هل يمكنُ رسمُ حدودٍ مُعيّنةٍ بينَ الدينِ والفلسفة؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

هناكَ تباينٌ في الآراءِ حولَ علاقةِ الأديانِ السّماويّةِ بالفلسفاتِ البشريّة، فبينَ مَن يرى أنَّ بينَهما توافقاً وتطابقاً، وبينَ مَن يراهُما خطّينِ متوازيين لا يلتقيانِ أبداً، ويبدو أنَّ سببَ الاشتباكِ يعودُ إلى أنَّ الدّينَ والفلسفةَ يبحثانِ عَن حقيقةٍ واحدة، فالمسائلُ التي يقعُ عليها البحثُ عند الطرفينِ تكادُ تكونُ مشتركةً، وبخاصّةٍ فيما له علاقةٌ بالتصوّرِ المعرفيّ في أصلِ الوجودِ والكونِ وغاياتِ الحياةِ ودورِ الإنسانِ فيها، فنظريّاً الفلسفةُ والدينُ يخدمانِ مشروعاً واحداً، ومِن هُنا يمكنُ ملاحظةُ التطابقِ بينَهما، أمّا مِن جهةِ النتائجِ والمقولاتِ المعرفيّة فهناكَ نوعٌ من التابينِ بينَ مقولاتِ الدينِ ومقولاتِ الفلسفة، الأمرُ الذي دفعَ الفلاسفةَ إلى تأويلِ النصوصِ الدينيّة بما يخدمُ المقولاتِ الفلسفيّة، وفي المقابلِ يرى الفقهاءُ والمُتكلمونَ أنَّ تأويلاتِ الفلاسفةِ ليسَت إلّا تجنّياً على الدينِ ومُصادرةً لمقولاتِه لصالحِ المقولاتِ الفلسفيّة، فما يطرحُه الفلاسفةُ في نظرِ هؤلاءِ ليسَ إلّا فلسفةً يونانيّةً بلسانٍ عربيٍّ ولبوسٍ إسلامي، وظلَّ هذا النزاعُ مُستمرّاً من دونِ أن يُحسمَ لصالحِ أيّ واحدٍ منَ الطرفين.  

ومنَ المفيدِ الإشارةُ إلى أنَّ فقهاءَ المُسلمين لم يكونوا يتخوّفونَ منَ العلومِ اليونانيّةِ في الطبيعيّاتِ والرياضيّاتِ وبمقدارٍ كبيرٍ المنطق، ولذا استقبلوا الكثيرَ منَ الكتبِ المُترجمةِ في هذهِ العلوم من دونِ أيّ اعتراض، وإنّما كانَ حذرهُم وخوفُهم فيما يتعلّقُ بآراءِ اليونانِ في الإلهيّات، ولذا تكرّسَ النزاعُ الحقيقيُّ حولَ الأمورِ الاعتقاديّةِ مثلَ المبدأ وكيفيّةِ الخلقِ والعلاقةِ بينَ القديمِ والحادثِ وبعضِ مسائلِ المعادِ كبعثِ الأجسامِ الدنيويّة.  

وقد كانَ كتابُ (تهافتِ الفلاسفة) للغزاليّ مِن أهمِّ المحطّاتِ التي خرجَ فيها هذا النزاعُ إلى السطحِ العام، حيثُ كفرَ فيه الفلاسفةُ في ثلاثِ مقولاتٍ وحكمَ عليهم بالابتداعِ في سبعةَ عشرَ مقولةً، الأمرُ الذي دفعَ ابنَ رشدٍ فيما بعد للردِّ عليه بكتابِ (تهافتِ التهافت) حيثُ دافعَ فيه عن موقفِ الفلاسفةِ واتّهم الغزاليّ بعدمِ فهمِه لمقولاتِ الفلاسفة.  

 وقد سعى الفلاسفةُ المُسلمونَ كثيراً في إحداثِ توافقٍ بينَ الفلسفةِ والدّين، وكتبوا في ذلكَ كتباً كثيرةً، وأوّلُ ما بدأ هذا الأمرَ الفيلسوفُ الأوّلُ في الإسلامِ أبو يوسفَ يعقوب بنُ اسحاقَ السمي بالكندي، حيثُ جمعَ في تصانيفِه أصولَ الشرعِ وأصولَ المعقولاتِ ونفى أن يكونَ بينَهما تعارضٌ، وهاجمَ بشدّةٍ كلَّ مَن يُعادي الفلسفةَ واعتبرَه إمّا ضيّقَ الفطنةِ عن أساليبِ الحق، وإمّا لدرانةِ الحسدِ المُتمكّنِ مِن نفوسِهم البهيميّة، وإمّا ناشئاً عن سوءِ قصدٍ منهم، إلّا أنَّ بعضَ الباحثينَ اعتبرَ ما قامَ به الكندي هو توفيقٌ بينَ الفلسفةِ والاعتزالِ وليسَ الإسلام في خطابِه العام، حيثُ كانَت بداياتُه اعتزاليّة.  

