بينَ الغيبِ والمادّة

" فرانكو : ""فكرتي يا بنتو (سبينوزا) هي أنه إذا كانت الطقوس والشعائر، ونعم، الخرافة أيضاً تتغلغل بعمق في طبيعة البشر ذاتها إذًا ربما كان من الشرعي أن نخلص إلى أننا نحن البشر نحتاج إليها"" سبينوزا: "" أنا لا أحتاج إليها. فالأطفال يتطلبون أشياء لا يتطلبها الكبار في السن. وكان الإنسان منذ ألفي سنة يتطلب أشياء لا يتطلبها الإنسان في يومنا هذا. أظن أن سبب الإيمان بالخرافة في جميع هذه الثقافات يكمن في أن الإنسان القديم كان يخاف من نزوات الطبيعة الغامضة وتقلباتها. كان يفتقر إلى المعرفة التي قد تزوده بالشيء الذي يحتاج إليها وهو تفسيرها. وفي تلك الأزمنة القديمة أدرك الإنسان شكلاً واحداً متاحاً من التفسير —العالم الغيبي— وهو الصلاة والصوم وتقديم القرابين إلخ"" ""فرانكو :"" وما الوظيفة التي يقدمها التفسير ؟"" سبينوزا :"" التفاسير تهدئ النفس. تخفف ألم الشك وعدم اليقين. لقد أراد الإنسان القديم أن يستمر في الحياة، كان يخاف من الموت، يقف عاجزاً أمام أشياء كثيرة في بيئته من حوله، ومنحته هذه التفاسير الإحساس، أو على الأقل الوهم بالسيطرة. فقد توصل إلى أنه إذا كان كل ما يحدث ناجماً عن سبب خارق للطبيعة، عندها يمكن إيجاد وسيلة لاسترضاء عالم ما وراء الطبيعة» نص حواري من كتاب مشكلة سبينوزا الخلاصة: باروخ سبينيوزا ارجع اصل الشعائر والطقوس لخوف الانسان من الطبيعة حيث يجهل تفسيرها فأرجعها لقوى غيبية أراد ارضائها! ثم تطورت الطقوس بعد ذلك مع تطور الاديان..!"

الجوابُ:

 

ما جاءَ في هذهِ الحواريّةِ لا يعدُّ موقفاً خاصّاً بالفيلسوفِ الهولنديّ سبينوزا، وإنّما هوَ موقفُ معظمِ فلاسفةِ عصرِ النهضةِ والتنوير، وقد تصاعدَ في ذلكَ العصرِ العداءُ للدّينِ بسببِ المواقفِ المُتزمّتةِ للكنيسة، وقد حاولَ الإلحادُ حينَها تمريرَ أطروحاتِه تحتَ شعارِ العلميّةِ والعقلانيّة، وواصفاً الفكرَ الدينيَّ بالخرافةِ الخارجةِ عن حدودِ العقلِ والمَنطِق، وقد تمَّ الترويجُ لذلكَ بالشكلِ الذي أصبحَ معَه الدينُ هوَ المسؤول عن الواقعِ المُتخلّف، ويبدو أنَّ هذهِ الأجواءَ هيَ التي أتاحَت لفردريك نيتشه أن يُطلقَ مقولتَهُ المشهورة (موتُ الإله)، وهوَ يشيرُ بذلكَ إلى أنَّ العلمَ لم يدَع مُبرِراً لوجودِ الإله، ثمَّ جاءَ ماركس ليُطلقَ مقولتَه الشهيرة: الدينُ أفيونُ الشعوب.

