هل في لسان نبي الله موسى عيب؟
هل صحيح ما يقال: إن في لسان النبي موسى (عليه السلام) عقدة وعجمة، تمنعه من الكلام الفصيح والمفهوم؟ وما معنى قوله تعالى: (وأحلل عقدة من لساني)؟
الجواب:
يبدو أن الداعي لهذا السؤال هو ما اشتهر في بعض التفاسير: بأن موسى قد أكل جمرة في صغره فأحدثت له عاهة في لسانه منعته من النطق الواضح والفصيح.
وقد اعتمد هذا التفسير على بعض الروايات المرسلة عند الفريقين سنة وشيعة، وهذه الروايات وإن كان لها صيغ متعددة، إلا أنها تشترك في معنى واحد؛ وهو أن فرعون أراد أن يقتل موسى بعد أن صدر منه أمراً أغضبه، فقالت امرأة فرعون: إنّه غلام حدث، لا يدري ما يقول، ثمّ اقترحت أن يضع أمامه تمر وجمر، ليرى هل يميّز بينهما، فمدّ موسى يده إلى التمر، فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر، فاحترق لسانه.
وقد تمّ التشكيك في هذه الرواية من بعض علماء السنة والشيعة، فالرواية مرسلة من جهة الإسناد، ومن جهة المتن لا تصلح أن تكون مفسرة لقوله تعالى (واحلل عقدة من لساني) وذلك من عدة وجوه:
أولاً: الظاهر من الرواية أنّها تثبت وجود عاهة ونقص في موسى، وهذا خلاف المبدأ العقليّ الحاكم بكمال الأنبياء من كل نقص يوجب القدح فيهم.
ثانياً: عاش موسى قبل بعثته فترة في قومه، كما أنه عاش عشر سنين في مدين، ولا وجود لأي إشارة تؤكد أنه كان يعاني في النطق والتفاهم، ولم يتحدّث موسى (عليه السلام) عن عقدة لسانه إلّا بعد تكليفه بالرسالة، الأمر الذي يقودنا إلى ضرورة النظر لهذه الآية - بعيداً عن هذه الرواية - للوقوف على المقصود من عقدة اللسان التي بدأت مع التكليف بالرسالة.
ثالثاً: قوله تعالى (واحلل عقدة من لساني) لا تدل بالضرورة على وجود عيب في اللسان، سواء كان بسبب خلقي أو بسبب احتراقه بالنار، فعقدة اللسان تحدث في مواقف كثيرة، مثل: الرهبة والدهشة والخشية والخجل أو غير ذلك، وبالتالي ليس هناك ضرورة لتفسير العقدة بوجود عيب عضوي وعاهة يعاني منها اللسان.
رابعاً: طلب إحلال عقدة اللسان يمكن حملها على وجود عيب في السامع، وليس عيباً في اللسان، فالكلام والحديث يختلف بالضرورة من مقام إلى مقام، ومن موضوع إلى موضوع، ومن مخاطب إلى مخاطب آخر، فلكل مقام مقال كما يقال.
وعلى ذلك يكون موسى طلب من الله أن يمكنه من الكلام بالشكل الذي يكون مفهوماً وواضحاً للمخاطبين.
والذي يرجح هذا المعنى: هو أن موسى بيّن علّة طلبه بقوله: (يفقهوا قولي)، فهذه الجملة تفسير لما قبلها، وعليه يكون المراد من حل عقدة اللسان ليس التلكؤ والعسر في النطق، وإنما المراد هو عقدة اللسان بسبب إِدراك وفهم السامع، سواء كان ذلك بسبب طبيعة الموضوع، أو بسبب ثقافة السامع، أو بسبب الحالة النفسية عند الطرفين، أو غير ذلك.
ومثال على ذلك هو أنني أكتب هذه الإجابة وأنا ارجو أن يحلل الله العقدة من لساني حتّى أوفّق في شرح وبيان هذا المعنى وإيصاله على الوجه الصحيح للقارئ.
خامساً: هذه الآية جاءت في سياق دعاء موسى لربّه بعد أن كلفه بالذهاب إلى فرعون، قال تعالى: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).
ودعاء موسى (عليه السلام) بهذه الأمور لا يدلّ على أنّه كان فاقداً لها، فممّا لا شكّ فيه أنّ الله لم يختر موسى لرسالته إلّا بعد أن كان صدره منشرحاً بالإيمان، بل الله هو الذي تكفّل برعايته وتربيته منذ ولادته، قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)، وفي آية أخرى يقول تعالى مخاطباً موسى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)، ويُفهم من ذلك: أنّ الله تعالى هو الذي تكفّل وتدخّل بنفسه لصناعة موسى ورعايته، وهذا يدل على وجود دور خطير وكبير يتمّ إعداد موسى للقيام به في المستقبل، أي: أنّ هناك مهمّة صعبة تنتظر موسى (عليه السلام) تستدعي كلّ هذه العناية والرعاية من الله تعالى.
ولذا ليس من المستغرب أن يستعظم موسى هذه المهمة عندما يُكلّف بها، فبمجرد أنْ كلّفه الله بالذهاب إلى فرعون استشعر خطورة المهمّة، فطلب من الله بأن يعينه على ذلك من خلال شرح صدره وحلّ عقدة لسانه وتأييده بأخيه هارون.
سادساً: هناك علاقة واضحة بين إرسال موسى إلى فرعون وبين طلبه إحلال العقدة من لسانه، ويتّضح السبب في ذلك من خلال آيات أخرى جاء فيها: (وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ)، فهذه الآيات تكشف وبشكل واضح السبب وراء عقدة لسانه، وهي ضيق الصدر، (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي) كما أنّ الآيات تكشف أيضاً السبب في ضيق صدره هو الخوف من تكذيبه، (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي) ثم يضيف سبب أخر وهو (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ).
ويتضح من ذلك أن عقدة اللسان سببها ضيق الصدر وعدم تحمّله لطغيان فرعون وتكذيبه له، ولذا طلب من الله أن يرسل معه هارون ليتحدّث نيابة عنه، ومن هنا يمكننا أيضاً تفسير قوله تعالى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)، فوصف هارون بالفصاحة لا يعني أنّ موسى أقلّ فصاحة منه، وإنّما يعني أنّ هارون أقلّ انفعالاً وتأثّراً باستفزازات فرعون وملائه. والدليل على ذلك: أنّ موسى علّل عدم فصاحته وعقدة لسانه بضيق الصدر (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي)، كما أرجع ضيق الصدر إلى خوفه من التكذيب، (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي)، ومن أجل ذلك طلب من الله أن يرسل معه هارون.
فالعنصر المشترك بين جميع الآيات: هي خوف موسى من التكذيب، فاحتاج إلى هارون ليكون الشاهد على صدقه، وهذا ما صرحت به هذه الآية وهي قوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ).
اترك تعليق