هل يصحّ أن نتساءَل فنقول: أينَ الله..؟!

السؤال : مقولة يردّدها الناس (أين الله)! فهل يوجد في كلمات أئمّة الهدى (عليهم السلام) جوابٌ على ذلك؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم ..الأخ السائل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد.. سنجيب عن سؤالكم هذا بعد ذكر تنبيهين مهمّين في المقام:

التنبيه الأوّل: أنّنا لم نسمع من أتباع مذهب أهل البيت (ع) ترديدهم لهذه المقولة بهدف البحث عن الله عزّ وجلّ بناءً على جهلهم بأنّه تعالى لا يحويه مكان..!، فإنّ رواياتهم "عليهم السلام" وإقامتهم الأدلّة الواضحة على امتناع المكان عليه تعالى قد حصّنت شيعتهم عن مثل هكذا عقيدة فاسدة.

نعم قد يتساءل الناس عن الله تعالى حينما تصيبهم الشدائد وتضيق بهم الأفق ويطول ابتلاؤهم فيقولون: ( أين الله..؟ ) ويقصدون بذلك: ( أين نجد فرج الله ، أو نصره ، أو كشفه للضُرِّ الذي لحق بهم) ، وذلك أمر لا إشكال فيه شرعاً إذا كان مندرجاً تحت عنوان الدّعاء ، ولم يكن تشكيكاً بالذات المقدّسة وقدرتها على الإنجاء وتخليص العباد ، فيكون ذلك نظير قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214] ، قال في الأمثل: ((أنّ الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبيّ "صلّى الله عليه وآله وسلّم" ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول: "متى نصر الله..؟!" ، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضاً على المشيئة الإلهيّة ، بل هو نوعٌ من الطلب والدعاء.)) [التفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي:ج2،ص95] ، وبهذا المعنى جاء في قول الإمام زين العابدين "عليه السلام" في دعاء أبي حمزة الثماليّ وقت السَّحَر: ((... يا حليمُ يا كريمً، يا حيُّ يا قيومُ، يا غافرَ الذنبِ، يا قابلَ التوبِ، يا عظيمَ المنِّ، يا موصوفاً بالإحسان! أين سترُكَ الجميلُ، أين فرجُكَ القريبُ، أين غياثُكَ السريعُ، أين رحمتُكَ الواسعةُ، أين عطاياك الفاضلةُ، أين مواهبُكَ الهنيئةُ، أين صنائعُكَ السَّنِيَةَ، أين فضلُكَ العظيمُ، أين مَنُّك الجسيمُ، أين إحسانُكَ القديمُ، أين كرمُكَ يا كريمُ..؟ بكَ وبمحمّدٍ وآلِ محمّد "عليهم السلام" فاستنقذني، وبه وبهم وبرحمتك فخلّصني... الدعاء)) [مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي:ص585].

والحاصل: أنّ مقولة ( أين الله..؟ ) بقصد السؤال عن المكان إنّما تكثر وتروّج عند السلفيّة وأمثالهم من القائلين بالتجسيم ؛ إمّا لتأثّرهم بالإسرائيليّات التي حفلت بها كتبهم ، أو لجمودهم على ظواهر النصوص الشرعيّة ، حتّى إن كان تلك الظواهر مخالفة لأدلّة العقل وكانت قابلة للتأويل..!.

التنبيه الثاني: لا يخفى عليكم أنّ الحجّة والعمدة في أمّهات المسائل العقديّة هو الدليل العقليّ لا النقليّ، وقد قامت الأدلّة العقليّة القطعيّة على استحالة أن يكون للذات المقدّسة مكان ، وبالتالي عدم صحّة السؤال عنها بـــ ( أين ) ومن تلك الأدلّة:

الدليل الأوّل: لزوم سؤال الأين لإمكانه تعالى وهو محال ، فإنّ كلّ ما كان يشغل حيّزاً من المكان فهو جسم ، وكلّ ما كان جسماً فهو ممكن ، والله تبارك وتعالى يستحيل إمكانه ؛ لأنّه واجب الوجود بذاته بلا خلاف في ذلك.

الدليل الثاني : لزوم سؤال الأين افتقار الله تعالى للمكان ، والله تعالى غنيّ لا يفتقر ، فغناه دليل تنزّهه عن الحاجة إلى المكان.

