أسباب افتراق الشيعة

السؤال: ذكرت كتب الملل والنحل أنّ شيعة آل الرسول غالباً ما يتشظّون إلى فرق بعد مقتل كلّ إمام مع وجود النصّ وكبار أصحاب الأئمّة أحياء، ما سبب هذه الفرقة؟

: الشيخ مروان خليفات

الجواب:

أنّ الذي ينظر إلى حركة التاريخ بوعي يلحظ اختلاف أصحاب الأنبياء (ع) بل وَرِدّةَ بعضهم ورجوعهم عن الحقّ في أثناء حياة الأنبياء أنفسهم (ع)، فهارون (ع) كان نبيّاً، استخلفه موسى (ع) على قومه حين ذهب إلى ميقات ربّه، وبالرغم من معرفة السامريّ وبني اسرائيل بمقام هارون (ع)، وأنّه خليفة موسى (ع) وأنّه مرسل من عند الله، إلّا أنّه صنع عجلا له خوار، فعكف عليه بنو اسرائيل.

وفي عصر النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)، يحدّثنا التاريخ عن ارتداد بعض أصحابه بعد إيمانهم به ومشاهدتهم معجزاته وآياته الباهرة. قال ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى ﴿ الم أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ . [العنكبوت، 2]. كان أمر النبيّ صلّى اللَّه عليه[وآله] وسلّم رجالا وحسبوا أنّ الأمر يخفوا، فلمّا أوذوا في اللّه ارتدّ منهم أقوام. [تفسير ابن أبي حاتم ج 9، ص 3030 – 3031].

قال تعالى: ﴿ومَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾.[البينة،3 و 4].

وقال تعالى : ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ [آل عمران، 19].

فأهل الكتب كانوا على بيّنة وعلم، لكنّهم تفرّقوا واختلفوا، فهذه سُنّة الحياة.

أمّا بخصوص النصّ على الأئمّة عليهم السلام فقد ورد تارةً بتعيين أسماء الأئمّة، وتارة بذكر عددهم، وأحيانا بذكر عليّ والحسن والحسين وتسعة من ولده عليهم السلام، وأحيانا بذكر عليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين آخرهم القائم.

بعد هذه المقدّمة يمكن ذكر أسباب تفرّق أصحاب الأئمّة (ع) وحصرها بما يلي:

أولاً: الوضع السياسيّ والأمني وما تبعه من رقابة الحاكم للقضاء على الإمام المُنَصّب، مما جعل الإمام ينصّ على أكثر من شخص، فتسبّب بحيرة البعض، وهو ما فعله الإمام الصادق (ع) فنصّ على خمسة أحدهم المنصور العباسيّ، وذلك للتشويش على الجهاز الحاكم وتفويت فرصة قتل الإمام المنصّب، فالأمر باغتياله كان قد صدر من المنصور.

ثانياً: الطمع وحبّ الدنيا، فبعض أصحاب الأئمّة كانوا وكلاء لهم، كبعض وكلاء الإمام الكاظم (ع)، الذين كان لديهم الكثير من المال، وحين استشهد الإمام (ع) رفضوا إرجاعه للإمام الرضا (ع)، وزعموا غيبة الإمام الكاظم (ع)، وعُرفوا بالواقفة.

روى الشيخ الصدوق: (حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن جمهور، عن أحمد بن الفضل، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: لمّا مات أبو الحسن (عليه السلام) وليس من قوّامه إلّا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته....) [عيون أخبار الرضا (ع)، ج 1 ص 103].

ثالثاً: العجلة في العمل على إزالة الأنظمة الحاكمة آنذاك دون وجود قاعدة شعبيّة واعية قويّة متماسكة، وهذا أدّى إلى انفصال الزيديّة عن الجسد الشيعيّ الأصيل، فبعد أن وافقوا الإماميّة على القول بالنصّ على عليّ والحسن والحسين (ع) جعلوا الإمام كلّ عالم فاطميّ قام بالسيف ودعا إلى نفسه، فتكوّنت الفرقة الزيديّة.

رابعاً: حبّ الزعامة، ومن مصاديق ذلك ادّعاء عبد الله الافطح الإمامة بعد استشهاد الصادق (ع)، وعُرف من تبعه بالفطحيّة.

خامساً: خفاء النصّ عن بعض الأصحاب، وهذا من أهمّ الأسباب، فلم يكن شيعة أهل البيت (ع) على علم بأسماء الأئمّة إلّا الخاصّة منهم ممّن يحفظون السرّ ولا يذيعونه، إذْ إنّ إذاعة النصّ على أسمائهم عليهم السلام وعلى الملأ، فيه تعريض حياتهم إلى الخطر من قبل حكّام زمانهم.

لكن أغلب الأصحاب كانوا عادة يرجعون لاعتقاد الإمامة وفق تسلسلها المذكور حين يصلهم النصّ عن طريق الثقات، أو حين يرون شيئا من معاجز الإمام (ع).

