هل شتمَ الإمامُ الحسينُ (ع) الحرَّ الرّياحي؟! ولماذا؟   

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

أوّلاً:   

وردَ أنّهُ قالَ له: ثكلتكَ أمُّك ! في الحادثةِ المشهورةِ المعروفة.  

- فيما رواهُ الطبريُّ بسندِه عَن عليٍّ بنِ الطعّانِ المحاربي، وأبي الفرجِ الأصفهاني عن أبي مخنفٍ عَن رجاله، عندَما قالَ الحرُّ الرّياحي للحُسينِ بنِ علي (ع) : وقد أمرَنا – يعني ابنَ زياد - إذا نحنُ لقيناكَ ألّا نفارقَك حتّى نُقدمك على عُبيدِ اللهِ ابنِ زياد. فقالَ له الحسينُ: الموتُ أدنى إليكَ مِن ذلك. ثمَّ قالَ لأصحابِه: قوموا فاركبوا، فركبوا، وانتظروا حتّى ركبَت نساؤهم، فقالَ لأصحابِه: انصرِفوا بنا، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حالَ القومُ بينَهم وبينَ الانصراف، فقالَ الحسينُ للحرِّ: ثكلتكَ أمّك، ما تريدُ؟ قالَ: أما واللهِ لو غيرُك منَ العربِ يقولها لي وهوَ على مثلِ الحالِ التي أنتَ عليها ما تركتُ ذكرَ أمّه بالثكلِ أن أقوله كائناً مَن كان، ولكِن واللهِ مالي إلى ذكرِ أمِّك مِن سبيلٍ إلّا بأحسنِ ما يُقدرُ عليه ... (تاريخُ الطبري: 4 / 304، الإرشادُ للمُفيد: 2 / 80، أنسابُ الأشرافِ للبلاذري: 3 / 170، الفتوحُ لابنِ أعثم: 5 / 78، مقاتلُ الطالبيّين ص73 – 74، تجاربُ الأممِ لابنِ مسكويه: 2 / 62، المنتظمُ لابنِ الجوزي: 5 / 335، البدايةُ والنّهاية لابنِ كثير: 8 / 186، إعلامُ الورى للطبرسي: 1 / 449، الكاملُ في التاريخِ لابن الأثير: 4 / 47، نهايةُ الإرب للنويري: 20 / 418، بحارُ الأنوار: 44 / 377).   

  

ثانياً:  

هذه الكلمةُ في الأصلِ دعاءٌ على الشخصِ بالموتِ حتّى تبكيهِ وتفتقدَه أمُّه وتجلسَ في عزائه، وتُستعملُ للتنبيهِ على سوءِ الفعل، والزّجرِ عن الغفلةِ أيضاً، وتعظيمِ الأمر، ولا يرادُ منها الدّعاء.  

قالَ ابنُ الأثير في شرحِها: أي فقدتك. والثكلُ: فقدُ الولد. وامرأةٌ ثاكلٌ وثكلى. ورجلٌ ثاكلٌ وثكلان، كأنّه دعا عليهِ بالموتِ لسوءِ فعلِه أو قوله. والموتُ يعمُّ كلَّ أحدٍ، فإذن الدعاءُ عليهِ كلا دعاء، أو أرادَ إذا كنتَ هكذا فالموتُ خيرٌ لكَ لئلّا تزدادَ سوءاً، ويجوزُ أن يكونَ منَ الألفاظِ التي تجري على ألسنةِ العرب ولا يرادُ بها الدّعاء، كقولهم تربَت يداك، وقاتلك الله. (النهايةُ في غريبِ الحديث لابنِ الأثير: 1 / 217، لسانُ العربِ لابنِ منظور: 11 / 89).  

  

فالإمامُ الحُسين (ع) اتّبعَ أسلوبَ الصدمةِ باستعمالِ هذه الكلمة، والغرضُ هوَ زجرُ الحرِّ الرّياحي، كي لا يتمادى كثيراً، وتنبيهِه أنّ موتَه وثكلَ أمّه بهِ خيرٌ له مِن وقوفهِ هذا الموقفَ في وجهِ أهلِ بيتِ رسولِ الله (ص)، ليستفيقَ الحرُّ مِن غفلتِه وسوءِ فعله.  

ولعلّهُ أرادَ أيضاً  تنبيهَ الأجيالِ بإظهارِ طينةِ الحرّ الرّياحي مِن أنّه كانَ مُحِبّاً لأهلِ بيتِ رسولِ الله (ص)، لا يتجرّأ على الدخولِ في العظائم.  

وأنّ مَن يحمِل في قلبِه محبّةَ وتعظيمَ فاطمة الزّهراء (ع)، لن يتورّطَ في قتلِ ومُحاربةِ أبنائِها، كما هوَ حالُ الحُر.  

فتأمّل في حالِ جيشٍ عدادُه ثلاثونَ ألفاً أقدموا على قتلِ ومُحاربةِ ريحانةِ رسولِ الله (ص)، فهل كانوا يملكونَ ذرّةً منَ الحبِّ والاحترامِ والتّعظيمِ لأمّه فاطمة الزّهراء (ع)، ولجدّه رسولِ الله (ص)؟!؟  

ولعلّه أيضاً لموقفِه هذا وتعظيمِه واحترامِه لمولاتِنا الزّهراء (ع) وفّقَه اللهُ للتّوبةِ في ظهرِ عاشوراء.  

واللهُ العالم.  

  

ثالثاً:   

إنّ هذهِ الكلمةَ متداولةٌ على ألسنةِ العرب، وقد وردَت في العديدِ منَ الرّوايات، وسأنقلُ بعضَ المواردِ معَ الالتفاتِ إلى أنّها استُعملَت في تلكَ المواردِ لحالاتِ التنبيهِ عن الغفلةِ، والزّجرِ عن سوءِ الفعلِ أو القول، وتعظيمِ الأمر.  

