علم المعصوم "عليه السلام" بوقت شهادته وبكيفيّتها ومَن يقف وراءها

السؤال: "هل كان للإمام عليّ عليه السلام عِلمٌ بيوم استشهاده وطريقته وشخصيّة اللّعين الذي قتله؟ ولو كان تأخيراً في استشهاده بأمر من الله لإصلاح الإسلام أكثر فأكثر..!.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم..، الأخ السائل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. فإنّ سؤالكم هذا مؤلّف من شقّين لا بدّ من الفصل بينهما في مقام الجواب، فأمّا الشقّ الأوّل منهما والمتعلّق بعلم الإمام (ع) فالجواب عنه يتّضح ببيان الأمور التالية:

الأمر الأوّل: أنّ موضوع السؤال وجوابه عامٌّ يجري في جميع الأئمّة (ع) - في الجملة - وإن كنّا سنكرّس الكلام هنا عن خصوص المولى أمير المؤمنين "صلوات الله وسلامه عليه" ، والحاصل أنّ الجواب عنه هو: لا مانع أن يعلم المعصوم (ع) إجمالاً أو تفصيلاً بوقت شهادته وطريقتها ومَن يقف وراءها، كما دلّت عليه النصوص الشرعيّة، ففي خبر طويل عن الباقر(ع) جاء فيه: ((...فقال له حُمْرَانُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أرَأَيْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ قِيَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ "عليهم السلام" وخُرُوجِهِمْ وقِيَامِهِمْ بِدِينِ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه ومَا أُصِيبُوا مِنْ قَتْلِ الطَّوَاغِيتِ إِيَّاهُمْ والظَّفَرِ بِهِمْ حَتَّى قُتِلُوا وغُلِبُوا..؟!. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ "عليه السلام:" يَا حُمْرَانُ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ كَانَ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وقَضَاه وأَمْضَاه وحَتَمَه عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ ثُمَّ أَجْرَاه فَبِتَقَدُّمِ عِلْمٍ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّه "صلّى الله عليه وآله" قَامَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ "عليهم السلام"... الخبر))[الكافي لثقة الإسلام الكليني:ج1،ص262].

الأمر الثاني: أنّ الشواهد على علم أمير المؤمنين (ع) بتفاصيل ذلك كلّه كثيرة ، بل متواترة كما صرّح به الشيخ المفيد [الإرشاد:ج1،ص319]. وقد روت العامّة قبل الخاصّة جميع ذلك في مصادرهم الحديثيّة فضلاً عن التاريخيّة، فمنها مثلاً:

1- تمثُّله (عليه السلام) بهذه الأبيات: ((اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا... الأبيات))[انظر مجمع الزوائد للهيثمي:ج9،ص189 ، والمصنّف لابن أبي شيبة:ج6،ص175، والمعجم الكبير للطبراني:ج1،ص105، الطبقات لابن سعد:ج3،ص33].

وفي رواية أخرى ذكروا عن الحسن بن بُزيع: ((أنّ عليّاً [ع] خرج في الليلة التي ضرب في صبيحتها في السَّحَر وهو يقول: اشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيك ،، ولا تجزع من الموت * إذا حلّ بواديك..، فلما ضربه ابن ملجم قال: فزت وربِّ الكعبة. وكان أخر ما تكلّم به: "من يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره" ))[ أنساب الأشراف للبلاذري:ج2،ص499، الإمامة والسياسة لابن قتيبة:ج1،ص140].

وفي رواية الخوارزميّ - وهو حنفيّ المذهب - بسند طويل ينتهي إلى حفص بن خالد، عن أبيه، عن جدّه جابر قال: (( إنّي لَشاهدٌ لعليٍّ "عليه السلام" وأتاه المراديّ يستحمله فَحمَلَه، ثمّ قال: عذيري من خليليّ من مراد * أريد حياته ويريد قتلي. ثمّ قال: هذا واللهِ قاتلي، قالوا: يا أمير المؤمنين أفلا تقتله..؟. قال: لا، فمن يقتلني إذاً..؟!، ثمّ قال : اشدد حيازيمك للموت * فإنّ الموت آتيكا ،،، ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا))[المناقب للموفق الخوارزمي:ص392]. وكذلك ما روي: (( إنّه "عليه السلام" كان إذا رأى عبد الرحمن بن ملجم يقول: أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مرادِ))[انظر الاستيعاب لابن عبد البر:ج3،ص1126 ، المصنّف لعبد الرزاق الصنعاني:ج10،ص125 ، المصنّف لابن ابي شيبة:ج6،ص175].

