رأيُ الإسلامِ في التّعدّديّةِ الفكريّةِ
س 2// رأيُ الإسلامِ في التّعدّديّةِ الفكريّةِ على ضوءِ التّقسيماتِ لها.
مُصطلحُ التّعدّديّةِ مُصطلحٌ إشكاليٌّ لِذا لابدَّ مِن تحريرِ المُرادِ منهُ قبلَ الإجابةِ على السّؤالِ، فالبعضُ قَد يرتكزُ على هذا المُصطلحِ للتّأصيلِ لنظريّةِ تعدّدِ القراءاتِ للنّصِّ الدّينيّ، والإشكاليّةُ التي تكمنُ في هذهِ النّظريّةِ تعودُ إلى كونِها تؤدّي إلى زعزعةِ الصّورةِ المعهودةِ عنِ الإسلامِ بوصفِه مشروعاً إلهيّاً لهُ رؤيةٌ مُحدّدةٌ في جميعِ أبعادِ الحياةِ، وهذا ما لا تعترفُ بهِ نظريّةُ التّعدّدِ التي تدعو إلى خلقِ أنماطٍ جديدةٍ للإسلامِ ينسجمُ كلُّ نمطٍ منها معَ الضّرورةِ العصريّةِ للحياةِ، وبعبارةٍ أُخرى لا يحتوي القرآنُ على معانٍ مُحدّدةٍ يسعى الإنسانُ إلى إدراكِها وفهمِها، وإنّما المعاني هَي التي يوجدُها الإنسانُ بحسبِ الأفقِ الثّقافيّ الذي يحملُه، وبذلكَ يبدأُ التّشريعُ لدينٍ جديدٍ في العقائدِ والأحكامِ، وإلغاءُ كلِّ ما عملَ علماءُ الإسلامِ على تبيينِه وتوضيحِه، وتستعيرُ هذهِ النّظريّةُ آلياتٍ ومناهجَ أفرزَتها الفلسفةُ الغربيّةُ مثلَ الهرمنيوطيقا وهيَ منهجٌ فلسفيُّ يتبنّى مركزيّةَ المُفسّرِ أو المؤوّلِ ويُلغي أيّ معانٍ موجودةٍ مُسبقاً في النّصوصِ يجبُ على المُفسّرِ أو المؤوّلِ البحثُ عنها ومِن ثمَّ إدراكُها، وعليه فإنَّ الهرمنيوطيقا كفلسفةٍ أو كمنهجٍ لتأويلِ النّصوصِ تؤكّدُ على أنَّ تأويلَ أيّ نصٍّ عمليّةٌ مُستمرّةٌ ومنفتحةٌ إلى ما لا نهاية تستوعبُ كلَّ الأفهامِ المُتعدّدةِ والمُختلفةِ وتراها كلّها صحيحةً حتّى وإن كانَت مُتباينةً ومُختلفةً، الأمرُ الذي يُهدّدُ هويّةَ النّصِّ القُرآنيّ وما يحتملُه مِن مقاصدَ ودلالات، ولخطورةِ هذهِ النّتيجةِ التي تعملُ على زعزعةِ الإسلامِ كدينٍ يُمثّلُ رسالةَ الرّبِّ للإنسان، لا يمكنُ قبولُ مُصطلحِ التّعدّديّةِ الفكريّةِ ولا يمكنُ أن نتفهّمَ كونَ الإسلامِ يتقبّلُ مثلَ هذا الفهمِ لنصوصِه، وعليهِ فإنَّ التّعدّديّةَ الفكريّةَ المرفوضةَ هيَ التي تساوي بينَ جميعِ هذهِ الأفكارِ وتراها جميعَها صحيحةً ومُعبّرةً عنِ الإسلامِ حتّى وإن كانَت مُتباينةً.
ومِن جانبٍ آخر فإنَّ مُصطلحَ التّعدّديّةِ الفكريّةِ قَد يُقصَدُ به وصفٌ موضوعيٌّ لطبيعةِ الإختلافِ في الأمّةِ الإسلاميّةِ، فوجودُ طوائفَ ومذاهبَ في الواقعِ الإسلاميّ أمرٌ يكادُ أن يكونَ مِن مُسلّماتِ الوعي الدّينيّ، والإدّعاءُ بأنَّ واقعَ المُسلمينَ واقعٌ موحّدٌ إدّعاءٌ فيه مُجازفةٌ تتجاوزُ أبسطَ البديهيّاتِ، ولا يعني هذا أنَّ الإسلامَ ليسَ ديناً واحداً، وإنّما يعني أنَّ وعيَنا به ليسَ واحِداً؛ فهناكَ مساحةٌ فاصلةٌ بينَ الإسلامِ الموحّدِ في واقعِ نصِّه، وبينَ الإسلامِ المُتباينِ في واقعِ فهمِه، ولا طريقَ لضبطِ التّباينِ على مُستوى الفهمِ سوى الإعتمادِ على المنهجيّةِ العلميّةِ والضّوابطِ العُقلائيّةِ للفهمِ.
