هل لغير المسلمين نفسُ الحقوقِ في القضاءِ الإسلامي؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
كلُّ مَن يعيشُ تحتَ الحُكمِ الإسلاميّ مِن غيرِ المُسلمينَ يُسمّى في الفقهِ الإسلامي بأهلِ الذمّة، وقد كفلَ لهم الإسلامُ حقَّ المواطنةِ في الدولةِ الإسلاميّة، وجعلَ لهم منَ الحقوقِ كما لبقيّةِ المُسلمين، وسنَّ القوانينَ والتشريعاتِ التي تحميهم مِن أيّ ظلمٍ يمكنُ أن يصيبَهم، ولم يجعَل تلكَ الحمايةَ تكليفاً خاصّاً للحاكمِ وإنّما جعلها مسؤوليّةً اجتماعيّةً في عاتقِ جميعِ المُسلمين.
فبعد هجرةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) إلى المدينةِ عملَ على تأسيسِ أوّلِ حاضرةٍ إسلاميّة، حيثُ أرسى نمطاً جديداً للحياةِ قائماً على الحقوقِ المُشتركةِ بين جميعِ مكوّناتِ المُجتمع، فسنَّ القوانينَ والتشريعاتِ التي تُحقّقُ الحياةَ الكريمةَ لكلِّ مَن يعيشُ في ظلِّ تلكَ الدولة، فكانَت صحيفةُ المدينةِ التي تعدُّ أوّلَ دستورٍ مدنيٍّ في تاريخِ الدّولةِ الإسلاميّة، وقد جاءَ في بندِها الأوّل: (إنّهم أمّةٌ واحدةٌ مِن دونِ الناس) الأمرُ الذي يؤكّدُ أنَّ دولةَ المدينةِ جُعلَت لتكونَ حاضنةً لجميعِ مِن يعيشُ فيها، ومِن هُنا نجدُ بنودَ هذه الصّحيفةِ استهدفَت تحسينَ العلاقاتِ بينَ القبائلِ المُسلمةِ مِن مهاجرينَ وأنصار وبينَ المُسلمينَ وغيرِ المسلمين، يقولُ المُستشرقُ الروماني جيورجيو: «حوى هذا الدّستورُ اثنين وخمسينَ بنداً، كلّها مِن رأي رسولِ الله. خمسةٌ وعشرونَ منها خاصّةٌ بأمورِ المُسلمين، وسبعةٌ وعشرونَ مُرتبطةٌ بالعلاقةِ بين المُسلمينَ وأصحابِ الأديانِ الأخرى، ولاسيما اليهودِ وعبدةِ الأوثان. وقد دُوّنَ هذا الدستورُ بشكلٍ يسمحُ لأصحابِ الأديانِ الأخرى بالعيشِ مع المُسلمينَ بحريّة، ولهم أن يقيموا شعائرَهم حسبَ رغبتِهم، ومن غيرِ أن يتضايقَ أحدُ الفرقاء. وُضعَ هذا الدستورُ في السنةِ الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حالِ مُهاجمةِ المدينةِ مِن قبلِ عدوٍّ عليهم أن يتّحدوا لمُجابهتِه وطرده.»
فأهلُ الذمّةِ شركاءُ في الأرضِ والوطنِ حالهم كحالِ بقيّةِ المُسلمين، ولهم فوقَ ذلكَ الحقُّ في إجراءِ مراسيمِ عباداتِهم، وأن يعملوا بحسبِ شرائعِهم، وليسَ عليهم في مقابلِ ما توفّرُه الدولةُ لهم منَ الحمايةِ وحريّةِ المُعتقدِ سوى دفعِ الجزيةِ التي تمثّلُ ضريبةَ حقِّ المواطنة، ولم يُوجِب الإسلامُ دفعَ الضريبةِ على النّساءِ والصّبيانِ والمساكينِ والرّهبانِ وذوي العاهات، الأمرُ الذي يدلُّ على سماحةِ الإسلامِ ومدى مُراعاتِه لأهلِ الذمّة، بل زادَ الإسلامُ فتكفّلَ بالإنفاقِ على مَن شاخَ وعجزَ منهم، فقد جاءَ في الخبرِ أنَّ أميرَ المؤمنين (عليهِ السّلام) كانَ يسيرُ في شوارعِ الكوفةِ فمرَّ بشخصٍ يتكفّفُ وهوَ شيخٌ كبيرُ السنِّ، فوقفَ (عليهِ السّلام) مُتعجّباً وقالَ: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنّهُ نصرانيٌّ قد كبرَ وعجزَ ويتكفّف. فقالَ الإمامُ (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتّى إذا كبرَ وعجزَ تركتموه، أجروا لهُ مِن بيتِ المالِ راتباً.
