مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

السؤال: قال الله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}، اليد هنا أولت بالقدرة، إذا كانت اليد تعني القدرة فما معنى اليد الثانية؟ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، لاحظوا أن كلمة {بِيَدَيَّ} مثنى وليست مفردة، فإذا كانت اليد تعني القدرة، فما معنى اليد الثانية؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا شكّ ولا ريب أنّ الله تعالى منزّه عن الأجسام وأحكامها؛ إذ الجسم وما يعرض له من أحكام مخلوق مصنوع، والله تبارك وتعالى خالق الأجسام، فهو مباين للمخلوقين في صفاتهم، يقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11].

ومـا يرد في الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة من نسبة بعض الألفاظ الظاهرة في تشبيهه بخلقه، فلا يُـراد منها معانيها الدالّة على التشبيه، بل معانٍ أخرى، فاليد - مثلاً – يستعمل في كلام العرب في الجارحة والقوّة والنعمة والملك وغيرها، فحيث دلّ البرهان العقليّ والنقليّ على بطلان التشبيه، يلزمه أن يكون معنى الجارحة منفيّاً وغيرَ مراد من لفظ اليد، بل المراد معانيها الأخرى المناسبة لعظمة الباري تعالى وجلالته.

وقد ورد استعمال كلمة (اليد) في القرآن الكريم بأساليب متعدّدة أفراداً وتثنيةً وجمعاً، ومثل هذا التنويع له نكاته البلاغيّة، وبما أنّ السؤال عن وجه التثنية في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [سورة ص: 75]، فلنذكر أوّلاً بعض أحاديث أهل البيت (عليهم السلام):

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمّد بن مسلم، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) فقلت: قوله عزّ وجلّ: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقال: « اليد في كلام العرب القوة والنعمة، قال : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ}، وقال : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أي بقوّة، وقال: {وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ } أي قواهم ، ويقال: " لفلان عندي يد بيضاء " أي نعمة » [معاني الأخبار ص16، التوحيد ص153].

وروى بالإسناد عن محمّد بن عبيدة، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ}؟ قال: « يعني بقدرتي وقوتي » [التوحيد ص15، عيون أخبار الرضا ج1 ص110].

وقال الشيخ الصدوق – بعد ذكر الحديثين -: (سمعت بعض مشايخ الشيعة بنيسابور يذكر في هذه الآية: أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يقفون على قوله : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ}، ثمّ يبتدؤون بقوله عزّ وجلّ: {بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}، وقال: هذا مثل قول القائل: بسيفي تقاتلني وبرمحي تطاعنني، كأنّه يقول عزّ وجلّ: بنعمتي قويت على الاستكبار والعصيان) [التوحيد ص154، عيون أخبار الرضا ج1 ص110].

إذا عرفتَ هذا، فلنذكر بعض الوجوه المذكورة في سبب التثنية في قوله: {بِيَدَيَّ}:

الأوّل: اليد بمعنى القوّة، والتثنية للمبالغة.

الثاني: اليدان بمعنى النعمتين اللتين هما في الدنيا والآخرة، أو نعمة الدين والدنيا، أو نعمة الظاهر والباطن، والباء بمعنى اللام، فكأنّه قال: خلقت ليدي، يريد به لنعمتي، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، والعبادة من الله تعالى نعمته عليهم؛ لأنّها تعقبهم ثوابه تعالى في النعيم الذي لا يزول.

الثالث: اليدان هما القوّة والنعمة، فكأنّه قال: خلقت بقوّتي ونعمتي.

الرابع: أنّ إضافة اليدين إليه تعالى بمعنى تولّي خلقه بنفسه، كقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي بما قدمت من فعلك، وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وكقول القائل: (هذا ما عملت يداك) أي أنت فعلته، فالتثنية للمبالغة.

ينظر: الاعتقادات ص23، تصحيح الاعتقادات ص33-34، الأمالي للمرتضى ج3 ص25، الاقتصاد ص39، التبيان في تفسير القرآن ج8 ص581، وغيرها.

وقد ذكر الوجهَ الرابع المرجعُ الأعلى السيّد عليّ السيستانيّ (دام ظلّه)، فيما حكاه الشيخ المستبصر عبد الحميد الجاف في رحلة استبصاره، ننقل ما ذكره بنصّه لِـما فيه من توثيق وفائدة.

قال الشيخ الجاف تحت عنوان: « التقلّب بين مراجع النجف أيّدهم الله »:

(أمّا الفائدة الأخرى التي نلتها من هذه الرحلة إلى النجف: فكانت عند المرجع الأعلى السيّد عليّ السيستانيّ (دام ظلّه) – الذي ذكّرنا بآبائه العظام في هيبتهم وحكمتهم وسعة علمهم ورصانة معلوماتهم والتصدّي للمعضلات وحلّها، فقد سألناه في موضوع الصفات الخبريّة، حتّى أتيته على أعقد سؤال وإشكال للوهّابيّين والسلفيّين فيها، وأهم أدلّة إثباتها... وهو قول الله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، فهم يقولون: لو أنّ اليد تستخدم في القرآن بمعنى القدرة، فكيف يقول تعالى هنا: يديّ؟ فهل يقصد قدرتي؟ وهل تتعدد القدرة؟ وبالتالي فهذا يدلّ على أنّ لله تعالى يدين حقيقيتين!!

فأجاب السيّد، وظننت بأنّه سوف لن يجيب على هذا السؤال كما ينبغي، وكما يجيد الجواب على غيره من الأسئلة -، ففاجئني السيّد بجوابه الرائع الذي أثلج صدري!

فقال السيّد (دام ظلّه): أنت حين تقدّم هدية لشخص ما، فمرّة تقدّمها بيدك، أو ترسلها إليه بيد آخر، أو عن طريق البريد، ومرّة أخرى تريد أن تبيّن لهذا الشخص بأنّه مهم وعزيز عليك، فتذهب إليه بنفسك، وتقدّم له تلك الهدية بكلتا يديك، فسوف تبيّن له ويفهم هو منك أيضاً كبير اهتمامك به وإكباره ومعزّته وتقديره بعملك هذا، فأراد الله تعالى أن يبيّن لإبليس مدى اهتمام الله تعالى بآدم ومكانته وأهميّته، بحيث خلقه الله تعالى بمزيد عناية واهتمام واختيار واجتباء، وهذا كلّه يدلّ على أفضليّته واستحقاقه لذلك الطلب من السجود له من قبل الملائكة، فلا تبقى لإبليس حجّة بعد هذا البيان الرائع واللطيف.

فتعجّبنا لبيان السيّد! بالإضافة إلى هذا الفهم الرائع للقرآن، ولبيان الله تعالى بهذا الشكل لإبليس وإقامة الحجّة عليه، فهذا هو المطلوب منّا أن نفهمه من القرآن الكريم، لا أن نثبت أنّ لله تعالى يدين أو رجلين! فما الفائدة من إثبات يد أو رجل أو ساق أو إصبع أو وجه لله تعالى وترك مثل هذا الفهم وهذه الحجج الرائعة والمهمّة والمفيدة والمثبتة لعدل الله تعالى وإقامة حججه بتمام وكمال؟!) [ثمّ شيّعني الألباني ص201-202].

والحمد لله ربّ العالمين