الإسلام بين المواطنة والمساواة

السؤال: في الدول العلمانيّة، مفهوم المواطنة يضمن المساواة بين جميع المواطنين في كلّ الحقوق المدنيّة والسياسيّة، بغضّ النظر عن الجنس، والعرق، واللّون، والحالة الاجتماعيّة، والدين أو المعتقد الإيديولوجيّ. وأمّا في الدولة الإسلاميّة، فهناك خمسة مستويات (للمواطن): 1. المسـلم الذكر: له كلّ الحقوق. 2. المسـلمة الأنثى: مرتبة أقلّ، لا تحكم ولها نصف الميراث ونصف الشهادة ونصف الديّة، محدودة الحريّة وعليها طاعة زوجها. 3. غير المسـلم (الذمّيّ): مواطن من مستوى أقلّ، لا يحكم وليس له حقّ القصاص من المسلم، ويعطي الجزية وهو صاغر (مذلول). 4. العبد الذكر: ليس حرّاً، لا يحكم، لا يفعل شيء إلّا بموافقة سيّده، لا يقتصّ من الحرّ. 5. الأمَة الأنثى (ملك يمين)، فوق كونها (عبد)، فهي تُوطأ جنسيّاً من مالكها من دون موافقة ولا حقوق زوجيّة.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

قبل الإجابة بشكل مباشر لا بدّ من الإشارة إلى مقاربة يسيرة لإشكالية الدولة العلمانيّة والدولة الدينيّة، وقد فصلّنا في كثير من الأجوبة السابقة أسباب النزاع بين العلمانيّة التي تنظر إلى الإنسان في حدود حاجاته المادّية وبين الإسلام صاحب النظرة الأكثر شمولاً لحاجات الإنسان المادّية والروحيّة، فالعلمانيّة في مفهومها النظريّ تقوم على تضخيم الجانب المادّي على حساب الجانب الروحيّ والأخلاقي، والإسلام يقوم أساساً على خلق توازن بين الجانبين، وبذلك تصبح العلمانيّة خياراً ناقصاً لا يلبّي للإنسان جميع حاجاته، إلّا أنّ هذه المقاربة النظريّة تصطدم بتجارب الحكم الإسلاميّ التاريخيّة والمعاصرة، فإذا قمنا بمقاربة إشكاليّة الإسلام والعلمانيّة على ضوء التجربة العمليّة، قد يتمكّن البعض من جمع بعض الشواهد التي تثبت الطابع السلبيّ لتجارب الحكم الدينيّة، أو بعض الشواهد على بعض النماذج الناجحة للدول العلمانيّة وبخاصّة في الدول الأوربيّة، ويبدو أنّ هذه المقارنات هي التي تجعل الصورة مشوّشة يصعب معها التمييز الموضوعيّ بين التجربة الدينيّة والتجربة العلمانيّة، والتقييم الموضوعيّ، والمحايد يجب أن يقودنا إلى القول: لا التجربة العلمانيّة تمثّل الصورة المثاليّة لما يطمح له الإنسان، ولا تجارب الحكم الدينيّة تمثّل التعبير الصادق والأمثل للإسلام.

ومن هنا نؤكّد على أنّ النقاش العلمانيّ الدينيّ يجب إعادة طرحة بنفس هادئ ونزيه بحثاً عمّا يمثّل طموح حقيقيّ للإنسان، ومن الخطأ البحث عن الطموح الإنسانيّ ضمن المقارنات التنافسيّة لكونها تمنع الإنسان من التفكير في الخيارات خارج حدود ما هو مجرّب بالفعل، فبالقدر الذي يمكن جمع شواهد مشوّهة لتجربة الحكم الدينيّ، يمكن جمع شواهد أيضاً مشوّهة لتجربة الحكم العلمانيّ، وكلّ ذلك يجعلنا في حالة من الجدل الدائم الذي لا يخدم المصلحة الإنسانيّة، والخيار العقلانيّ يوجب إعادة الوعي لمفاهيمنا حول الإنسان والدين والدولة بعيداً عن الإسقاطات السلبيّة للتجارب التاريخيّة، وقد قلنا في أجوبة سابقة: إنّ التيار الإسلاميّ والتيار العلمانيّ يجب أنْ يرتقيا إلى مستوى الهَمِّ الإنسانيّ والبحث من جديد من أجل إعادة فهم الإنسان روحيّاً ومادّياً ومن ثمّ إيجاد النظام الذي يلبّي طموحاته بعيداً عن جعل البحث محصوراً بين الخيارات المجرّبة.

