هل يجوز تقديم المفضول على الفاضل؟

السؤال: جواز تقديم المفضول على الفاضل في الإمامة رأيٌ قال به البعض مثل الزيديّة والمعتزلة وبعض المتصوّفة.. فما المانع أنْ تكون الإمامة الدينيّة لأهل البيت على فرض أنّهم أفضل من أبي بكر وعمر والقيادة السياسيّة للشيخين، وبذلك تنحلُّ أزمة فتّت عضد المسلمين؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أوّلاً: إمامة المفضول على الفاضل مجرّد حيلة وضعت للتغطية على انحراف الأمّة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وبغرض التستّر على طبقة من الصحابة اغتصبت الحقّ الشرعيّ من أصحابه، وإلّا بأيّ مسوّق يجوز تقديم المفضول على الفاضل وهو أمر باطل بحكم العقل والمنطق، فإذا وضع أمام العقل (فاضل ومفضول) فمن المستحيل أنْ يقدّم العقل المفضول ويؤخّر الفاضل، وهذا الحكم البديهيّ هو مورد اتّفاق جميع العقلاء، والذين أجازوا تقديم المفضول على الفاضل أجازوه في حال لم يكن الفاضل معروفاً، أمّا إذا كان الفاضل مشخّصاً فلا قائل بتقديم المفضول عليه، قال أبو الحسن الأشعريّ: "يجب أنْ يكون الإمام أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة ولا تنعقد الإمامة لأحد، مع وجود من هو أفضل منه فيها" (الإمامة وأهل البيت محمّد بيومي مهران، (ج 1/ص 151). وقال ابن تيمية: "تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم ... " (منهاج السنّة ج3 ص 277).

وعليه، فإنّ هناك إجماعاً على قبح تقديم المفضول على الفاضل إذا كان الفاضل موجوداً ومشخّصاً، وقد صرّح ابن حزم بذلك في معرض دفاعه عن تقديم المفضول على الفاضل إذْ قال: "وهذا هو الصواب – أيْ تقديم المفضول على الفاضل - إلّا إذا كان الفضل في جميع الوجوه متيقّنا"(الإمامة وأهل البيت مصدر سابق).

ثانياً: أفضليّة أهل البيت (عليهم السلام) على جميع المسلمين حقيقة وواقع وليس مجرّد تقدير وافتراض، والنصوص المتواترة التي تدلُّ على ذلك أكثر من أنْ نحصيها في هذا المقام، أمثال حديث الثقلين وحديث الكساء وحديث الولاية وعشرات الأحاديث الصحيحة والمتواترة المرويّة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في تفضيل أهل البيت (عليهم السلام) وتقديمهم على جميع المسلمين ووجوب اتّباعهم وأخذ الدين منهم وعنهم.

فرسول الله (صلّى الله عليه وآله) -إذنْ- هو الذي ميّز أهل بيته وفضّلهم على بقيّة الصحابة.

زِدْ على ذلك: أنّ من الأدلّة التي تؤكّد على أفضليّتهم هو أنّ الله تعالى أوجب على الجميع بما فيهم كبار الصحابة أن يصلّوا على محمّد وآل محمّد، ولا يكتمل إيمان المؤمن إلّا إذا صلّى على النبّي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) ، فعندما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، سأل الصحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كيف نصلّي عليك فقال: تقولون: (اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم).

فقرن بين أهل البيت وبين آل إبراهيم مع كونهم أنبياء، ومن هنا نفهم أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يقارنون ببقيّة الناس وإنّما بالأنبياء عليهم السلام، وهذه المرتبة لا ينالها إنسان إلّا بأمر من الله سبحانه وتعالى، فكلّ من حاول أن يُدخل غيرهم في هذه المرتبة، إنّما هو مبتدع ومفترٍ على الله؛ لأنّ الصلاة لا تجوز إلّا عليهم فقط.

ثالثاً: سبب الخلاف بين الشيعة والسنّة يعود إلى تحديد مصدر التلقّي من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فتمسّك أهل السنّة بكلّ الصحابة، وتمسّك الشيعة بأهل البيت (عليهم السلام) خاصّة.

