الإجتهادُ والتّعدُّدُ الفكريّ
س3 // تعدّدُ الإجتهادِ وعلاقتُه بالتّعدّديّةِ الفكريّةِ.
الإجتهادُ في اللّغةِ يُقصدُ بهِ بذلُ المجهودِ واستنفاذُ الوسعِ في طلبِ أمرٍ ما والسّعيُ لتحقيقِه أو فهمِه أيّاً كانَ هذا الأمرُ، وبذلكَ يتعدّى مفهومُ الإجتهادِ في اللّغةِ المعنى الإصطلاحيَّ المقصودَ في الإسلامِ، وقد مرَّ مُصطلحُ الإجتهادِ في الدّائرةِ الإسلاميّةِ بتعاريفَ مُختلفةٍ، حيثُ كانَت الدّلالةُ الأولى للإجتهادِ تعني إستخدامَ الرّأي والظّنِّ الشّخصيّ سواءٌ في تفسيرِ القُرآنِ أو معرفةِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وقد حرّمَ الإسلامُ هذا النّوعَ منَ الإجتهادِ، وهُناكَ نصوصٌ مُتعدّدةٌ في ما يخصُّ تفسيرَ القُرآنِ بالرّأي، فقَد روى أبو النّضرِ مُحمّدٌ بنُ مسعودٍ العياشيّ بإسنادِه عنِ الإمامِ أبي عبدِ اللّهِ الصّادق (عليه السّلام) قالَ: "مَن فسَّرَ القُرآنَ برأيه فأصابَ لَم يُؤجَر، وإن أخطأَ كانَ إثمُه عليه، وفي روايةٍ أُخرى: وإن أخطأَ فهوَ أبعدُ منَ السّماءِ" (مُقدّمةُ تفسيرِ العيّاشيّ، ج1، ص 17، رقم2 و4.). وغيرُ ذلكَ منَ النّصوصِ الكثيرةِ التي حرّمَت تفسيرَ القُرآنِ بالرّأي، أمّا في ما يخصُّ الأحكامَ الشّرعيّةَ فقَد تكوّنَت مدارسُ فقهيّةٌ وظّفَت الإجتهادَ لفتحِ الطّريقِ أمامَ العملِ بالرّأي، وقَد إعتمدَت هذهِ المدارسُ على مجموعةٍ منَ الأصولِ الظّنّيّةِ مثلَ القياسِ والإستحسانِ والمصالحِ المُرسلةِ وسدِّ الذّرائعِ وغيرِ ذلكَ منَ الأصولِ التي تجعلُ العقليّةَ الفقهيّةَ هيَ الحاكمةَ على أحكامِ اللهِ، وقَد وقفَ أئمّةُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) في وجهِ هذا النّوعِ منَ الإجتهادِ وحرّموا على شيعتِهم العملَ بمثلِ هذهِ الأصولِ، فعَن أبي جعفرٍ الباقرِ (عليه السّلام) قالَ: "مَن أفتى النّاسَ برأيه فقَد دانَ اللهَ بما لا يعلم ، ومَن دانَ اللهَ بما لا يعلَم فقَد ضادَّ اللهَ حيثُ أحلَّ، وحرَّمَ فيما لا يعَلم" (وسائلُ الشّيعةِ ج ۲۷ ص ٤۱ ـ ٤۲)، وغيرُ ذلكَ منَ النّصوصِ التي حرّمَت القياسَ والإستحسانَ في الدّينِ، أمّا الإجتهادُ المُعتمدُ والمعمولُ بهِ في مدرسةِ أهلِ البيتِ فيعني إستنباطَ الأحكامِ الشّرعيّةِ مِن أدلّتِها التّفصيليّةِ، ويُشترَطُ في هذا النّوعِ منَ الإجتهادِ الإعتمادُ على الأصولِ المُنضبطةِ منهجيّاً وعلميّاً حيثُ تفيدُ القطعَ بالحُكمِ الشّرعيّ، أمّا الأصولُ التي لا تفيدُ غيرَ الظّنِّ فلا يجوزُ الرّكونُ إليها إلّا إذا قامَ الدّليلُ الشّرعيُّ على حُجّيّتِها، فالأماراتُ الشّرعيّةُ والأصولُ الإجتهاديّةُ مثلَ البراءةِ الشّرعيّةِ والإستصحابِ قَد قامَتِ الأدلّةُ الشّرعيّةُ على إعتبارِها وإنزالِها منزلةَ العلمِ، وهُناكَ نقاشٌ مُفصّلٌ في كتبِ الأصولِ يمكنُ الرّجوعُ إليه، وعليهِ فإنَّ الضّابطَ في الإجتهادِ هوَ أن يكونَ قائِماً على البحثِ عنِ الحُكمِ الشّرعيّ في الكتابِ والسّنّةِ مُستعيناً بالمناهجِ التي توجبُ إمّا القطعَ بحُكمِ اللهِ وإمّا الظّنَّ المُعتمدَ شرعاً كما دلَّت عليهِ النّصوصُ.