فإذا تمّ فهم الإنسان فهماً حقيقيّاً وواقعيّاً على أنّه روح وجسد يعيش في الدنيا ويتطلّع إلى الآخرة، حينها لا يمكن النظر الى الدين بهذه السطحيّة المتفشية بين التيارات العلمانيّة.

ومن هنا، فإنّ الحلول الجذريّة تستوجب معالجات تمتدّ إلى البنية الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة، فعلى الخطاب الإسلاميّ أنْ يرتقي إلى مستوى الهموم الحقيقيّة للأمّة حتّى لا يتمّ عزله ومن ثمّ تصفيته، وعلى الخطاب العلمانيّ أنْ يبني خياراته السياسيّة بما ينسجم مع ثقافة الأمّة وبنيتها الحضاريّة بعيداً عن إسقاط نماذج جاهزة أُنشِئتْ أساساً لتتناسب مع مجتمعات أخرى، فبناء أيّ دولة لا يكون إلّا من خلال مراعاة الإرث التاريخيّ والحضاريّ لها، وإهمال ذلك يؤدّي إلى خلق صور مشوّهة، كما هو الحال في دولنا العلمانيّة التي حكمت العالم الإسلاميّ منذ تحرّرها من الاستعمار، فأضاعت قيمنا الدينيّة، وفي نفس الوقت لم تبني لنا دول حديثة تشبه الدول الغربيّة، فضيعت المشيتين كما يقال.

فالإصلاح السياسيّ يهدف في الأساس إلى تحقيق العدالة، والعدالة مضافاً إلى أنّها من القيم الفطريّة هي أيضاً قيمة إسلاميّة، والإنسان مسؤول على المستوى الفطريّ وعلى المستوى الدينيّ من تحقيق العدالة في الواقع.

وعليه: فمسؤوليّة الإخفاق تلاحق الإنسان بوصفه كائن له إرادة، وليس بوصفه كائن متديّن أو علمانيّ.

فعلى المستوى النظريّ يمكن للعدالة أنْ تتحقّق، سواء أكان النظام الحاكم يستمدّ نظامه القيميّ من الدين أم من المادّة، إلّا أنّ الفرق يكمن في تحديد مفهوم العدالة بين التجربتين، فالعدالة المادّية لا يمكنها تحقيق الاعتدال والتوازن بين الحاجات المادّية والحاجات المعنويّة، لكونها لا تعترف بتلك الحاجات من الأساس، في حين أنّ العدالة في المفهوم الدينيّ تعترف بجميع الحاجات الإنسانيّة وتعمل على توزيع الفرص بينها بحيث لا تكون حاجة على حساب حاجة أخرى.

فالدين بالمعنى العامّ يمثّل الضمير الأخلاقي للإنسان، كما يمثّل تطلّعات الروح إلى عالم القيم والفضيلة، فلا تستقيم حياة الإنسان بعيداً عنه بوصفه عامل النقد الدائم للواقع الفاسد، فوظيفة الدين هي وظيفة نقديّة أو هو الروح الأخلاقيّة التي تمنح الحضارة الإنسانيّة الحيويّة والفاعليّة، وبالتالي مقاربة الدين ضمن الإطار القشريّ يعدُّ تشويهاً له وطمساً لحقيقته، وهذا ما تقع فيه التيارات العلمانيّة عندما تصوّر الدين ضمن الشكل الصوريّ الجامد، في حين أنّ الدين منفتح على الواقع ولا يمانع من التطوير والإبداع، ولكن ضمن إطار منظومة من القيم، فالدين في حقيقته هو القيم التي تسري في جسد الحضارة كما تسري الروح في جسد الإنسان، والإسلام هو النظام الأكثر شمولاً واستيعاباً لتلك القيم، وإبعاد الإسلام عن الجانب الاجتماعيّ والإسلاميّ يؤدّي بالضرورة إلى ضياع المجتمع أخلاقيّاً وقيميّاً، والأزمة الكبرى التي تعانيها الحضارة العلمانيّة المعاصرة هي ضياع الإنسان عندما أصبح مجرّد آلة مادّية تتحكّم فيها الدولة، وبالتالي فأيّ محاولة لإبعاد الدين عن الحياة هو إبعاد للقيم الأخلاقيّة عن الحياة وإبعاد للسلطة النقديّة التي تمارس دور الرقيب على الواقع التطبيقيّ لتلك القيم وهو بالتأكيد خيار خاطئ يؤدّي حتماً إلى تشويه صورة الإنسان.