2- علمه بكيفيّة مقتله (ع) : فعن عبد الله بن سبع قال: (( خطبنا علي "رضي الله عنه" فقال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لَتُخَضَبَنَّ هذه من هذه. قال: قال: الناس فأَعْلِمْنَا من هو..؟ والله لَنُبِيَرنَّ عِترتَهُ..!، قال: أْنشُدُكم بالله أن يُقتَلَ غيرُ قاتلي))[مسند أحمد بن حنبل:ج1،ص156 ، مجمع الزوائد للهيثمي:ج9،ص137 ، السنّة لابن ابي عاصم:ص538 ، مسند أبي يعلى:ج1،ص378 ...وغيرهم].

وعن زيد بن أسلم: ((أنّ أبا سنان الدؤليّ حدّثه أنّه عاد عليَّاً "رضي الله عنه" في شكوى له أشكاها، قال: فقلت له: لقد تخوّفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه..!، فقال: لكنّي والله ما تخوّفت على نفسي منه؛ لأنّي سمعت رسول الله "صلّى الله عليه وآله" الصادق المصدوق يقول: إنّك سَتُضرب ضربة هاهنا وضربة هاهنا وأشار إلى صدغيه فيسيل " دمها حتّى تختضب لحيتك ويكون صاحبها أشقاها كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود))[السنن الكبرى للبيهقيّ:ج8،ص58 ، ورواه الحاكم في المستدرك:ج3،ص113 ، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ ولم يخرجاه"]، وعن فضالة بن أبي فضالة، قال: ((خرجت مع أبي إلى عليِّ بن أبي طالب بيَنبُعَ عائداً له، وكان مريضاً ثقيلاً يُخاف عليه، فقال له أبى: ما يُقِيمُكَ بهذا المنزل..؟، لو هلكتَ لم يَلِكَ إلَّا أعرابُ جُهينة ، فاحتَمِلْ إلى المدينة، فإن أصابكَ أجلُكَ وَلِيَكَ أصحابُك وصلَّوا عليك. وكان أبو فضالة ممّن شهد بدراً مع النبيّ "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم". فقال له علي: إنّي لستُ ميّتاً مِن وجعي هذا، إنّ رسول الله "صلّى الله عليه[وآله] وسلّم" عهد إليَّ أنِّي لا أموت حتّى أُؤَمَّر، ثم تُخضَّب هذه من هذه، يعني لحيته من هامته...الخبر))[مسند أحمد بن حنبل:ج1،ص102، مجمع الزوائد للهيثمي:ج5،ص185، الاستيعاب لابن عبد البرّ:ج4،ص1730 ، تعجيل المنفعة لابن حجر:ص513].

الأمر الثالث: أنّه لا منافاة بين علمهم "عليهم السلام" بذلك كلّه وبين علم الغيب المنفيِّ في قوله تعالى: ((قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:188] ؛ لأنّ علمهم يحصل بتعليم إلهيّ عن طريق رسول الله "صلّى الله عليه وآله" كما عرفت من النصوص المتقدّمة، وأمّا المنفي في الآية فهو علم الغيب الذي يزعم مدّعيه أنّه يعلمه بنفسه مستقلّاً عن الله. وقد تواتر الخبر عن رسول الله "صلّى الله عليه وآله" لأمير المؤمنين (ع) بشهادته[ انظر أُسد الغابة لابن الأثير:ج4،ص35 ، تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ:ج12،ص57]. كما أجمع الفريقان - بلا خلاف يُذكر - على تواتر خبر النبيّ "صلّى الله عليه وآله" عن شهادة عمّار بن ياسر وأنّه تقتله الفئة الباغية وآخر شرابه من الدنيا ضياح من اللّبن [صحيح مسلم:ج8،ص186 ، مسند أحمد بن حنبل:ج2،ص161]، بل لم يمنع علماء العامّة من علم الشخص بموت غيره أيضاً [انظر طبقات ابن سعد:ج3،ص340 ، عمدة القاري للعينيّ:ج16،ص211 تاريخ ابن الأثير:ج3،ص ، تاريخ الطبريّ:ج3،ص26450]، وكذا إخباره عن مقتل عثمان، [انظر فتح الباري في شرح صحيح البخاريّ لابن حجر:ج1،ص453].

الأمر الرابع: كذلك لا علاقة للموضوع بآية التهلكة: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [البقرة: 195]، فقد روى الفريقان نزولها في ترك الأنصار للجهاد بأموالهم. قال أسلم أبو عمران مولى بنى تجيب: ((كنّا بالقسطنطينيّة وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهنيّ وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد الأنصاريّ، فخرج صَفٌّ عظيمٌ من الروم فصففنا لهم صَفّاً عظيماً من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صَفٍّ من الروم حتّى دخل فيه، ثمّ خرج إلينا مقبلاً فصاح في [فيه] الناس، فقالوا: ألقى بيده إلى التهلكة..!، فقال أبو أيّوب صاحبُ رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلم": يا أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل، وإنّما نزلت فينا معشر الأنصار.!، إنّا لما أعزّ الله دينه وكثَّرَ ناصريه قال بعضنا لبعض سرّاً من رسول الله "صلى الله عليه وآله": إنّ أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فيها..!، فردّ الله علينا ما هممنا به، قال: فانزل الله عزّ وجلّ: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فكانت التهلكة في الإقامة على أموالنا التي أردنا، فَأُمِرْنا بالغزو)) [المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوريّ:ج2،ص275]. هذا بالنسبة لجواب الشقّ الأوّل.

