نهج البلاغة وعهد الأشتر عند السيد الخوئي

سؤال: ذكر بعضهم أن عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر (رض) قد طعن به السيد الخوئي في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى، وقال: (إنه لا يثبت في الأحكام الفقهية)، مع أنه في نهج البلاغة، فهل السيد الخوئي لا يصحح الكتاب؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1ـ نهج البلاغة ومصادره:

لقد جاء في المصادر الإسلاميّة – شيعة وسنّة – الكثيرٌ من خُطب أمير المؤمنين (عليه السلام) ورسائله وحِكمه، وقد أحصى المسعوديّ [ت346هـ] ما كان محفوظاً من خطبه (عليه السلام) في زمانه، فقال في [مروج الذهب ج2 ص431]: (والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانون خطبة)، وقال الشريف المرتضى [ت436هـ] – أخو الرضيّ جامع نهج البلاغة -: (وقع إليّ من خطب أمير المؤمنين - عليه السلام - أربعمائة خطبة) [ينظر تذكرة الخواص ص128]، وقال القطب الراونديّ [ت573هـ]: (سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: إني وجدت في مصر مجموعاً من كلام علي - عليه السّلام - في نيف وعشرين مجلداً) [ينظر شرح النهج لابن ميثم ج1 ص101].

وقد تصدّى الشريف الرضي [ت406هـ] لجمع مختارات من تلك الخطب والرسائل والحِكم، وأفردها في كتاب وسمه بـ(نهج البلاغة)، ولم يحط (رضي الله عنه) بجميع كلمات الإمام (عليه السلام)، فقد صرّح في مقدّمة [نهج البلاغة ج1 ص12ـ13]: (فأجمعتُ - بتوفيق الله تعالى - على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكُتب، ثمّ محاسن الحِكم والأدب... ولا أدّعي - مع ذلك - أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه - عليه السلام - حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ ولا يندّ ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، وما عليّ إلّا بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل ورشاد الدليل إن شاء الله).

وقد استدرك عليه جمعٌ من الأعلام ما لم يذكره الشريف الرضي، كـ(مستدرك نهج البلاغة) للعلّامة الميرجهانيّ الأصفهانيّ، و(مستدرك نهج البلاغة) للشيخ هادي كاشف الغطاء، و(نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة) للشيخ محمّد باقر المحموديّ، وغيرها.

وحيث كان غرضَ الشريف الرضي هو جمع مختارات كلامه (عليه السلام) بما فيها من غرائب البلاغة وعجائب الفصاحة ومعارف الإسلام وغيرها، ممّا ورد في مصادر المسلمين المتنوّعة في الحديث والتاريخ والسير والأدب والمواعظ وغيرها، ولم يكن غرضه الجنبة الحديثيّة، لم يذكر أسانيده إلى الخطب والكتب والحِكم، ولا ذكر مصادرها إلّا نادراً.

وقد تصدّى غير واحد من الباحثين للتوصّل إلى مصادر نهج البلاغة ممّا هو متاح وواصل لنا من التراث الإسلامي – إذ لا شكّ أنّ كثيراً من المصادر الإسلاميّة قد تلفت جرّاء الفتن والحروب، أو لا زالت مخطوطة -، واستخرجوا كمّاً هائلاً من المصادر، نذكر من تلك الأعمال: إسناد ومدارك نهج البلاغة لمحمد الدشتيّ، استناد نهج البلاغة لامتياز علي خان العرشيّ، مدارك نهج البلاغة للشيخ هادي كاشف الغطاء، مصادر نهج البلاغة وأسانيده للسيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، وغيرها.

2ـ نهج البلاغة بنظر السيد الخوئي:

يقول السيّد الخوئيّ في [البيان في تفسير القرآن ص77]: (وكفى بالقرآن دليلاً على كونه وحياً إلهيّاً: أنّه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -، الذي يفتخرُ بفهم كلماته كلُّ عالم نحرير، وينهلُ من بحار علمه كلُّ محقّق متبحّر. وهذه خطبه في نهج البلاغة، فإنّه حينما يوجّه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالاً لقائلٍ، حتّى ليخالُ مَن لا معرفة له بسيرته أنّه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المعارف والعلوم متصلة بالوحي، ومقتبسة من أنواره؛ لأنّ مَن يعرف تاريخ جزيرة العرب - ولا سيّما الحجاز - لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت عن غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: « أنّه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين »... إلى آخر كلامه).

وكلام السيّد واضح في مدى اعتبار كتاب نهج البلاغة، فإنّه يرى أنّها تضمّنت معارف عالية جداً، ومثل هذه المعارف لا تكون مأخوذة عن غير منبع الوحي، ويستحسن مَن يقول: « أنّه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين »، فهو يرى اعتبار مضامين الكتاب، وأنّ معانيها الراقية لا تصدر عن غير الإمام (عليه السلام)، فما في النهج ثابت النسبة للإمام (عليه السلام) إجمالاً.

ولكن، حيث يُتشدّد في الأدلّة في البحث الفقهيّ؛ لأنّ كلّ كلمة، بل كلّ حرف يمكن أن يكون له دخالة في عملية استنباط الحكم الشرعيّ، فلا بدّ أن يكون النقل واجداً لجملة من الشرائط؛ لإحراز عدم حصول الكذب أو الاشتباه والخطأ في نقل جملة أو كلمة أو حرف، والشريف الرضي اختار منقولات نهج البلاغة – مع تميّزها بالمعارف العالية وثبوتها في الجملة – دون ذكر أسانيدها وطرقها، وحينئذٍ يكون معتبراً في عمليّة الاستنباط ما أحرز عدم حصول الاشتباه والخطأ فيه، بأن كان منقولاً في مصدر آخر بإسناد معتبر.

