(إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال)
السؤال: يستند بعضهم لرواية (إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال) في إنكار التقليد، بدعوى أنّ هذه الرواية تنطبق على المراجع والفقهاء؟
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اعلم أخي السائل الكريم أنّ التقليد – الذي هو رجوع الجاهل للعالم – أمرٌ عقلائيّ، جرت عليها سيرة العقلاء، ولَـم يردع عنه الشارع المقدّس في أخذ معالم الدين، بل أيّده وأمضاه في ضمن حدود وضوابط، وقد كان عوامّ الشيعة في زمن المعصومين (عليهم السلام) يرجعون للفقهاء والعلماء لأخذ معالم دينهم، وكان الأئمّة (عليهم السلام) يرغّبون بعضَ أصحابهم الخواصّ للتصدّي للفتيا، كما في أبان بن تغلب وغيره، وقد ذكرنا ذلك في أجوبة سابقة.
وأمّـا الحديث الوارد في السؤال: فقد أخرجه الشيخان الكلينيّ والصدوق بإسنادهما إلى أبي حمزة الثماليّ، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): « إيّاك والرئاسة، وإيّاك أن تطأ أعقاب الرجال، قال: قلت: جعلت فداك، أمّا الرئاسة فقد عرفتها، وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلّا ممّا وطئت أعقاب الرجال، فقال لي: ليس حيث تذهب، إيّاك أن تنصّب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال » [الكافي ج2 ص298، معاني الأخبار ص169]. وأخرج الصدوق بإسناده إلى سفيان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) نحوه [معاني الأخبار ص180].
وهذا الحديث لا يدلّ على بطلان التقليد بالمعنى المتعارف عند الإماميّة؛ وذلك لأنّ الإمام (عليه السلام) فسّر « وطئ أعقاب الرجال » في كلامه بتنصيب غير الحجّة وتصديقه في كلّ كلامه، أيْ جعله في مصافّ المعصومين (عليهم السلام)، كما هو الحال عند أتباع مدرسة الرأي الذين يفتون بما تصل إليه عقولهم القاصرة، ومن الواضح أنّ هذا لا ينطبق على فقهاء الفرقة المرحومة؛ لأنّ فقهاء الطائفة لا يقولون برأيهم دون حجّة شرعيّة، بل يستندون في فتاواهم إلى القرآن الكريم والحديث الشريف كما يجد ذلك جليّاً كلُّ مَن يراجع أبحاثهم في الفقه الاستدلاليّ، فكلامهم تفسير وشرح للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وليس قولاً من عند أنفسهم، وهذا يعني أنّ الأخذ عنهم (رضوان الله عليهم) كالأخذ عن المعصوم (عليه السلام)؛ لرجوع كلامهم للمعصوم.
ولهذا نجد المحدّث الحرّ العامليّ أدرج هذا الحديث في « باب عدم جواز تقليد غير المعصوم (عليه السلام) فيما يقول برأيه وفيما لا يعمل فيه بنصٍّ عنهم (عليهم السلام) » [وسائل الشيعة ج27 ص124]، وهذا العنوان – كما ترى – لا ينطبق على التقليد المتداول عند الإماميّة من رجوع العاميّ للفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى، ومن جملتها: انحصار الحجّة بالكتاب والسنّة، وعدم حجيّة القياس والاستحسان وأمثالها، ولا الاجتهاد مقابل النصّ.
قال العلامة المجلسي – في بيان الحديث -:
(ظنّ السائل أنّ مراده (عليه السلام) بوطئ أعقاب الرجال مطلق أخذ العلم عن الناس، فقال (عليه السلام): المراد أن تنصّب رجلاً غير الحجّة فتصدّقه في كلّ ما يقول برأيه من غير أن يسند ذلك إلى المعصوم (عليه السلام). فأمّا مَن يروي عن المعصوم أو يفسّر ما فهمه من كلامه لمن ليس له صلاحيّة فهم كلامه من غير تلقين، فالأخذ عنه كالأخذ عن المعصوم، ويجب على مَن لا يعلم الرجوعُ إليه ليعرف أحكام الله تعالى) [بحار الأنوار ج2 ص83].