الدليل الثالث: أنّ سؤال الأين هو سؤال الشاهد عن الغائب والله تعالى لا يغيب وإلّا لم يكن إلهاً وربّاً ؛ ولهذا رفض إبراهيم الخليل "عليه السلام" ربوبيّة الكواكب والشمس والقمر بسبب أفولها أيْ غيابها ، قال الإمام الحسين "عليه السلام" في دعاء عرفة: ((متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك..؟! ، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك..؟!)) [انظر دعاءه "عليه السلام" يوم عرفة في مفاتيح الجنان] ، وجاء في الاحتجاج: (( أنّ أبا قرّة المحدّث - وكان من المخالفين – قد دخل على الإمام الرضا "عليه السلام" وسأله مجموعة كثيرة من الأسئلة انتهت باستبصاره ، فكان من جملتها أن قال أبو قرّة : أين الله ؟. فقال أبو الحسن عليه السلام : الأين مكان ، وهذه مسألة شاهد عن غايب ، فالله تعالى ليس بغائب)) [انظر الاحتجاج للطبرسيّ: ج2،ص187].

الدليل الرابع: أنّ الله تعالى قديم بذاته ولا قديم بذاته سواه ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، فلو كان بحاجة إلى المكان للزم إمّا حدوثه جلّ شأنه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فيكون خلف فرضه قديماً، أو يلزم قِدَم المكان وحينئذ يتعدّد القدماء ، وهو محال.

فإذا عرفت ذلك فإنّ أحاديثهم (ع) الآتية إنّما هي مؤيّدات ومعضّدات لهذه الأدلّة العقليّة التي تقدّم ذكرها ، وإليك بعضاً من تلك الأحاديث:

1- قال قائل لأمير المؤمنين "عليه السلام": ((أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ سَمَاءً وأَرْضاً..؟! ، فَقَالَ "عليه السلام": أَيْنَ سُؤَالٌ عَنْ مَكَانٍ ..! ، وكَانَ اللَّه ولَا مَكَانَ)) [الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ: ج1،ص90].

2- روى الشعبيّ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سمع رجلاً يقول: والذي احتجب بِسبعٍ طباق، فعلاه بالدُرّة، ثمّ قال له: يا ويلك إنّ الله أجلُّ من أن يحتجب عن شيء، أو يحتجب عنه شيء سبحان الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال الرجل: أَفَأُكَّفِرُ عن يميني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا ؛ لم تحلف بالله فيلزمك الكفّارة وإنّما حلفت بغيره)) [وسائل الشيعة للحرّ العامليّ:ج23 ،ص263].

3- وعن السقّاف قال: ((وقد قال أمير المؤمنين عليّ "رضي الله عنه: إنّ الله تعالى خلَق العرشَ إظهاراً لقدرته لا مكاناً لذاته. وقال أيضاً: قد كان [ أي الله ]ولا مكان وهو الآن على ما كان)) [صحيح شرح العقيدة الطحاويّة للحسن بن علي السقّاف: ص191].

4- وروي أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال له: (( أنت خليفة رسول الله على الأمّة؟ فقال: نعم، فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبّرني عن الله أين هو؟ في السماء هو أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر: في السماء على العرش، قال اليهوديّ: فأرى الأرض خالية منه، فأراه على هذا القول في مكان دون مكان! فقال له أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، أعزب عنّي وإلّا قتلتك..!. فَوَلّى الرجل متعجّباً يستهزئ بالإسلام..! ، فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا يهودي قد عرفتُ ما سألتَ عنه وما أُجِبتَ به وإنّا نقول: إنّ الله عز وجل أَيَّنَ الأين فلا أين له، وجلَّ عن أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان بغير ممّاسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شيء من تدبيره تعالى... الخبر))[الإرشاد للشيخ المفيد:ج1،ص201].

5- أمالي الصدوق: عن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" قال: ((إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً)) [التوحيد للشيخ الصدوق:ص483 وما بعدها].

6- وعن ثابت بن دينار قال: (( سألت زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ، بن أبي طالب (عليهم السلام) عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان..؟ فقال: تعالى الله عن ذلك. قلت: فَلِمَ أسرَى بنبيّه محمّد "صلّى الله عليه وآله" إلى السماء..؟ ، قال: لِيُريَه ملكوت السماء وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزّ وجلّ: {ثمّ دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى}..؟ ، قال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وآله دنى من حجب النور فرأى ملكوت السماوات، ثمّ تدلّى "صلّى الله عليه وآله" فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى))[علل الشرايع للشيخ الصدوق:ج1،ص131]. إلى غيرها من رواياتهم "عليهم السلام" ، فضلاً عن خُطَب أمير المؤمنين "عليه السلام" في التوحيد والصفات ونحوها.. وإلّا فما ذكرناه مجرد غيض من فيض .. ودمتم سالمين.