هل يمكن تفسير وجود الإنسان والمجتمع على أساس نظرية داروين؟

محمد/ انا اعتقد ان نظرية داروين (الارتقاء الذاتي) لا تتعارض مع عدم وجود خالق لهذا الكون. هل هذا صحيح؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

كل نظرية تحمل من الصحة والصواب بمقدار، إلا أن تعميم النظرية بوصفها الحقيقة المطلقة تصور خاطئ. وداروين في كتابه (نشأة الإنسان والانتقاءالجنسي) تمكن من رصد شواهد متعددة تثبت تأثر الكائنات الحية بالبيئة التي تعيش فيها، وهذا المقدار يمكن قبوله ولا يتعارض مع نظرية الخلق والابداع، أما تفسير وجود الإنسان بالتطور الذاتي الذي حدث في الخلية الواحدة لا يمكن أثباته علمياً، مما يعني أن النظرية اثبتت الشق الأول أما في ما يتعلق بالإنسان ليس إلا مجرد افتراض لم يقوم عليه البرهان العلمي، فالرؤية الداروينية إلى الإنسان تبدأ منذ أن كان خلية واحدة في ماء آسن منذ ملايين السنين، ولا نعلم ولا يعلمون من أين أتت هذه الخلية وكيف حصلت على الحياة؟ وأن المادة الميتة كيف يمكنها أن تهب الحياة لغيرها؟ كل ذلك لا يهم وإنما المهم عندهم أنها وجدت والسلام، ثم تطورت ومرت تلك الخلية بمراحل مختلفة وتكاثرت حتى أصبحت اساساً لكل اشكال الحياة على كوكب الأرض.

 

أما الإنسان كيف ظهر على مسرح الحياة ضمن هذه النظرية؟ نجد أن التاريخ الحقيقي للتحول الإنساني قد بدأ مع مرحلة الثدييات، والتي تمثل في الواقع الجد الأوسط للإنسان بعد مرحلة الخلية الواحدة التي هي الجد الأعلى للإنسان، ومن بين تلك الثدييات كان هناك طور انفرد بان يكون جداً حصرياً للإنسان والقرد معاً دون غيرهم من الثدييات، ثم شق كل من الإنسان والقرد طريقه في التطور حتى أصبح هذا الإنسان الذي نعرفه وذاك القرد الذي مازال قرداً يعيش في الغابة.

 

وكل هذه العملية التطورية لا يحكمها إلا قانون واحد وهو قانون (اصطفاء الاصلح) أو (البقاء للأفضل)، وقد نال هذا القانون شرحاً مفصلاً من علماء الاحياء فيما يخص البيئة الطبيعية للحياة وتأثيرها في الكائنات، ثم عدل هذا القانون في بعض أجزائه من قبل إنصار الداروينية لكي يتجاوزوا به التباين الكبير بين بعض مراحل التطور فأضيف إليه قانون (التحولات المفاجئة).

 

وهكذا تحقق التطور ضمن عملية ميكانيكية معقدة، إلا إن المادة لم تكن واعية لكل هذه الحركة التطورية، والأمر الذي تم اهماله هو كيف اكتسبت هذه المادة هذا الوعي الذي نجده في مرحلة الإنسان؟ وهذه هي الجزئية التي تم افتراضها من غير أن يتمكنوا من إثباتها علمياً، فالتطور قد يكون مفهوماً في المادة أما النقلة التي حدثت عند الإنسان في اكتسابه للعقل والوعي والإدراك وتحليه بالقيم الأخلاقية مما يستحيل إثباته بقانون التطور الذاتي.

 

والذين حاولوا إثبات عدم التعارض بين هذه النظرية وبين حقيقة الخلق القرآنية لآدم، افترضوا أن آدم (عليه السلام) كان نتاج للتطور المادي كبقية الكائنات الحية، إلا أن آدم تمييز عن البقية بأن اللهقد خصه بأن افاض عليه من روحه فأصبح آدم الإنسان العاقل والمسؤول عن فعله، وهذا الامر يعد تلفيق لا يستند على أي مبرر علمي، والافتراضات الغير قائمة على مستندات علمية لا يلتفت إليها.