وما وقع فيه صاحب هذا السؤال هو القيام بمقارنة مجحفة ٱعتمد فيها على إخراج الأحكام الإسلاميّة من سياقاتها الطبيعيّة، فالإسلام في أحكامه يراعي الهدف العامّ للإنسان والمجتمع، وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال معرفة حقيقيّة وواقعيّة لطبيعة الفرد والمجتمع، وإهمال ذلك يؤدّي حتماً إلى تقييمات خاطئة للإنسان، ومن ثمّ وضع تصوّرات سياسيّة واجتماعيّة تكون كارثيّة في جوانب حتّى لو نجحت في جوانب أخرى، فلو أخذنا مفهوم المواطنة كمثال نجد أنّ العلمانيّة تصنّف المواطنة على أساس المساواة المطلقة بين جميع أفراد المجتمع، وهو تصنيف خاطئ بالضرورة لوجود تباينات حقيقيّة وواقعيّة بين أفراد المجتمع، ولا نظنّ أنّ هناك من يجادل في وجود هذه التباينات بين أفراد أيّ مجتمع، فالجاهل غير العالم، والعامل غير العاطل، والراعي غير المرعي، والقويّ غير الضعيف، والمنتج غير المستهلك، والصالح غير الطالح، وهكذا يمكن أنْ يقال: والأطفال غير البالغين، والرجال غير النساء، المؤمنين غير الكافرين، والأحرار غير العبيد، وهكذا يتباين أفراد المجتمع في كثير من النواحي والاعتبارات، ولا تتعارض تلك التباينات مع الحقّ المشترك في المواطنة والحقوق، فهناك فرق بين الحقّ العامّ الذي يشمل الجميع، وبين الامتيازات الخاصّة التي ينالها بعض الافراد لبعض مميزاتهم الخاصّة، فلا يجوز حرمان البعض من بعض الحقوق التي نالوها بجهد إضافي بحجّة المساواة بين الجميع، فالقول: إنّ الجميع على مستوى واحد ودرجة مشتركة قول بعيد جدّاً عن الواقع، وعلى ذلك لو افترضنا قيام أيّ توجّه بإعطاء حقوق ومميّزات خاصّة لبعض طبقات المجتمع فإنّ ذلك لا يتعارض مع حقّ المواطنة الذي يشمل الجميع، فمثلاً لو كان هناك شركة لأعمال الحفر والبناء وميّزت تلك الشركة بين الرجال والنساء في المرتبات بسبب الفارق بينهما في الجهد والعمل فلا يقال في حقّها: إنّها لا تساوي بين الرجال والنساء، فالأخذ بالمميّزات الطبيعيّة بين الرجل والمرأة في كثير من المسائل والأحكام الشرعيّة لا يقدح مطلقاً في اشتراكهما جميعاً في سلسلة من الحقوق والواجبات العامّة، فمثلاً حرمان الإسلام للمرأة من الصيام أو الصلاة عند حدوث الحيض أو حرمانها من الجهاد وحمل السلاح أو من الحكم أو غير ذلك لا يعني أنّ الإسلام ضد الحقوق العامّة التي يتكفّل بها الإسلام للجميع، وكذلك الحال إذا ميّز الإسلام بين المؤمن والكافر والحرّ والعبد، فحرمهما من بعض الأدوار القياديّة في المجتمع الإسلاميّ، فإنّ ذلك يعود إلى طبيعة الكافر والحرّ التي لا تتناسب مع هذه الأدوار، فلا يقال مثلاً: لماذا لا يحقّ للكافر تسنّم منصب المفتي العامّ في الدولة الإسلاميّة؟ أو يقال: لماذا لا يحقّ للعبد المملوك لغيره أنْ يكون قاضياً أو مرجعاً للتقليد؟

وعليه فإنّ بعض المميّزات التي ينالها البعض لها علاقة بطبيعة التباينات الموجودة في كلّ مجتمع من المجتمعات ولا علاقة لها بحقّ المواطنة الذي يتساوى فيه الجميع.