قال الشيخ الطوسيّ عمّن توقّفوا في إمامة الرضا (ع) وتوبتهم: (ويبطل ذلك أيضا ما ظهر من المعجزات على يد الرضا عليه السلام الدالّة على صحّة إمامته، وهي مذكورة في الكتب. ولأجلها رجع جماعة من القول بالوقف مثل: عبد الرحمن بن الحجّاج، ورفاعة بن موسى، ويونس بن يعقوب، وجميل بن درّاج، وحمّاد بن عيسى وغيرهم، وهؤلاء من أصحاب أبيه الذين شكّوا فيه ثمّ رجعوا. وكذلك من كان في عصره، مثل: أحمد بن محمّد بن أبي نصر، والحسن بن عليّ الوشاء وغيرهم ممّن كان قال بالوقف، فالتزموا الحجّة وقالوا بإمامته وإمامة من بعده من ولده). [الغيبة، ص71].

وقال الشيخ النجاشيّ في ترجمة عثمان بن عيسى الكلابيّ: (عثمان بن عيسى أبو عمرو العامريّ الكلابيّ ثمّ من ولد عبيد بن رؤاس، فتارة يقال الكلابيّ و تارة العامريّ وتارة الرؤاسيّ، والصحيح أنّه مولى بني رؤاس. وكان شيخ الواقفة ووجهها، وأحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر عليه السلام، روى عن أبي الحسن عليه السلام. ذكره الكشيّ في رجاله. وذكر نصر بن الصبّاح قال: كان له في يده مال - يعني الرضا [عليه السلام] - فمنعه فسخط عليه. قال: ثمّ تاب وبعث إليه بالمال، وكان يروي عن أبي حمزة، وكان رأى في المنام أنّه يموت بالحائر على صاحبه السلام، فترك منزله بالكوفة، وأقام بالحائر حتّى مات ودفن هناك.)[ فهرست أسماء مصنّفي الشيعة للنجاشيّ، ص 300].

لقد مرّ الأئمّة (عليهم السلام) وشيعتهم بظروف قاسية، جعلت التصريح بأسماء الأئمّة (ع) على الملأ خطراً على حياتهم، فلم يكن الأئمّة (عليهم السلام) يذكرون الحجّة أو الحجج من بعدهم إلّا للخاصّة منهم.

قال الشيخ جواد التبريزيّ: (إنّ الوضع العامّ الذي عاش فيه الأئمّة (عليهم السّلام) خصوصاً بعد شهادة الإمام الحسين (ع) كان وضعاً ضاغطاً وعصيباً، وقد حاول فيه الظالمون بكلّ جهدهم أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ، فكانوا يتربّصون بالأئمّة الدوائر ويبغونهم الغوائل للقضاء عليهم. وكان هؤلاء الظالمون، في العهدين الأمويّ والعباسيّ وإن لم يكونوا يقدمون على قتلهم جهراً وعلانية كانوا يحاولون ذلك غيلة، وشاهد ذلك ما نجده من إقدامهم على دسّ السمّ للأئمّة (عليهم السّلام)، وهذه الظروف والأوضاع غير خافية على المتتبّع لأحوالهم، والعارف بتاريخهم، ويكفي لمعرفة ذلك، النظر إلى كيفية نصّ الإمام الصادق (ع) على إمامة الكاظم (ع) في وصيّته له، حيث كان العباسيّون ينتظرون أنّ يعيّن بنحو صريح الإمام بعده ليقتلوه، فكان أن أوصى لخمسة، فضيّع عليهم هذه الفرصة، ثمّ ما جرى على مولانا الكاظم (ع) من سجنه ثمّ قتله، وأيضاً ما جرى من التضييق والاضطهاد للإمام الهادي (ع) ومن بعده ابنه الحسن العسكري (ع)، ومحاولتهم القبض على خليفته الإمام المهدي (عج) وقتله بزعمهم.

فهذا ما عاشه الشيعة الكرام من ظروف القمع والتقيّة، بحيث كانوا لا يسلمون على عقائدهم في وقت كان يسلم فيه الكفّار في بلاد الإسلام على ما كانوا عليه من ضلالة، ولا يسلم شيعة أهل البيت بما عندهم من الهدى! فكان الكشف في هذه الظروف عن أسماء الأئمّة المعصومين، خصوصاً من كان منهم في الفترات اللاحقة، وتناقل النصوص المصرّحة بإمامتهم بين الرواة أمراً في غاية الخطورة على الإمام وعلى شخص الناقل أيضاً. ولكنّهم مع ذلك قد حفظوا لنا جزاهم الله خير الجزاء تلك النصوص وتناقلوها فيما بينهم بالرغم ممّا كان يكتنفها من المشاكل والضغوط حتّى أوصلوها لنا، بحيث تمّت بواسطتها الحجّة على من أنكر، والاحتجاج بها والاستناد إليها لمن آمن. ولهذا فقد أصبحت هذه القضيّة من المسلَّمات العقائديّة لدى شيعة أهل البيت، والمتواترة إجمالًا، بحيث إنّهم عرفوا حتّى عند أعدائهم بتولّيهم لهؤلاء الأئمّة الطاهرين، وميّزوا بأنّهم (الاثنا عشريّة) في إشارة إلى اعتقادهم بإمامة الأئمّة الاثني عشر. وصار الأمر عند الشيعة بحيث إنّ من كان لا يؤمن بأحدهم أو جعل غيره مكانه لا يعد من هذه الطائفة). [الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية، ص23–24].

فهذه أهمُّ أسباب تفرّق الشيعة بعد استشهاد كل إمام عليه السلام.