وهكذا اندفعَ بعضُ الفلاسفةِ لإيجادِ تصوّرٍ اجتماعيّ للإنسانِ يقومُ على الملاحظةِ والتجربة، أو تصوّرٍ سياسيٍّ واقتصاديً يقومُ على التفسيرِ المادّيّ للتاريخِ والتطوّرِ الديالكتيكيّ للإنسان، وهكذا قامَت فلسفاتٌ بطرحِ نفسِها بديلاً عن الأديان، لا بوصفِها ديناً جديداً وإنّما بوصفِها الصيغةَ التي تُغني الإنسانَ في عصرِ العلم عَن الدين، وهوَ الأمرُ الذي دفعَ الفيلسوفَ اوغست كونت، (19 يناير 1798 - 5 سبتمبر 1857) إلى تأسيسِ علمِ الاجتماع الذي يكونُ مُعبّراً عن المرحلةِ البشريّة، وهيَ المرحلةُ الوضعيّةُ القائمةُ على ملاحظةِ الظواهرِ وإخضاعِها للتجربة، حيثُ يرى كونت أنَّ الفكرَ البشريّ قد مرَّ خلالَ تطوّرِه التاريخيّ بحالاتٍ ثلاث: "المرحلةُ اللاهوتيّةُ التي تُعلّلُ الأشياءَ والظواهرَ بكائناتٍ وقوىً غيبيّة، والمرحلةُ الميتافيزيقيّةُ التي تعتمدُ على الإدراكِ المُجرّد، والمرحلةُ الوضعيّةُ التي يتوقّفُ فيها الفكرُ عن تعليلِ الظواهرِ بالرّجوعِ إلى المبادئِ الأولى ويكتفي باكتشافِ قوانينِ علاقاتِ الأشياءِ عن طريقِ المُلاحظةِ والتجربةِ الحسّيّة" .

وقد وصلَت البشريّةُ بحسبِ كونت إلى مرحلةِ العلميّة، بعدَ أن تجاوزَت مرحلةَ الأديانِ ومرحلةَ التأمّلاتِ الميتافزيقيّة، حيثُ تتميّزُ مرحلةُ الدينِ واللاهوت بالاعتقادِ بوجودِ إرادةٍ سماويّةٍ تتحكّمُ في عالمِ الطبيعة، والإنسانُ في هذهِ المرحلةِ يتّسمُ بالبدائيّةِ والتعلّقِ بالخُرافات، أمًا المرحلةُ الثانية وهيَ المرحلةُ الميتافيزقيّة: وهيَ الفترةُ التي بحثَ فيها الإنسانُ عن أسبابٍ داخلَ الطبيعة، ولكِن ليسَ بمعنى البحثِ عن السّببِ الحسّيّ المُباشر، وإنّما البحث عن السببيّةِ بلغةِ القوى المُجرّدة، حيثُ تحلُّ الأسبابُ والقوى التجريديّةُ محلَّ الإرادةِ السماويّةِ وتصبحُ الطبيعةُ هيَ القوّة العُظمى غير المنظورة. أمّا المرحلةُ الأخيرة في التطوّرِ البشريّ هيَ المرحلةُ الوضعيّة: وهيَ المرحلةُ التي تحلُّ فيها القوانينُ العلميّةُ، والوضعيّةُ الطبيعيّة، محلَّ الإراداتِ اللاهوتيّة، ومحلَّ التأمّلِ الميتافيزيقيّ المُجرّد، وعندَ هذهِ النقطةِ منَ التطوّرِ يكونُ بإمكانِ المُجتمعِ التحكّمَ في الأحداثِ الإنسانيّة، ويعتقدُ كونت بأنَّ المدنيّةَ الأوروبيّة قد وصلَت بالفعل إلى المرحلةِ الوضعيّةِ منَ التحكّمِ في الظروفِ الطبيعيّةِ وأصبحَت على حافّةِ الوضعيّةِ فيما يتعلّقُ بالعلاقاتِ الاجتماعيّة.