 

وعليه لا تصلح هذه النظرية أن تفسر لنا سبب وجود الإنسان، كما أنها لا تصلح أن تكون أساساً للإلحاد لوجود فراغ في النظرية وهو من أين وجدت هذه الخلية الحية؟ ومن الذي إعطاء الحياة للمادة؟ والعجيب أن داروين نفسه أقر بالدور الفعال للإيمان بالمعبود حيث يقول: "وبالنسبة للأعراق الأكثر تمدناً، فإن الإيمان الراسخ بالوجود الخاص بمعبود، مطلع على كل شيء قد كان له تأثير فعال، على التقدم الخاص بالأخلاق"

 

ومن النتائج الخاطئة التي تترتب على نظرية داروين هو تفسير المجتمعات والقيم الأخلاقية على أساسهذه النظرية، فقانون الانتخاب الاجتماعي الذي جاء على وزن قانون الانتخاب الطبيعي لا يشكل تفسيراً للإنسان بوصفه كائن اجتماعي، وإنما مجرد تحايل وخدعة لتمرير التفسيرات المادية للاجتماع الإنساني، فالتطور الذي يحدث في الكائنات الحية بحسب النظرية الداروينية يقوم على بقاء الاجدر والاقوى والاصلح، وهو طرح يمكن تفهمه ضمن إطار المادة غير الواعية، ولكن كيف يمكن فهمه واستيعابهضمن الحياة العاقلة والمريدة؟ وحركة الإنسان والمجتمع حركة واعية تقوم على التطلع نحو الكمال الذي قد يكون فيه التضحية بالذات من أجل العدل والحرية والكرامة، الأمر الذي يجعلها تقع على العكس تماماً من الأنانية المحضة التي يقوم عليها الانتخاب الطبيعي. 

 

فالاستجابات العصبية، والسلوكيات الغرائزية، عملية غير واعية، قد نجدها في بعض السلوكيات التي يمارسها الإنسان كما يمارسها الحيوان، أما السلوك الحر القائم على الوعي والإرادة والقدرة على الاختيار والتمييز فهو حتماً مختلف عن الحالة الغرائزية. 

 

والعمل على تطبيق قانون البقاء للأصلح اجتماعياً سوف يؤدي إلى أثار مدمرة للوجود الإنساني، فتمييز البشر بحسب الجينات الوراثية يفتح الطريق أما صراع عرقي تنقلب معه كل المفاهيم الأخلاقية إلى مفاهيم لا أخلاقية، فيصبح الخير شر، والعنصرية فضيلة، والعدل ضعف، والظلم قوة، والإنصاف سخف، والرحمة جهل، وهكذا تكون الحقوق فقط للأقوى والأكثر صموداً.

 

ومن هنا رفض ألفرد والاس المنظور الدارويني وكتب عام 1864 يسأل: "كيف افرز الانتخاب الطبيعي المفاهيم الأخلاقية الجيدة، كالمنطقية والإثار؟، ويرى والاس أن مبدأ الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح قد أديا إلى تفوق الإنسان الحديث على حساب الإنسان البدائي، الذي أنقرض نتيجة لعدوانية اجدادنا، أي أن بقاء الأول كان على حساب فناء الثاني. لما كانت هذه النتيجة لا تتماشى مع منظومتنا الأخلاقية، فذلك يعني أن لأخلاقنا مصدراً آخر غير الصراع، ويرى والاس أن هذا المصدر ليس إلا الإله الخالق للعقل البشري خلقاً مباشراً"

 

وقد حمل البعض التفكير الدارويني مسؤولية ما وقع من دمار في الحرب العالمية، وذلك للفلسفة العنصرية التي أسسها تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان، والذي حاول فيه البرهنة على وجود تمايز حقيقي بين البشر، وقد يرتفع هذا التمايز إلى مستوى أن يكون كل عرق نوعاً إنسانياً مستقل عن الآخر، يقول: "قام الإنسان بالارتفاع إلى منزلته الحالية. ولكن منذ أن وصل إلى المرتبة الإنسانية، فإنه قد تشعب إلى أعراق متباينة، أو كما يمكن أن يطلق عليهم بشكل أكثر انطباقاً (أنواع فرعية) وبعض تلك الأنواع الفرعية، مثل الزنوج أو الأوروبيين يكونوا غاية في التباين، إلى درجة أنه إذا تم إحضار عينة إلى عالم في التاريخ الطبيعي، بدون أي معلومات إضافية، فإن من شأنهم بلا شك، أن يتم اعتبارهم عن طريقه، على أساس أنهم أنواع صحيحة وحقيقية".