فمَن يرى التّعدّدَ في الفهمِ ضرورةً تفرضُها طبيعةُ الإنسانِ لا يتجاوزُ بذلكَ حقيقةَ الإسلامِ الواحدِ، بشرطِ ألّا يقومَ الفهمُ على العبثِ والإعتباطِ وإنّما على المنهجيّةِ العلميّةِ والقواعدِ المنطقيّةِ المُتعارفةِ عندَ العُقلاء، وبهذا يمكنُهم قبولُ الآخرِ المُختلفِ معهُم طالما يتحرّكُ إختلافُه في إطارِ الإجتهادِ في دائرةِ النّصوصِ. أمّا مَن يرى الإسلامَ مُنحصراً فيه فإنّهُ لا يستوعبُ الآخرَ ولا يعترفُ به، الأمرُ الذي يؤدّي لتصنيفِ الآخرينَ في دائرةِ الضّلالِ والكُفر.
ولخلقِ توازنٍ بينَ وجهتي النّظرِ لا بدَّ منَ الإعترافِ أوّلاً بأنَّ الإسلامَ دينٌ واحدٌ، ويتضمّنُ حقائقَ مُحدّدةً أرادَ إيصالَها للبشرِ، إلّا أنَّ الإنسانَ بتركيبتِه المُعقّدةِ جدّاً والمُتأثّرةِ – بالبيئةِ، والتّربيةِ، والحالةِ النّفسيّةِ، والمحيطِ السّياسيّ، والإقتصادي، والإجتماعي- لا يقاربُ الأشياءَ بصرامةِ المنهجِ الموضوعيّ، وإنّما يُقاربُها بما ينسجمُ معَ ظرفِه ونفسيّتِه ومصلحتِه، فلا يرى الحقائقَ كما هيَ، وإنّما يراها بالشّكلِ الذي يحبُّ هوَ أن يراه، ومِن هُنا لا أتصوّرُ أنَّ هُناكَ ديناً سماويّاً لم يأمُر أتباعَه بتهذيبِ النّفسِ، وتوخّي الحقِّ، ونبذِ التّعصّبِ، وعدمِ إتّباعِ الظّنِّ، وقد أكّدَ القرآنُ على أسبقيّةِ التّزكيةِ للتّعليمِ بقولِه تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، ثمَّ دعا إلى إحترامِ الفكرةِ القائمةِ على البرهانِ، قالَ تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، فالبرهانُ هوَ الوحيدُ الذي يجبُ أن يسودَ، والمنطقُ السّليمُ هوَ الذي يجبُ أن يحكمَ بينَ المُختلفينَ في الفهمِ، أمّا القطعيّةُ والتّكفيرُ وكلُّ مظاهرِ التّعصّبِ فليسَت مِن طبيعةِ الإسلامِ ولا مِن طبيعةِ العقلاءِ، والإختلافاتُ التي تحدثُ في ظلِّ المناهجِ العلميّةِ إختلافاتٌ مقبولةٌ طالما تتحرّكُ جميعُها في دائرةِ المناهجِ العلميّةِ، ومِن هُنا فإنَّ الإعترافَ بالتّباينِ ضرورةٌ تفرضُها الطّبيعةُ الإنسانيّةُ كما أنَّ الإعترافَ بالحقائقِ المُحدّدةِ ضرورةٌ تفرضُها طبيعةُ الرّسالةِ الإلهيّةِ، والجامعُ بينَ الأمرينِ هوَ الفهمُ القائمُ على الضّوابطِ العلميّةِ.
وقَد يُنظَرُ للتّعدّديّةِ الفكريّةِ مِن زاويةٍ أخرى وهيَ الزّاويةُ الإجتماعيّةُ والعيشُ المُشتركُ، والإسلامُ يقرُّ ذلكَ ويدعو لهُ، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فقَد وجّهَت الآيةُ الخطابَ للنّاسِ وليسَ للمؤمنينَ بشكلٍ خاصّ، الأمرُ الذي يعني أنَّ الإسلامَ يدعو للتّعايشِ معَ جميعِ الثّقافاتِ، والدّعوةُ للتّعارفِ بينَ الشّعوبِ والقبائلِ لا تتمُّ إلّا مِن خلالِ قبولِهم بما هُم عليهِ مِن تعدّدٍ في الأفكارِ والثّقافاتِ؛ بَل يدعو القُرآنُ للتّعاملِ الإيجابيّ معَ الذينَ يتباينونَ فكريّاً معَ المُسلمينَ مثلَ الكُفّارِ والمُشركينَ، قالَ تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وفي المُحصّلةِ إذا كانَ المقصودُ منَ التّعدّديّةِ الفكريّةِ النّسبيّةَ المعرفيّةَ وضياعَ معانٍ مُحدّدةٍ أرادَها الإسلامُ فهيَ غيرُ مقبولةٍ ولا يمكنُ الإعترافُ بها، أمّا إذا كانَت التّعدّديّةُ بمعنى الإختلافِ في دائرةِ الفهمِ القائمِ على الضّوابطِ العلميّةِ للإجتهادِ فهيَ مقبولةٌ ولا يعني ذلكَ أنَّ كلَّ الآراءِ الإجتهاديّةِ صحيحةٌ وإنّما الحاكمُ فيها هوَ البحثُ العلميُّ والنّقاشُ المنطقيُّ، وكذلكَ تكونُ التّعدّديّةُ مقبولةً بوصفِها مقدّمةً ضروريّةً للعيشِ المُشتركِ واحترامِ الآخرِ معَ فتحِ بابِ الحوارِ الذي يسمحُ للجميعِ بعرضِ أفكارِهم بما يتناسبُ وشروطَ البحثِ العلميّ.
اترك تعليق