يقولُ الدكتور مولود زايد الطبيب "فهوَ يرى أنّهُ مِن خلالِ قانونِ المراحلِ الثلاثةِ أنَّ العقلَ الإنسانيّ أو التفكيرَ الإنسانيّ قد انتقلَ في إدراكِه لكلِّ فرعٍ مِن فروعِ المعرفة منَ الدورِ الدينيّ (التيولوجي) إلى الدورِ الميتافيزيقيّ وأخيراً الدورِ الوضعيّ أو العلميّ. ويُقصدُ بالدّورِ الدينيّ أنَّ العقلَ كانَ يسيرُ على أسلوبِ الفهمِ الدينيّ بمعنى أنّه يُفسّرُ الظواهرَ بنسبتِها إلى قوىً غيبيّةٍ خارجةٍ عن الظاهرةِ نفسِها كالآلهةِ والأرواحِ الشيطانيّة وما إليها، كأن يُفسّرَ ظاهرةَ النموّ في النباتِ بنسبتِها إلى اللهِ عزَّ وجل، ويُقصدُ بأسلوبِ الفهمِ الميتافيزيقيّ: أنَّ العقلَ كانَ يُفسّرُ الظواهرَ بنسبتِها إلى معانٍ مُجرّدةٍ أو قوىً ميتافيزقيّة، كأن يُفسّرَ ظاهرةَ النموِّ في النباتِ بنسبتِها إلى قوّةِ النبات. ويُقصدُ بأسلوبِ الفهمِ العِلمي: أنَّ العقلَ يذهبُ في تفسيرِه للظواهرِ بنسبتِها إلى القوانينِ التي تحكمُها والأسبابِ المُباشرة التي تؤثّرُ فيها، كأن يُفسّرَ ظاهرةَ النمو بنسبتِها إلى العواملِ الطبيعيّةِ والكيميائيّة والقوانينِ المؤلّفةِ لهذهِ الظاهرة"

ومعَ أنّنا لا نتنكّرُ على الإسهاماتِ التي قدّمَتها الفلسفةُ الوضعيّةُ وبخاصّةٍ فيما يخصُّ علمَ الاجتماع، إلّا أنَّ العلميّةَ التجريبيّةَ، والوضعيّةَ الطبيعيّة، لا تقعُ في نفسِ الخطِّ الذي تسيرُ فيه الضرورةُ الدينيّة، فالبحثُ عن القوانينِ الطبيعيّةِ وربطُ الظواهرِ بأسبابِها المُباشرة لا يُغني الإنسانَ عن الارتباطِ بالغيبِ والبحثِ عَن المُطلق، فتفاعلُ الإنسانِ مع عالمِ المادّةِ وتسخيرُها ضمنَ شروطِها الطبيعيّة يعدُّ خطوةً ضروريّةً للتكاملِ المادّيّ للإنسان، أمّا تكاملهُ الروحيّ وعروجُه إلى المعاني الساميةِ والقيمِ الكليّةِ لا يكونُ إلّا بانفتاحِه على الغيب، فلا التجربةُ المادّيّة تحقّقُ للإنسانِ ما يصبو له روحيّاً، ولا الغيبُ والتأمّلُ في المُطلَق يُحقّقُ له ما يحتاجُه مادّيّاً، وبالتالي ما افترضَهُ مِن سيرٍ طوليّ عبر مراحلَ ثلاثةٍ غير دقيق؛ فالإنسان وبهذه الشخصيّةِ المُركّبةِ يمكنُه السيرُ في اتّجاهاتٍ مُختلفة في الوقتِ ذاتِه، فبعضُ الأمورِ يُنظرُ لها بعقلٍ تجريبيّ، والبعضُ الآخرُ بعقلٍ تأمّلي، وبعضُ الحقائقِ يتفاعلُ معها حسّيّاً، والبعضُ الآخرُ عاطفيّاً ووجدانيّاً، وهكذا الإنسانُ ليسَ ذاتاً بسيطةً ينظرُ للأشياءِ مِن زاويةٍ واحدة، ومِن هُنا نفهمُ ما أحدثَهُ الإنسانُ مِن تطوّرٍ مادّيّ، وفي نفسِ الوقت نتفهّمُ ما أحدثَه مِن تكاملٍ عرفانيّ وتأمّلٍ روحي. يقولُ الدكتور ماكس نوردوه عن الشعورِ الديني: "هذا الإحساسِ أصيلٌ يجدُه الإنسانُ غيرُ المُتمدّنِ كما يجدُه أعلى الناسِ تفكيراً وأعظمُهم حدساً، وستبقى الدياناتُ ما بقيَت الإنسانيّة، وستتطوّرُ بتطوّرِها، وستتجاوبُ دائماً مع درجةِ الثقافةِ العقليّةِ التي تبلغُها الجماعة" 

