دلالة إرجاع الأئمّة للفقهاء على التقليد

السؤال: استدلّ علمائنا على التقليد برواية يونس بن عبد الرحمن وغيرها من الروايات المشابهة لها ، ولكنْ هذا لا يدلّ على التقليد، لأنّ الأئمّة عليهم السلام نصبوا فقط أصحابهم وهم أعلم بحالهم، والتنصيب خاصّ فيهم أعني أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، فنحن علمائنا من الذي نصبهم ؟ يقول الشيخ الأعظم مرتضى الانصاريّ: إنّ أمر الإمام بالإخذ من زرارة وأبان وإسحاق ويونس وزكريّا والعميريّ ونحوهم ممّن أدركوا شرافة حضوره عليه السلام وأخذوا معالم الدين عنه بالسماع والشفاهة لا يدلّ على جواز الأخذ بقول كلّ من يفتي باجتهاده تعبّداً؛ لأنّهم كانوا وسائط بين الإمام وبين سائر الخلق مثل وسائط عصرنا بين المجتهدين والمقلّدين من العدول الموثّقين، والأخذ بالواسطة ليس من التقليد له في شيء. انتهى.

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ذكرنا في أجوبةٍ سابقة أنّ هناك عدّة أدلّة على التقليد؛ من الكتاب والسنّة والسيرة ونحوها، فمن الروايات: قول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب: « اجلس في مسجد المدينة وٱفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك» [رجال النجاشيّ ص10]، وقول الرضا (عليه السلام) لعبد العزيز المهتديّ - لـمّا سأله: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ -: « خذْ عن يونس بن عبد الرحمن » [وسائل الشيعة ج27 ص148]، وغيرها الكثير.

ويتضمّن السؤال إشكالين على الاستدلال بمثل هذه الروايات على التقليد:

أحدهما: أنّ الأئمّة هم الذين نصّبوا مثل أبان بن تغلب ويونس بن عبد الرحمن، فما الدليل على تنصيب مراجعنا بعد عصر الغيبة؟ وبعبارة أخرى: إنّ تنصيبهم له خصوصيّة في نظر الأئمّة (عليهم السلام)، فكيف تُحرز تحقّق تلك الخصوصيّة في زمن الغيبة؟

وجوابه: (أوّلاً): أنّ التقليد أمر فطريّ، قامت عليه السيرة العقلائيّة، فحاله حال حجّيّة أخبار الآحاد، فإنّ الإنسان لا يحتاج لإذن خاصّ من المعصوم لأخذ الرواية عن الراوي، كذلك لا يحتاج لإذن خاصّ لأخذ الدين عن الفقيه، فهذه الروايات إنّما تشير لإمضاء تلك السيرة العقلائيّة وترشد لها، لا أنّه يُستفاد منها حكم تعبديّ. و(ثانياً): أنّ الخصوصيّة إنّما تكون دخيلة في الأمر بالفتوى والتقرير عليها، لا في عمل المستفتي؛ لعدم ابتناء استفتاء المستفتين لمثل أبان على اطّلاعهم على أمر الإمام له بالفتوى، بل على الرجوع له لمحض ثقتهم به كسائر أهل العلم. و(ثالثاً): جاءت روايات تدلّ على أنّ مَن توفّرت فيه جملة من الشرائط فهو مؤهّل لأن يأخذ الشيعة معالم دينهم منهم، كما في رواية الإمام العسكري (عليه السلام): « من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوّام أن يقلّدوه »، وهي التي ذكرها الفقهاء في بداية رسائلهم العمليّة في مسألة حول شروط مرجع التقليد.

والإشكال الآخر: هو الوارد في كلام الأنصاريّ -: أنّ إرجاع المعصومين (عليهم السلام) للشيعة لبعض أصحابهم، إنّما هو بعنوان أنّهم رواة ووسائط لنقل الأحاديث، لا بعنوان أنّهم فقهاء، قال: (لا يدلّ على جواز الأخذ بقول كلّ من يفتي باجتهاده تعبّداً؛ لأنّهم كانوا وسائط بين الإمام وبين سائر الخلق مثل وسائط عصرنا بين المجتهدين والمقلّدين من العدول الموثّقين والأخذ بالواسطة ليس من التقليد له في شيء).