  

ـ رويَ بسندٍ صحيحٍ أنّ معاذاً بنَ جبلٍ قالَ للنبيّ (ص): يا نبيَّ اللهِ وإنّا لمؤاخذونَ بما نتكلّمُ به؟ فقالَ (ص): ثكلتكَ أمُّك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهم، أو على مناخرِهم، إلّا حصائدُ ألسنتهم. (سننُ الترمذي:4 / 125، مُسندُ أحمد: 5 / 231).  

قالَ المباركفوري: وهوَ دعاءٌ عليهِ بالموتِ على ظاهرِه، ولا يرادُ وقوعُه، بل هوَ تأديبٌ وتنبيهٌ منَ الغفلة، وتعجيبٌ وتعظيمٌ للأمر. (تحفةُ الأحوذي: 7 / 305).  

  

ـ ورويَ أنّ أميرَ المؤمنين عليه السّلام قالَ لقائلٍ قالَ بحضرتِه أستغفرُ الله: "ثكلتكَ أمُّك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفارُ درجةُ العليّينَ. وهوَ اسمٌ واقعٌ على ستّةِ معانٍ: أوّلها: الندمُ على ما مضى. والثاني: العزمُ على تركِ العودِ إليه أبداً. والثالثُ أن تؤدّي إلى المخلوقينَ حقوقهم حتّى تلقى اللهَ أملسَ ليسَ عليكَ تبعة. والرّابعُ: أن تعمدَ إلى كلِّ فريضةٍ عليكَ ضيّعتَها فتؤدّي حقّها. والخامسُ: أن تعمدَ إلى اللحمِ الذي نبتَ على السُّحتِ فتذيبَه بالأحزانِ حتّى تُلصقَ الجلدَ بالعظمِ وينشأ بينَهما لحمٌ جديد. والسّادس: أن تُذيقَ الجسمَ ألمَ الطاعةِ كما أذَقتهُ حلاوةَ المعصيةِ فعندَ ذلكَ تقولُ أستغفرُ الله". (نهجُ البلاغة: 4 / 97).  

وهوَ إشارةٌ إلى الزجرِ عن الغفلةِ عن حقيقةِ الاستغفار، وأنّها ليسَت مُجرّدَ لقلقةِ لسان، كما يتوهّمُه عامّة النّاس.  

  

ـ ورويَ أنَّ جماعةً منَ الصّحابةِ أرسلوا عُمرَ بنَ الخطّابِ إلى أبي بكرٍ ليعزلَ أسامةَ بنَ زيدٍ ويولّوا رجلاً أقدمَ سنّاً منه: فوثبَ أبو بكرٍ وكانَ جالساً فأخذَ بلحيةِ عُمر فقالَ له ثكلتكَ أمُّك وعدمَتك يا ابنَ الخطّابِ استعملهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم وتأمرُني أن أنزعَه. (تاريخُ الطبري: 2 / 462، تاريخُ دمشق: 2 / 50، كنزُ العُمّال: 2 / 50).

وهوَ إشارةٌ إلى زجرِه عَن سوءِ قولِه، وتعظيمِ للأمر.  

  

ـ أشرفَ مولى لعليٍّ بنِ الحُسين (عليهما السّلام) وهوَ في سقيفةٍ لهُ ساجدٌ يبكي، فقالَ له: يا مولايَ يا عليُّ بنُ الحُسين أما آنَ لحُزنكَ أن ينقضي، فرفعَ رأسَه إليه وقالَ: ويلَك - أو ثكلتكَ أمّك - واللهِ شكى يعقوبُ إلى ربِّه في أقلِّ ممّا رأيتَ حتّى قالَ: ( يا أسفي على يوسف )، إنّه فقدَ ابناً واحداً وأنا رأيتُ أبي وجماعةَ أهلِ بيتي يُذبحونَ حولي، قالَ: وكانَ عليٌّ بنُ الحُسين (عليهما السّلام) يميلُ إلى ولدِ عقيل، فقيلَ له: ما بالكَ تميلُ إلى بني عمِّك هؤلاءِ دونَ آلِ جعفرٍ، فقالَ: إنّي أذكرُ يومَهم معَ أبي عبدِ اللهِ الحُسينِ بنِ عليّ (عليهما السّلام) فأرقُّ لهم. (كاملُ الزّياراتِ لابنِ قولويه ص213).  

وهوَ إشارةٌ إلى زجرِه عن قولِه وتنبيهِه على غفلتِه عن عظيمِ ما وقعَ في كربلاء.  

  

ـ رويَ أنّهُ بلغَ أمَّ سلمةَ زوجةَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أنَّ مولى لها يتنقّصُ عليّاً (عليه السّلام) ويتناوله، فأرسلَت إليه، فلمّا أن صارَ إليها قالت له: يا بُني، بلغني أنّكَ تتنقّصُ عليّاً وتتناوله. قالَ لها: نعم، يا أمّاه. قالت: اقعُد ثكلتكَ أمُّك حتّى أحدّثكَ بحديثٍ سمعتُه مِن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، ثمَّ اختَر لنفسِك .. (الأمالي للصّدوق ص463).  

وهوَ إشارةٌ منها إلى أنّ موتَه وثكلَ أمِّه بهِ خيرٌ مِن أن يصلَ بهِ الأمرُ إلى سبّ أميرِ المؤمنين (ع)، فهيَ تستنكرُ وتزجرُ وتُنبّهُ الغافلَ على جهلِه بمقامِ أميرِ المؤمنين (ع).  

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.