ثمَّ واصلَ الطريقَ مِن بعدِه الفارابي الذي كانَ يرى أنَّ الدّينَ والفلسفةَ يصدرانِ عن أصلٍ واحدٍ وهوَ العقلُ الفعّال، فلا خلافَ عندَه بينَ أرسطو ورسولِ الإسلام فكلاهما يستقيانِ مِن منبعٍ واحد، أمّا ما وقعَ بينَهما مِن تناقضٍ واختلافٍ فهوَ في الظاهرِ وليسَ في الباطن، ويكفي في إزالةِ هذا الاختلافِ الركونُ إلى التأويلِ الفلسفي وطلبُ الحقيقةِ المُجرّدةِ المُستترةِ وراءَ الرموزِ والاستعارات، ووافقَه على ذلكَ وسارَ على طريقتِه تلميذُه ابنُ سينا.  

أمّا الفيلسوفُ ابنُ رشد فقد قادَ مواجهةً شرسةً معَ الفقهاء، وحاولَ بشتّى الطرقِ البرهنةَ على التوافقِ بينَ الفلسفةِ والدّين، وكتبَ في ذلكَ كتاباً خاصّاً تحتَ عنوان (فصلُ المقالِ فيما بينَ الحكمةِ والشـريعةِ منَ الاتّصال) حيثُ جاء فيه: (فإن أدّى النظرُ البُرهانيُّ إلى نحوِ ما منَ المعرفةِ بموجودٍ ما، فلا يخلو ذلكَ الموجودُ أن يكونَ قد سُكتَ عنه في الشرعِ أو عرّف به. فإن كانَ ممّا قد سُكتَ عنه فلا تعارضَ هناك، وهو بمنزلةِ ما سكتَ عنهُ من َالأحكام، فاستنبطَها الفقيهُ بالقياسِ الشرعي. وإن كانَت الشريعةُ نطقَت به فلا يخلو ظاهرُ النطقِ أن يكونَ موافقاً لِما أدّى إليه البرهانُ فيه أو مُخالفاً. فإن كانَ موافقاً، فلا قولَ هناك. وإن كانَ مُخالفاً، طلبَ هنالكَ تأويله) (ابنُ رشد، فصلُ المقال ص 35)  

ويتّضحُ مِن هذه المقولةِ لابنِ رشدٍ والتي كشفَت عن موقفِ جميعِ الفلاسفةِ بأنَّ البرهانَ العقليَّ حاكمٌ على ظواهرِ النّصوص، فإذا كانَ النصُّ مُخالفاً للفلسفةِ طلبَ تأويله بما يتوافقُ معها، وهذا هوَ أصلُ الخلافِ بينَ الفقهاءِ والفلاسفة، حيثُ يعتقدُ الفقهاءُ أنَّ الفلاسفةَ لم يجتمِع أمرُهم على حقائقَ مُحدّدةٍ وإنّما هناكَ تباينٌ واختلافٌ في مُعظمِ مسائلِهم، فكيفَ تكونُ النصوصُ تابعةً لآرائِهم وأفكارهم.  

يقولُ الميرزا مهدي الأصفهاني مُعرّضاً بمَن يجعلُ الفلسفةَ طريقاً لفهمِ الكتابِ والسنّة: وزعموا أنَّ فهمَ مُراداتِ الأئمّة (عليهم السلام) يتوقّفُ على تعلّمِ العلومِ اليونانيّة وهذا غيرُ صحيحٍ، لأنَّ حملَ ألفاظِ الكتابِ والسنّةِ على المعاني الاصطلاحيّةِ وتوقّفَ هدايةِ البشرِ على تعلّمِها بعدَ بداهةِ جهلِ عامّةِ الأمّةِ بتلكَ الاصطلاحات إلّا قليلٌ منهم، مساوقٌ لخروجِ كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رسولِه عن طريقِ العُقلاءِ وإحالتِهم تكميلَ الأمّةِ إلى مَن يعلمُ الفلسفةَ اليونانيّة، وهذا نقضَ غرضَ البعثةِ وهدمَ آثارَ النبوّةِ والرّسالةِ وهو ظلمٌ دونَه السّيفُ والسّنان)

وفي المُحصّلةِ وبعيداً عن ترجيحِ أحدِ الطرفين، فإنَّ الفلسفةَ والدّينَ قد يشتركانِ في مبدأ البحثِ عن الحقائق، وقد يتباينانِ في النتائجِ والأفكار، فمَن قبلَ الفلسفةَ أوّلَ النصوصَ لصالحِها ومَن لم يقبَل التأويلَ رفضَ الفلسفة.