ثـمّ إنّ هناك معنىً آخر يُستفاد من الحديث: وهو أنّ الحديث في مقام تنبيه المؤمنين إلى وجود أصول وضرورات دينيّة ومذهبيّة ومحكمات شرعيّة لا يُقبل قول أحد بخلافها، كالقول بألوهيّة أو نبوّة المعصومين (عليهم السلام)، أو إسقاط الصلاة والصيام والفرائض، أو تحليل الخمر والزنا والربا والمحرّمات، فإنّ هذه الأمور باطلة بالبداهة، فلو قال قائلٌ بها لكان قوله مرفوضاً لمخالفته ثواب الدين. ومن الواضح أن التقليد المتعارف عندنا إنّما هو للفقيه العادل المراعي لثوابت الدين، والاختلاف الحاصل بين الفقهاء إنّما هو في حدود المسائل النظريّة المشتبهة لا في ثواب الدين وركائزه التي لا مجال للاختلاف فيها.
قال أحد أساتذة الحوزة العلميّة في النجف الأشرف –بعد ذكر هذه الرواية وروايات أخرى-:
(إنّ هذه الروايات ناظرة إلى تنبيه عامّة الشيعة إلى وجود خطوط عريضة ومحكمة في الشريعة، لا يُقبل قول أحد بخلافها، فلابدّ من عرض أقوال الرجال عليها وردّ ما يخالفه منها.
وقد كان المجتمع في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) يعجّ بطوائف مختلفة كثيرة مبتدعة وضالّة، ومنها ما كانت تدّعي الانتساب إلى الإمام (عليه السلام)، مثل أبي الخطّاب الغالي الذي كان أوّلاً من أصحاب الإمام (عليه السلام) ثمّ غلا وأفسد عقائد بعض الشيعة بالكوفة ممّن كان يصدّقه فيما يدّعيه من معاني الغلو بالنظر إلى استقامته أوّلاً، وقد لعنه الإمام (عليه السلام) بمحضر الشيعة مكرّراً، لكن فريق من عوام الشيعة لم يكونوا يراجعون الأئمّة مباشرة، ولا يفقهون ثوابت الدين فيسترسلون في الاعتماد على مثل هؤلاء في قولهم بالألوهيّة في الأئمّة أو النبوّة فيهم أو قولهم: إنّ المؤمن ليس عليه أن يصلّي أو يصوم أو يزكّي، لأنّ حقيقة هذه الفرائض هم الأئمّة (عليهم السلام)، فمَن تولّاهم فقد أتى بها، وليس عليه أن يجتنب الخمر، لأنّ حقيقة الخمر هي أعداء الأئمّة (عليهم السلام)، فمَن تبرّأ منهم فقد امتثل.
فهذه الروايات هي – على حدّ الروايات التي تضمّنت أنّ ما خالف كتاب الله سبحانه فهو زخرف، وما خالف الكتاب والسنّة رُدّ إلى الكتاب والسنّة – ناظرة إلى ضرورة التفات عامّة المؤمنين إلى أصول الدين وثوابته، فلا يثقوا بامرئ حتّى يثقوا باستقامته ومراعاته لهذه الحدود، ولا يزال فريق ممّن يقول بموالاة أهل البيت (عليهم السلام) كبعض الإسماعيليّة قد أسقطوا فرائض الدين وأطاعوا رؤسائهم فيما يخالف ثواب الدين ودعائمه، كما أنّ بعض المدّعين للعرفان والتصوّف يقول بأنّ المرء إذا وصل إلى حقيقة الدين سقطت عنه الفرائض كالصلاة.
ومن المعلوم أنّ البحث في مشروعيّة التقليد إنّما هو للعالم العادل المراعي لحدود الدين، ويكون الرجوع إليه في المسائل المشتبهة التي تحتاج إلى التخصّص وليس في ثوابت الدين. فالناس إنّما يصدّقون من أهل العلم والفقه مَن يراعي تلك الأصول والثوابت، ويحثّ الناس على معرفتها والثبات عليها، وليس المنحرفين عن الدين ممّن يتعدّى قواعد الدين وحدوده، وهذا ظاهر) [بحث حول التقليد ص128-130].
اترك تعليق