هل تسبّب المسلمون في الحملة الصليبيّة الأولى؟

الجواب:

تمّ هدم كنيسة القيامة في عهد الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله، وهو من أكثر الخلفاء الفاطميّين إثارة للجدل، وكان قد ولد لأب فاطميّ وأمٍّ مسيحيّة في القاهرة عام 985م، وأختاره والده العزيز بالله وليّاً للعهد عام 993، وبعد وفاة والده تولّى الخلافة وهو في الثانية عشرة من عمره وحكم أكثر من 25 عاماً، وكان عهده مليئاً بالأوامر والأحكام الغريبة والمتناقضة.

فمنذ بداية حكمه أخذ موقفاً معاديّاً لليهود والنصارى ففرض عليهم إجراءات صارمة، فألزم المسيحيّين بتعليق صلبان ثقيلة على أعناقهم، واليهود بتعليق أنيار خشبية ثقيلة في أعناقهم، ثمّ قام بحملة تدمير واسعة للأديرة والمعابد اليهوديّة والكنائس المسيحيّة، ومصادرة جميع ممتلكات غير المسلمين، وأثارت أفعاله ضد المسيحيّين المصريّين غضب الحاكم الرومانيّ الشرقيّ، ونتيجةً لذلك مزّق الحاكم الرومانيّ معاهدة السلام مع الفاطميّين، وقطع كلّ التجارة بين روما الشرقيّة والفاطميّين.

وقد وصف هذا الحاكم بالجنون وعدم الاتّزان النفسيّ، فكانت كلُّ قراراته مستعجلة وبعيدة عن منطق السياسة والحكم، ومن أمثلة ذلك منعه النساء الخروج من المنازل، ومنعهنَّ من الاغتسال في الحمّامات العموميّة التي كانت المكان الوحيد للاغتسال، مضافاً لحظره صنع الأحذية النسائيّة، إذْ يقول المؤرّخ البغداديّ ابن الجوزيّ، في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم): "وفي جمادى الآخر: ورد الخبر بأنّ الحاكم في مصر، حظر النساء من الخروج من منازلهنَّ والاطّلاع من سطوحهنَّ ودخول الحمّامات، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف لهُنَّ، وقتل عدّة نسوة خالفنَ أمره في ذلك..." (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ج15 ص 101).

واستمرّ الحاكم بأمر الله في نزواته الغريبة وأعماله المتناقضة حتّى قيل إنّه ادّعى الألوهيّة وإنْ كان هذا الأمر مختلف عليه تاريخيّاً، والمهمُّ أنّ تصرّفاته الغريبة ولّدتْ حركة من التململ والضجر حتّى قام الناس بثورة وشغب، فأمر الحاكم جنوده بإشعال النار في القاهرة وقتل أهلها، وهكذا كان حكمه قاسياً ومضطرباً، وهدم كنيسة القيامة يأتي ضمن هذا السياق المضطرب والمتناقض، ولذا لا يمكن تحميل مسؤوليّته لعامّة المسلمين ناهيك عن تحميله للإسلام.

وكذلك يقال: إنّ الحاكم بأمر الله أرسل لواليه في سوريا يأمره بهدم كنيسة القيامة، على أن يجعل سماءها أرضاً وطولها عرضاً، وقد أدّى ذلك إلى حالة من الغضب في العالم المسيحيّ لكونها من أقدس المواقع المسيحيّة على الإطلاق.

ومن هنا عُـدَّ هدم الكنيسة مضافاً للصعوبات التي تعرّض لها الحجّاج المسيحيّين من الأسباب المعلنة للحملات الصليبيّة، ويمكن أن يقال: إنّ نزع بيت المقدس من سيطرة المسلمين وبسط النفوذ المسيحيّ هو الذي كان يقف خلف الحملات الصليبيّة.

ومضافاً لذلك كان هناك أهداف سياسيّة واقتصاديّة واستراتيجيّة واستعماريّة تختفي خلف الأهداف الدينيّة.

ونحن هنا لا نرى من واجبنا الدفاع عن الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين، وبخاصّة الانحرافات الكثيرة التي أحدثها الخليفة الفاطميّ الحاكم لدين الله، وفي نفس الوقت لا نُسوّق التبريرات للحملات الصليبيّة، وإنّما ندين ونستنكر الفعلين معاً بوصفهما ظلماً وتعدّياً من جميع الوجوه، فالخليفة الفاطميّ لم يتعدَّ على المسيحيّين واليهود فقط وإنّما تعدّى على المسلمين وسفك دمائهم، وفي المقابل لم تأتِ الحملات الصليبيّة لردِّ مظالم وقعت على المسيحيّين وإنّما سفكت دماء المسلمين واليهود وارتكبوا مذابح وفظائع، بل لم يسلم منهم المسيحيّون المحلّيّون، فقد استولوا على أديرتهم وطردوهم من كنائسهم.