وأمّا الشقّ الثاني: فقولكم: ((ولو كان تأخيراً في استشهاده "عليه السلام" بأمر من الله لإصلاح الإسلام..)) فملخّص جوابه هو:

أوّلاً: أنّه ليس لنا حقّ الاقتراح على الله عزّ وجلّ ؛ بعد أن آمنّا بسعة علمه تعالى وعدله وحكمته وإحاطته التامّة بما يُصلِح العباد أو يُفسِدهم أفراداً ومجتمعات، وبعد أن عرفنا أنّ ملاك المصالح والمفاسد كلّها منحصر بيده تبارك وتعالى، وأنّ جهلنا بتلك المصالح والمفاسد مطلقٌ مطبق، قال تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))[البقرة:216] .

ثانياً: أنّ المعصومين من الأنبياء والرسل والأئمّة "عليهم السلام أجمعين" وكذا أُسَرُهُم كافّة، سواء كان أفرادها معصومين أو غير معصومين ، وصالحين أم طالحين جميع هؤلاء لهم تكاليف خاصّة تفرق تماماً عن تكاليف عوامّ الناس، كتكليف إبراهيم(ع) بذبح ولده، أو تكليف أمّ موسى(ع) بإلقائه في النيل، أو تكليف مريم(ع) بالإنجاب من دون أن يمسسها بشر، ونحو ذلك. وعليه فإنّ إمكانيّة الاطّلاع على أسرار تكاليفهم "عليهم السلام" واستكشاف المصلحة من ورائها أمر خارج عن محيط إدراكانا...!.

ثالثاً وأخيراً: وأمّا دعوى كون المصلحة في بقائه (ع) لا في خروجه من الدنيا فهي فاسدة ؛ لأنّ تقويم الأمم وإصلاحها له سياسات إلهيّة عديدة تختلف باختلاف المراحل والأحوال، ومن أبرزها سياسة الحرمان من بركات المصلحين الربّانيين، والسوق للأمم بسوط العذاب والتأديب بالبلاء، قال تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [الروم:41]، وقوله: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[السجدة:21].

وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة لهذه السياسة وإمضائها بطرق مختلفة ، فقد يأمر الله تعالى أنبياءه (ع) بالخروج من أممهم كما في قصّتي نوح ولوط "عليهما السلام"، وقد تقوم الأمم نفسها بقتل الأنبياء (ع) فلا يمنعها الله عزّ وجلّ، بل يمهلها ثمَّ يصبُّ غضبه وعذابه عليها بعد حين كما في بني إسرائيل ، قال تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112]، وقد يرفع الله عباده المصلحين إلى السماء دون أن يميتهم كما في عيسى (ع) حين رفعه الله إليه تعالى ثمّ صبّ العذاب على اليهود.[انظر تفاصل ذلك في التفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي:ج2،ص516-518].

ولا شكّ في أنّ ملاك استحقاق الأمّة لهذا النوع من العذاب كان متوفّراً في عصر أمير المؤمنين (ع) كما يشهد به قوله (ع): ((عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدّبتكم بالدرّة فلم تستقيموا لي، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعَوُوا، ولقد علمت أنّ الذي يصلحكم هو السيف، وما كنتُ مُتحرّياً صلاحكم بفساد نفسي... الخطبة)) [الاحتجاج للطبرسيّ:ج1،ص257 ].

وانظر نصّاً آخر له (ع) بنفس المعنى والمضمون في الكافي لثقة الإسلام لكلينيّ:ج8،ص361]. والمتحصّل من ذلك كلّه هو أنّ صلاح الأمّة ما كان ليتحقّق إلّا بخروجه (ع) من الدنيا ؛ لأنّه وجود الأئمّة "عليهم السلام" كوجود رسول الله "صلّى الله عليه وآله" مانع وعاصم من نزول العذاب بنصّ الحديث المروي عند الفرقين من قوله "صلّى الله عليه وآله": ((النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبتْ أتاها ما يوعدون ، وأنا أمان لأصحابي ما كنت، فإذا ذهبتُ أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمَّتي، فإذا ذهبَ أهلُ بيتي أتاهم ما يوعدون))[المستدرك للحاكم النيسابوري:ج2،ص448]. ودمتم سالمين.