضلّوا البعير ليلاً، فأخذته طيئ وهم يظنّون أنّ بالصندوق مالاً، فلمّا رأوا ما فيه خافوا أن يُطلَبوا فدفنوا الصندوق بما فيه، ونحروا البعير فأكلوه » [تاريخ بغداد ج1 ص148، تاريخ دمشق ج42 ص567].

قال ابن أبي الحديد المعتزليّ: « قال الشيخ أبو القاسم:... ولم يعلم دفنَه على الحقيقة إلّا بنوه والخواصّ المخلِصون من أصحابه، فإنّهم خرجوا به (عليه السلام) وقت السحر في الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، فدفنوه على النجف، بالموضع المعروف بالغريّ، بوصاة منه (عليه السلام) إليهم في ذلك، وعهدٍ كان عهد به إليهم، وعُمي موضع قبره على الناس، واختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافاً شديداً، وافترقت الأقوال في موضع قبره الشريف وتشعّبت، وادّعى قوم: أنّ جماعةً من طيئ وقعوا على جملٍ في تلك الليلة، وقد أضلّه أصحابه ببلادهم، وعليه صندوق، فظنّوا فيه مالاً، فلمّا رأوا ما فيه خافوا أن يُطلَبوا به، فدفنوا الصندوق بما فيه، ونحروا البعير وأكلوه، وشاع ذلك في بني أمية وشيعتهم، واعتقدوه حقّاً، فقال الوليد بن عقبة - من أبيات يذكره (عليه السلام) فيها -: (فإنْ يكُ قد ضلّ البعيرُ بحمله * فما كان مهديّاً ولا كان هادياً) » [شرح نهج البلاغة ج4 ص82].

أقول: هذه الرواية المنقولة عن محدّثي أهل الكوفة تشبه هذه الرواية من جهة عدم تولّي الحسنين (عليهما السلام) لدفن جسد أبيهما (عليهما السلام)، وأنّ أحداً آخر دفنهما.

ـ ثـمّ إنّ البعضَ استشكل على الرواية من جهتين أخريين:

أحدهما: كيف لم يعرف الحسنان (عليهما السلام) أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكلهم معصومون؟

وجوابه: أنّ سؤال الإمام الحسن (عليه السلام): « فمَن أنت منهما؟ » لا يدلّ على جهله به؛ لأنّ الاستفهام حقيقيّ وغير حقيقيّ، فقد يرد الاستفهام لا لطلب الفهم عن جهلٍ، بل لدواعٍ أخر، كالتعظيم والتقرير والطلب والترغيب والتعليم وغير ذلك، ومن جملة ذلك: قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ}، فإنّ الله تعالى عالم بما في يمين النبي موسى (عليه السلام)، ولكن سأله لغرض معيّن، كإظهار شرافة ما في يمينه أو شرافة ما يمكن أن يظهر ممّا في يمينه. وهذا السؤال يرد في كثير من الروايات والأخبار المتضمّنة للاستفهام، والجواب هو الجواب.

والآخر: كيف يكون الإمام (عليه السلام) ميتاً، ثمّ يكون حياً حتى يكون هو الحامل لجسده؟!

وجوابه: أنّ حضور المعصومين (عليهم السلام) عند الموتى يكون بأبدانهم المثاليّة – كما ذكرنا في بعض الأجوبة عن حضور المعصومين عند الاحتضار -، لا بالبدن الماديّ الدنيويّ حتّى يُقال: إنّه ميّت فكيف يكون حيّاً ليحضر؟! فإنّ هذا السؤال نابع عن الخلط بين موت البدن الماديّ وحياة المعصوم ببدنه المثاليّ. وقد وردت روايات كثيرة في أنّ المعصومين (عليهم السلام) قد يظهرون للأحياء في أبدانهم المثاليّة، كما في ظهور النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعد موته لأبي بكر بن أبي قحافة وأمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد قباء، وأمره لأبي بكر بإطاعة أمير المؤمنين وتسليم الخلافة له، وهو منقول من طرقٍ مستفيضة.

فهذان الإشكالان قابلان للدفع والمناقشة، وقد أشار المجلسيّ لجواب الإشكال الثاني في ذيل الرواية، فالمعوَّل في عدم الاعتماد على الرواية هو الإشكالات المتقدّمة من الإرسال والغرابة والاضطراب والشذوذ والنكارة.

الحاصل: هذه الرواية غير معتبرة، لأنّها مرسلة، غريبة، مضطّربة، شاذّة، منكرة، فلا مجال للاعتماد عليها بوجهٍ.

والحمد لله رب العالمين