ومِن حقوقِهم الماليّةِ والاقتصاديّة حقُّ العملِ في مُختلفِ الحقولِ التي لا يُشترطُ فيها الإسلامُ كالزراعةِ والصناعةِ والتجارة، ولهُم حقُّ مشاركةِ المسلمِ في الأعمالِ المُختلفةِ كما وردَت في ذلكَ نصوصٌ عديدة.
وإذا رجعنا للنصوصِ الواردةِ في هذا الشأنِ نجدُها فصّلَت الكثيرَ منَ الأحكامِ الخاصّةِ بأهلِ الذمّة، فقد جاءَ في رسالةِ الحقوقِ للإمامِ زينِ العابدين (عليه السّلام): (وأمّا حقوقُ أهلِ الذمّة: أن تقبـلَ منهـم ما قبلَ اللهُ عزّ وجل منهـم، ولا تظلمهم ما وفوا للهِ عزّ وجل بعهـدِه، وكفى بما جعلَ اللهُ لهـم مِن ذمّتِه وعهده، وتكِلهم إليه فيما طلبوا مِن أنفسِهم، وتحكمَ فيهم بما حكمَ اللهُ به على نفسِك فيما جرى بينَك وبينهَم مِن مُعاملة، وليكُن بينَك وبينَ مَن ظلمَهم مِن رعايةِ ذمّةِ اللهِ والوفاءِ بعهدِه وعهدِ رسولِه حائل، فإنّه بلغنا أنّه قال: (مَن ظلمَ مُعاهِداً كنتُ خصمَه) فاتّقِ الله، ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله) فالروايةُ بالإضافةِ إلى أنّها تقرُّ مبدأ الحُرّيّةِ الفكريّة لغيرِ المُسلمينَ وتضمنُ لهم الحمايةَ مِن كلِّ المظالمِ، نجدُها تصرّحُ بوجوبِ الحُكمِ لهم في جميعِ المُعاملاتِ بما يُحكَمُ به على المُسلمين، أي يجري عليهم في المحاكمِ والقضاءِ ما يجري على المُسلمين.
ولهم فوقَ ذلكَ الحُرّيّةُ في أن يتقاضوا ويتحاكموا عندَ قاضي المُسلمين أو عندَ قاضيهم، فقالَ الإمامُ الباقر (عليه السلام): (تجوزُ على أهلِ كلِّ ذي دينٍ بما يستحلّون) أمّا إذا كانَ في حُكمِهم ظلمٌ وجورٌ يردُّ الحُكمُ إلى القاضي الإسلاميّ ليُنصفَ المظلومَ، قالَ الإمامُ الصّادق (عليهِ السّلام): (يردُّ إلى حُكم المسلمين)، وقد وصلَ الحدُّ في حمايةِ حقوقِ أهلِ الذمّةِ إلى درجةٍ لو أنَّ المُسلمَ أراقَ خمراً لغيرِ المُسلمينَ أو قتلَ خنزيراً فإنّه لهُ ضامنٌ لأنّهُ حقٌّ لهُ ماليّةٌ عندَهم.
كما أنَّ قانونَ الجناياتِ بما فيه من ديّاتٍ يطبّقُ على المُسلمِ وغيرِ المُسلم، قالَ الإمامُ الباقر (عليه السّلام): (يؤخذُ منَ المُسلمِ جنايتُه للذمّي على قدرِ ديّةِ الذمّي ثمانمائة درهم)
كلُّ ذلكَ يكشفُ عن المساواةِ في القضاءِ بينَ المُسلمِ والذمّي، فالعدالةُ قيمةٌ إلهيّةٌ تجري على الجميعِ بسُنّةٍ واحدة.
اترك تعليق