 

والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضر منها الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، حيث يقول فيه: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم." ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب thomas knapp من جامعة لويال يقول:" كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914مبمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الاجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوربـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط"

 

ولو اعتبرنا أن عملية الانتخاب الطبيعي ليست موغلة في الأنانية، وإنما هي قائمة على انتخاب أخلاقي يراعي الخير والفضيلة، مع أنه غير ممكن بحسب النظرية الداروينية، إلا أنه ومع ذلك الاعتبار لا تكون عملية مفهومة بدون مرجعية أخلاقية، وكل ما يمكن تفهمه هو النسبية القائمة على المعيار الشخصي، لأن عملية الانتخاب الطبيعي ليست عملية حتمية تصادر إرادة الإنسان، وإنما تخضع لخياراته هو وبحسب الظروف والمرجحات، الأمر الذي يجعلنا نبحث من جديد عن أخلاق تمتلك مفهوماً إطلاقاييمكن أن يرجع إليه المجتمع في عملية الانتخاب، وبدون المعيارية الذاتية للقيم الأخلاقية لا يكون هناك مبرراً لوجودها من الأساس ناهيك عن إمكانية انتخابها اجتماعياً، وبالتالي فليعمل كل إنسان بحسبه دون أن يكون هناك رادع لفعله. 

 

يقول الفيلسوف الأميركي اللا أدري والمثير للجدل توماس ناغل في كتابه "العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟ أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية.

 

ويقول روي أبراهام فارغير "أرى أن هناك خمسة ظواهر واضحة في تجربتنا المباشرة لا يمكن تفسيرها إلا بلغة وجود الإله. هذه الظواهر هي: 

 

الأولى: العقلانية المتضمنة في جميع خبراتنا الحسية عن العالم الفيزيائي.

 

الثانية: الحياة القادرة على الفعل المستقل.

 

الثالثة: الوعي، القدرة على أن تكون على علم.

 

الرابعة: الفكر التصوري، القدرة على التعبير وفهم الرموز الموجود في اللغة.

 

الخامسة: النفس البشرية، مركز الوعي والفكر والفعل."

 

ومع أن النظرية الداروينية قد أسست تصوراتها عن الإنسان ضمن رؤية مادية قاصرة، وقد تسبب ذلك في غياب فهم حقيقي ومتكامل للإنسان، إلا أن هناك أمر إيجابي يمكن أن يحسب لها، وهو ما وفرته من مادة وشواهد ضخمة وما أوجدته من ملاحظات لها علاقة بتأثير البيئة والجغرافيا في الاجتماع الإنساني، وهو بدوره يساعد على فهم شخصية المجتمع ودوافعه وانماط تفكيره واساليب عيشه وفنونه، الأمر الذي لا يستغني عنه أي عالم اجتماعي. 

 

ومع ذلك فإن الملاحظة الجديرة بالذكر في هذا الخصوص هو عدم حتمية هذه المؤثرات على الاجتماع الإنساني، لما يمتلكه الإنسان من إرادة واعية وعقل مميز وروح تواقة للتسامي والكمال، فبإمكان الإنسان فرداً أو جماعة التمرد على كل هذه المؤثرات، وخلق واقع أخر بعيد كل البعد عنما كان يجب أن يكون عليه بحسب قانون الطبيعة، فمع اعترافنا بالجانب المُنّفعل في الإنسان، نعترف أيضاً بالجانب الفاعل فيه، وهو جانب الروح المتطلعة نحو الكمال المعنوي والمادي بما لها من وعي وإيمان بقيم مطلقة.