واستدلّ أهل السنّة على وجوب اتّباع جميع الصحابة بالآيات التي مدحت صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إلّا أنّ هذه لا تثبت للصحابة حقّاً في قبال أهل البيت، فكلّ الآيات التي مدحت الصحابة شاملة لأهل البيت أيضاً، وفي المقابل ليس كلّ ما خصّ الله به أهل البيت (عليهم السلام) شامل للصحابة، وهو ممّا يدعونا إلى البحث عن الحكمة التي ميّزت أهل البيت (عليهم السلام) عن بقيّة الصحابة، إلى درجة أن الصحابيّ لا يعدُّ مؤمناً إلّا بالصلاة على آل محمّد، وفوق ذلك فإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يسأل أجراً على هذه الرسالة إلّا مودَّة أهل البيت (عليهم السلام): ﴿(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾. [الشورى 23]، والصحابة كذلك مسؤولون يوم القيامة عن هذه المودّة.

ومن هنا نفهم تمسّك الشيعة بأهل البيت (عليهم السلام)، كما نفهم تأكيدات الرسول (صلّى الله عليه وآله) على ضرورة الرجوع إليهم، ونحن لم نكن لنفهم عزوف هذه الأُمّة عنهم والرجوع إلى غيرهم، لولا أنّ القرآن العظيم قد بيّن سبب ذلك العزوف بقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾. [النساء 54]، فهذه الآية كما تكشف عن مقام أهل البيت (عليهم السلام)، تكشف عن حسد الأمّة لهذا المقام الذي تفضّل الله به عليهم.

ولكي يتّضح مقام أهل البيت (عليهم السلام) من هذه الآية، لا بدّ أنْ نتساءل عن بعض المعاني الغامضة في هذه الآية، لنعرف مَنِ هم المحسودون، وما الفضل الذي كان سبباً في ذلك الحسد؟ لا يمكن أن يكون المقصود بالناس في هذه الآية كلّ الناس، وإنّما جماعة خاصّة من الناس يقع عليهم حسد البقيّة، كما لا يمكن أن يكون الفضل فضلاً يشترك فيه كلّ الناس، وإنّما فضل خاصّ لا يصيب إلّا بعضهم، وإّلا لم يكن هناك خصوصيّة حتّى يقع عليهم الحسد.

ولكي نفهم هذه المعاني لا بدّ من الرجوع إلى بقيّة الآية، فقد بيّن الله فيها نموذجاً للناس ونموذجاً للفضل، فأمّا نموذج الناس: فهم آل إبراهيم، وأمّا نموذج الفضل: فهو الكتاب، والحكمة، والملك العظيم، فَمَنْ من الناس في أمّة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) يمكن أن يكون في قبال آل إبراهيم؟، ومن من الناس في أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) يمكن أن يستحقّ أن يمُنَّ الله عليه بالكتاب والحكمة والملك العظيم؟

نحن لا نرى كفؤاً في هذه الأمّة لآل إبراهيم إلّا آل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولذلك أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله) هذه الأمّة أن تصلّي على آل محمّد، كما تصلّي على آل إبراهيم.

وبحكم المقابلة، يمكننا تفسير الآية على هذا النحو: (أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم الله من فضله -الكتاب والحكمة والملك العظيم-، ولقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً)، والقول بجواز تقديم المفضول على الفاضل مصداق من مصاديق حسد أهل البيت عليهم السلام، فبعضهم حين لم يجد سبباً مُقنعاً في تأخير أهل البيت (عليهم السلام) وإبعادهم عن حقّهم الشرعيّ ابتدع حيلة تقديم المفضول على الفاضل.

ففي الرواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (مالي كلّما ذكرت آل إبراهيم تهلّلت وجوهكم، وكلّما ذكرت آل محمّد كأنّما يفقأ في وجوهكم حبّ الرمّان، فو الذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجيء بولاية عليّ بن أبي طالب لأكبّه الله (عزّ وجلّ) في النار.) ( بحار الأنوار 27/171).