وجوابه: أنّ الشيخ الأنصاريّ ذكر هذا الإشكال في جملة كلامه في مناقشة أدلّة القول بجواز تقليد الميّت، مع أنّه صرّح في رسالته المعمولة في التقليد بتماميّة هذا الدليل، وذلك بقوله: (أمّـا حكم التقليد، فالمعروف بين أصحابنا جوازه بالمعنى الأعمّ... للأدلّة الأربعة: آيتا النفر والسؤال، والسنّة المتواترة الواردة في الإذن في الإفتاء والاستفتاء عموماً وخصوصاً، منطوقاً ومفهوماً - ثمّ قال - العمدة من هذه الأدلّة: الإجماع والسنّة) [التقليد ص17-18]. وعلى كلٍّ، فما يهمّ في المقام هو مناقشة هذا الإشكال، فنقول:

الظاهر من كلام الإمام (عليه السلام) في قوله لأبان بن تغلب: « اجلس في مسجد المدينة وٱفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك » هو إرادة الفتوى ببيان الحكم الشرعيّ، لا نقل الروايات فحسب، فإنّ ظاهر « ٱفتِ » هو الأمر بالفتوى لا نقل الحديث، كما أنّ إرجاع الرضا (عليه السلام) لعبد العزيز المهتديّ إلى يونس لأخذ معالم الدين منه، وهو يشمل الفتوى؛ وذلك لأنّ يونس بن عبد الرحمن كان فقيه الأصحاب في زمانه.

وإفتاء فقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) أمر ثابت، فإنّهم لـم يكونوا مقتصرين في بيان الحكم الشرعيّ على ذكر الرواية التي تلقّوها عن المعصوم (عليه السلام)، بل كانوا يفتون بحسب الروايات والأدلّة التي لديهم، فربّما يكون في المورد روايتان، فيقدّمون إحداهما على الأخرى لشهرتها أو لمخالفتها العامّة أو لموافقتها الكتاب أو غير ذلك، ولا يخفى أنّ معالجة التعارض ثمّ بيان الحكم بعد المعالجة إفتاء؛ لدخالة النظر في بيان الحكم.

وقد عمد الأئمّة (عليهم السلام) لتعليم الأصحاب عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): « إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله » [الكافي ج1 ص60]، وهذا تنبيهٌ منه (عليه السلام) للأصحاب بأن يسألوه عن مدرك ودليل الحكم، وذلك بُغية تعليمهم كيفيّة الاستنباط والاستدلال.

وفي الرواية عن زرارة بن أعين قال: « قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال: .. {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فعرفنا حين قال: {بِرُءُوسِكُمْ} أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء.. » [الكافي ج3 ص30]، فيلاحظ أنّ زرارة لا يسأل عن الحكم وإنّما يسأل عن مدرك الحكم، فيجيبه الإمام بأنّ الحكم يُستفاد من القرآن الكريم بالتقريب المذكور.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): « إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا »، ونحوه عن الإمام الرضا (عليه السلام) [مستطرفات السرائر ص109]، فالأئمّة (عليهم السلام) علّموا الأصحاب الأصول الكليّة التي يمكن التفريع عليها، ففي الرواية عن إسحاق بن عمّار قال: « قال لي أبو الحسن الأوّل (عليه السلام): إذا شككتَ فابنِ على اليقين، قال: قلتُ: هذا أصل؟ قال: نعم » [الفقيه ج1 ص351]، فيلاحظ أنّ الإمام بيّنَ لإسحاق قاعدةً كليّة، فاستفسر منه إنْ كان أصلاً كلّيّاً يُرجَع له، فأجابه بالإيجاب.

فالاجتهاد في استنباط الحكم ليس حادثاً، بل كان موجوداً حتّى في زمن الصادقين (عليهما السلام) بتعليمٍ وإرشادٍ من الأئمّة (عليهم السلام)، فلم يكن الأصحاب - مع تشتّت أحوالهم واختلاف بلدانهم - يرجعون للأئمّة (عليهم السلام) في كلّ حكم شرعيّ؛ وذلك لأنّهم (عليهم السلام) علّموهم طرق معرفة الحكم الشرعيّ واستنباطها من الكتاب والسنّة، كما علّموهم أشياء من علم الأصول، كما ذكرنا في جوابٍ منفرد حول علم الأصول عند الشيعة.

قال الميرزا جواد التبريزيّ (ره) في جواب سؤال: متى تبلورت فكرة التقليد وأخذت الصورة الحاليّة؟ -: (أصل التقليد كان في زمن الأئمة (عليهم السلام)، وجملة من الرواة كانوا فقهاء، والأئمّة (عليهم السلام) أرجعوا إلى بعض هؤلاء الرواة مَن لا يتمكّن من لقاء الإمام (عليه السلام) عند الحاجة..) ثـمّ ذكر إرجاع الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب، وإرجاع الرضا (عليه السلام) لزكريّا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن [صراط النجاة ج5 ص8].

نعم، لَـم يكن معرفة الحكم الشرعيّ معقّداً وصعباً كما هو الحال في الأزمنة المتأخّرة، وإنْ كان صعباً بالنسبة لذلك الزمان من جهات أخرى؛ كعدم تيسّر الأصول والكتب لكلّ أحد، وعدم معرفة لحن الأحاديث ومغزاها، وغير ذلك.