ويقولُ الشيخُ عبدُ الله دراز في معرضِ حديثِه عن نظريّةِ المراحلِ الثلاثةِ لكونت: "ولكنّها بعدَ ذلك تعدُّ دعوىً غيرَ مُسلًمة، لا لأنّها مُجرّدةٌ عن البرهانِ فحسب، بل لأنّها تُحرّفُ التاريخَ، وتصادمُ العيان. فنحنُ مازلنا نسمعُ ونرى في كلِّ عصرٍ تقديساً للروحانيّات، وشغفاً بالمعنويّاتِ والمعقولاتِ الكُلّيّة، عندَ فريقٍ منَ الناسِ إلى جانبِ الاهتمامِ بالحوادثِ والحقائقِ الجُزئيّة، عندَ فريقٍ آخر. وليسَ الحدُّ الذي يفصلُ بينَ المُعسكرين هوَ جهلُ أحدِهما بالتجاربِ الكونيّةِ وخبرةُ الآخرِ بها، إذ كثيراً ما نجدُ مِن بينِ الجهلاءِ جاحدينَ مُتعصّبين، كما نجدُ مِن بينِ علماءِ المادّةِ مؤمنينَ مُتحمًسين، وها نحنُ في القرنِ العشرين وفي قلبِ الحضارةِ الأوروبيّةِ نرى إلى جانبِ البحوثِ المادّيّةِ المُتشعّبة، دراساتٍ روحيّةً واسعة، تقومُ بها جماعاتٌ محترمةٌ مِن كبارِ علماءِ الطبِّ والفلسفةِ والطبيعةِ، على منهاجٍ علميٍّ دقيق، وبأسلوبٍ برهانيٍّ يعتمدُ على التحليلِ والنقدِ الصّارم..." 

وقد أشَرنا في إجابةٍ سابقةٍ إلى أنَّ الإشكاليّةَ المُهمّةَ التي يمكنُ أن تواجهَ الفلسفةَ الوضعيّة؛ هيَ كيفَ تُخضَعُ العلومُ الإنسانيّةُ لمعاييرِ العلومِ التجريبيّة؟ فالمعارفُ التي تعتمدُ على المفاهيمِ الكُلًيّة، والعناوينِ الانتزاعيّة، والتأمّلاتِ التحليليّة، هيَ منَ المعارفِ التي يكتسبُها العقلُ عندَما يُحلّقُ في آفاقِ الحياةِ الواسعة، بما لها مِن تاريخٍ عريق، وحضاراتٍ متنوّعة، واجتماعٍ إنسانيٍّ فاعلٍ ومتفاعل، فحصرُ العقلِ وحبسُه بينَ جدرانِ المُختبرِ جريمةٌ في حقِّ العقلِ والعلمِ معاً، وقد اكتشفَ الغربُ بالفعل هذا الخطأ الجسيمَ وبدأت مقارباتٌ جديدةٌ أكثرَ تفهُّماً للدينِ كظاهرةٍ ضروريّةٍ للإنسان، وبخاصّةٍ عندَما تراجعَ المنطقُ الوضعي الذي كادَ أن يهيمنَ على العقلِ الغربيّ، واستقلَّت العلومُ الإنسانيّةُ بوضعيّةٍ معرفيّةٍ خاصّةٍ امتازَت بها عَن العلومِ التجريبيّة، فكانَ له الأثرُ الكبيرُ في حدوثِ نوعٍ منَ التصالحِ بينَ الدينِ والعلم.