ولكي نحلُّ الإشكال الذي وقع فيه السائل لا بدّ من التأكيد على أنّ المواطنة تعني تمتع الفرد بعضويّة بلد ما، وهذه العضويّة بنفسها كافية ليتمتّع الفرد بكلّ الحقوق التي يشترك فيها مواطني تلك الدولة، فالجميع في نظر الدولة سواسية، فلا يؤخذ الفقير بجريرة الغني ولا المرأة بجريرة الرجل، ولا العبد بجريرة الحرّ، فالدولة مسؤولة عن جميع أفرادها دون النظر إلى الدين أو العرق أو المكانة الاجتماعيّة، وهذا ما قام الإسلام بإرسائه في الأيّام الأولى من هجرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة، إذْ كتب وثيقة كانت بمنزلة أوّل دستور مدنيّ في تاريخ الإسلام، وقد نظّمت هذه الوثيقة علاقة أفراد المجتمع بمختلف قبائله وأعراقه ودياناته بما يحقّق العدالة والمساواة. يقول المستشرق الرومانيّ جيورجيو: (يحوي هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً، كلّها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصّة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيّما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحريّة، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أىْ عام 623م. ولكنْ في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتّحدوا لمجابهته وطرده). [الشيخ ممدوح، مدخل إلى ثقافة قبول الآخر رؤية إسلامية، الطبعة الثالثة 2018].

إذنْ: فالحقوق المشتركة التي توفّرها المواطنة لا تتعارض مطلقاً مع وجود بعض التباينات الحقيقيّة والواقعيّة بين أفراد المجتمع، فالقول: إنّ المسلم الذكر له جميع الحقوق بخلاف المسلم الأنثى قول غير صحيح، فلا فرق في الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق العامّة التي تكفّلتها المواطنة، والخطأ الذي وقعت في العلمانيّة هو محاولة نفيها لجميع الفوارق الطبيعيّة التي تميّز بين الرجل والمرأة، فالإسلام ينظر إلى المرأة والرجل ضمن حدود الأدوار المنوطة بكليهما، وتلك الأدوار تراعي في الحقيقة الفوارق الطبيعيّة بينهما، فمثلاً عندما لا يساوي الإسلام بين الرجل والمرأة في الميراث فإنّ ذلك ناتجٌ من نظرة الإسلام الأكثر شموليّة لدوريهما، فالرجل في الإسلام هو المسؤول عن جميع نفقات المرأة، فكلّ ما يكسبه الرجل من جهد أو ميراث سيكون للمرأة نصيب فيه، سواء كانت زوجته أم ابنته أو أمّه، في حين ما تكسبه المرأة أو ترثه يكون خاصّاً بها خالصاً لها من غير أن يوجب عليها الإسلام أيّ نفقة على أيّ جهة أخرى، فكلّ ما تكسبه المرأة تنفقه على نفسها، وكلّ ما يكسبه الرجل ينفقه على نفسه وعلى غيره، فالذين يطالبون بالمساواة في الميراث يهملون كثير من الجوانب التي لها علاقة بطبيعة الرجل والمرأة أو التي لها علاقة بدور كلّ واحد منهما في المجتمع، والإسلام هو المبدأ الوحيد الذي يراعي كلّ ذلك في جميع الحقوق والواجبات. وهكذا الحال في الأحكام الخاصّة بأهل الذمّة أو العبيد، وقد فصّلنا في أجوبة سابقة الكلام عن الحِكمة فيما يتعلّق بملك اليمين تحت عنوان (ما الفرق بين ملك اليمين والزنا)، ويمكن مراجعته على الرابط التالي:

https://alrasd.net/arabic/islamicheritagee/3916

وكذلك تحت عنوان (لماذا الإسلام لم يحرم الرق) في الرابط التالي:

https://alrasd.net/arabic/islamicheritagee/2587

وكذلك هناك موضوع سينشر قريباً تحت عنوان (هل شرع الإسلام مبدأ الطبقية في القصاص؟).