وإذا إتّضحَ ذلكَ لابُدَّ منَ الإشارةِ أيضاً إلى أنَّ هُناكَ إختلافاً بينَ المدرسةِ الفقهيّةِ الشّيعيّةِ والسّنّيّةِ، حيثُ يعتقدُ السّنّةُ أنَّ الأحكامَ التي لا نصَّ فيها ليسَ للهِ حُكمٌ خاصٌّ بها وإنّما حكمُ اللهِ يدورُ مدارَ الفقيهِ، حيثُ يُصبحُ الفقيهُ هوَ العلّةَ التّامّةَ للحُكمِ الشّرعيّ، وبذلكَ تكونُ كلُّ أحكامِ الفُقهاءِ صحيحةً حتّى وإن كانَت مُتباينةً، بينَما تعتقدُ الشّيعةُ أنَّ كلَّ الموضوعاتِ لها أحكامٌ واقعيّةٌ سواءٌ إكتشفَها الفقيهُ أو لَم يكتشِفها، وحينَها تنحصرُ مُهمّةُ الفقيهِ في بذلِ الجُهدِ لمعرفةِ حكمِ اللهِ في الواقعِ، فإمّا أن يُصيبَ وإمّا أن يُخطئَ، وهذهِ المُفارقةُ تُعينُنا في مُقاربةِ الإجتهادِ فيما يخصُّ تعدُّدَ الآراءِ الفكريّةِ، حيثُ نجدُ أنَّ معنى الإجتهادِ في المنظورِ السّنّيّ وما يعرَفُ بالمصوّبةِ سيُؤدّي حتماً إلى الإعترافِ بالتّعدّديّةِ الفكريّةِ وجعلِها خياراً إسلامياًّ باِعتبارِ أنَّ أحكامَ اللهِ بطبعِها مُتعدّدةٌ، في حينِ أنَّ الإجتهادَ في المنظورِ الشّيعيّ وما يُعرفُ بالمخطّئة لا يمكنُه نسبةُ التّعدّديّةِ للإسلامِ معَ إعترافِه بوقوعِها بينَ المُجتهدينَ، وعليهِ فإنَّ التّعدّديّةَ الفكريّةَ مِن منظورٍ إجتهاديٍّ غيرُ مُبرّرةٍ وذلكَ لكونِ الإجتهادِ الشّيعيّ يعترفُ بكونِ الحقيقةِ واحدةً في حينِ أنَّ التّعدّديّةَ الفكريّةَ ترتكزُ على كونِ الحقيقةِ مُتوزّعةً على الجميعِ، أمّا إذا كانَت التّعدّديّةُ الفكريّةُ تعني الإعترافَ بالإختلافِ في نطاقِ البحثِ العلميّ فإنَّ ذلكَ أمرٌ مُسلّمٌ بهِ ولا خلافَ عليه.
اترك تعليق