وفي المُحصّلةِ نحنُ لا نعترضُ على وجودِ خرافةٍ في بعضِ الطقوسِ الدينيّةِ وبخاصّةٍ عندَ الدياناتِ البدائيّة، ولكنّنا نعترضُ على نسبةِ الشعورِ الدينيّ إلى جهلِ الإنسانِ بالأسبابِ الطبيعيّة، فسبينوزا وغيرُه منَ الفلاسفةِ الذينَ تنكّروا للأديانِ أهملوا الأسئلةَ المصيريّةَ التي يفرضُها العقلُ على الإنسانِ في جميعِ مراحلِه التاريخيّة، ومنَ المؤكّدِ أنَّ تلكَ الأسئلةَ لا يمكنُ الإجابةُ عَنها عبرَ التجاربِ المِخبريّة، وإنّما العقلُ بقُدرتِه الاستنتاجيّةِ والاستنباطيّةِ يمكنُه أن يقاربَ تِلكَ الأسئلة، فحبسُ العقلِ في حدودِ الحسِّ جريمةٌ في حقِّ العقلِ وفي حقِّ الإنسان، فقيمةُ العقلِ في إدراكِ عُمقِ الحياةِ لا في معرفةِ ظاهرِها، وقيمةُ الإنسانِ بأن يعيشَ في ذلكَ العُمقِ لا في ظاهرِ السّطح، والغيبُ ليسَ شيئاً أخرَ غيرَ عُمقِ الحقيقةِ ولبِّ المعنى.

"يقولُ معجمُ (لاروس) للقرنِ العشرين: إنَّ الغريزةَ الدينيّةَ مشتركةٌ بينَ كلِّ الأجناسِ البشريّة، حتّى أشدّها همجيّةً، واقربَها إلى الحياةِ الحيوانيّة.. وإنَّ الاهتمامَ بالمعنى الإلهيّ وبما فوقَ الطبيعةِ هوَ إحدى النزعاتِ العالميّةِ الخالدةِ للإنسانيّة. ويقولُ: إنَّ هذهِ الغريزةَ الدينيّةَ لا تختفي بل لا تضعُف ولا تذبُل، إلّا في فتراتِ الإسرافِ في الحضارةِ وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً منَ الأفراد"

وكتبَ بارتيلمي سانت هيلير: "هذا اللغزُ العظيمُ الذي يستحدثُ عقولنا: ما العالَم؟ ما الإنسانُ؟ مِن أينَ جاء؟ مَن صنعَهما؟ مَن يُدبّرُهما؟ ما هدفُهما؟ كيفَ بدءا؟ كيفَ ينتهيان؟ ما الحياةُ؟ ما الموتُ؟ ما القانونُ الذي يجبُ أن يقودَ عقولَنا أثناءَ عبورِنا في هذهِ الدنيا؟ أيُّ مستقبلٍ ينتظرُنا بعدَ هذهِ الحياة؟ هل يوجدُ شيءٌ بعدَ هذهِ الحياةِ العابرة؟ وما علاقتُنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلةُ لا توجدُ أمّةٌ، ولا شعبٌ، ولا مجتمعٌ، إلّا وضعَ لها حلولاً جيّدةً أو رديئة، مقبولةً أو سخيفة، ثابتةً أو متحوّلة"

ويقولُ: شاشاوان: "مهمَا يكُن تقدّمنا العجيبُ في العصرِ الحاضِر... علميّاً، وصناعيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ومهما يكُن اندفاعُنا في هذهِ الحركةِ العظيمةِ للحياةِ العمليّة، وللجهادِ والتنافسِ في سبيلِ معيشتِنا ومعيشةِ ذوينا، فإنَّ عقلنا في أوقاتِ السكونِ والهدوء – عظاماً كُنّا أو متواضعين، خياراً كنّا أو أشراراً _ يعودُ إلى التأمّلِ في هذهِ المسائلِ الأزليّة: لِما وكيفَ كانَ وجودُنا ووجودُ هذا العالم؟ وإلى التفكيرِ في العللِ الأولى أو الثانية، وفي حقوقِنا وواجباتنا؟"

وبقاءُ تلكَ الأسئلةِ التي يفرضُها العقلُ علينا يؤكّدُ على أنَّ الشعورَ الدينيَّ شعورٌ أصيلٌ في الإنسانِ لا يمكنُ إهمالهُ لمُجرّدِ فرضيّةٍ نظريّةٍ تنسبُ ذلكَ للجهلِ بالأسبابِ الطبيعيّة.