3ـ اعتبار عهد الأشتر عند السيد الخوئي:

لقد ذكرنا في جواب سابق: أنّ عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر حينما ولّاه على مصر، من أطول العهود التي كتبها (عليه السلام)، وأجمعها لمحاسن الآداب والسياسة، وهو معروف مشهور عند المسلمين، نقله علماء الشيعة وعلماء السنّة، بطرق عديدة، وبعضها معتبر، ومتنه أصدق شاهد على صحّته، وقد تلقاه الأصحاب القبول خلفاً عن سلف، واستدلّوا بفقرات منه في بعض المسائل الفقهيّة.

ينظر: https://alrasd.net/arabic/4493

وللسيّد الخوئيّ (قدس سره) عبارات عديدة بخصوص اعتبار العهد العلويّ للأشتر، ومدى إمكانيّة الاعتماد عليه في الاستدلال الفقهيّ، وتفاوت هذه العبارات تمثّل تغيّر رأيه الشريف وتجدّد مبانيه الاجتهاديّة مما ينبئ عن تنقيح مستمرّ للمسائل والمباني.

الرأي الأوّل: الإسناد مرسل، ولكن متنه صادق، فيمكن الاستدلال به فقهيّاً:

جاء في تقرير العلّامة التوحيديّ لبحث السيّد الخوئيّ الموسوم بـ[مصباح الفقاهة ج1 ص422]: (لا إشكال في جواز ارتزاق القاضي من بيت المال في الجملة – كما هو المشهور -؛ لأنّ بيت المال مُعدّ لمصالح المسلمين، والقضاء من مهمّاتها، ولِمَا كتبه عليّ أمير المؤمنين – عليه السلام – إلى مالك الأشتر في عهد طويل.. والعهد وإنْ نُقل مرسلاً، إلّا أنّ آثار الصدق منه لائحة، كما لا يخفى للناظر إليه).

وقد جاء في نهاية هذا الجزء من الكتاب: (وكان الفراغ من ذلك صبيحة يوم الثلاثاء 16 ربيع الأول سنة 1373هـ).

فيُلاحظ: أنّ السيّد (قدّس سرّه) في ذلك الوقت يرى أنّ العهد وإنْ نُقل مرسلاً – بناءً على ما جاء في نهج البلاغة –، ولكن متنه شاهد على صدقه، فيمكن الاستدلال به في الفقه، ولذا نجده استدلّ على جواز ارتزاق القاضي بدليلين، ثانيهما العهد العلويّ.

الرأي الثاني: الإسناد مرسل، ومتنه صادق، ولكن لا يمكن الاستدلال به فقهيّاً:

جاء في تقرير الميرزا الغرويّ لبحث السيّد الخوئيّ، الموسوم بـ[التنقيح في شرح العروة ج1 ص430]: (إنّ العهد غير ثابت السند بدليل قابل للاستدلال به في الأحكام الفقهيّة، وإنْ كانت عباراته ظاهرة الصدور عنه – عليه السلام -، إلّا أنّ مثلَ هذا الظهور غيرُ صالح للاعتماد عليه في الفتاوى الفقهية أبداً).

وهذه الأبحاث وإنْ قُرِّضت بتاريخ (22 جمادى الآخرة 1385هـ)، ولكن صرّح السيّد نفسه في [معجم رجال الحديث ج23 ص22] – عند ترجمته لنفسه -: (وشرعت في 27 ربيع الأول سنة 1377هـ في تدريس فروع العروة الوثقى.. مبتدئاً بكتاب الطهارة، حيث كنتُ قد درّستُ الاجتهاد والتقليد سابقاً).

فيُلاحظ: أنّ السيّد (قدّس سرّه) قد تغيّر رأيه ومبناه بخصوص العهد المذكور، والسرّ في ذلك: أنّ العهد وإنْ كانت عباراته ظاهرة الصدور عن المعصوم – عليه السلام -، لكنّ هذا يدلّ على أنّ العهد صادر إجمالاً، ولا يدلّ على أنّ كلّ فقرة فقرة منه حجّة، وبعبارة أخرى: علوّ مضمون العهد يدلّ على صدوره إجمالاً، لا صدور كلّ فقرة بل كلّ كلمة منه حتّى يمكن الاستدلال بها في البحث الفقهيّ.

الرأي الثالث: الإسناد معتبر وليس مرسلاً، فيمكن الاستدلال به فقهيّاً:

وقد جاء التصريح بهذا الرأي في عدّة كتب:

أـ قال السيّد الخوئيّ (قدس سره) في [مباني تكملة المنهاج ج1 ص5]: (وطريق الشيخ إلى عهده – عليه السلام - إلى مالك الأشتر معتبر).

وتاريخ إنهاء تأليف الكتاب كما جاء في آخره: (وكان الفراغ من تسويد هذه الأوراق في شهر رمضان المبارك سنة 1395 هـ).

ب ـ وقال في [معجم رجال الحديث ج4 ص134]: (وطريق الشيخ بالنسبة إلى عهد مالك الأشتر صحيحٌ).

ويُعلم تاريخ تصنيف المعجم، من قوله في [ج23 ص22] – عند ترجمته لنفسه -: (وصلت إلى كتاب الإجارة.. وقد أشرفتُ على إنجازه الآن في شهر صفر سنة 1401 هـ).

ج ـ وجاء في تقرير الجواهريّ لبحث السيّد في [القضاء والشهادات والحدود ج1 ص20]: (ويدلّنا على ما ذكرنا أيضاً ما كتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من عهده لمالك الأشتر، والطريق صحيح...).

وهذا البحث ألقاه السيّد (قدس سره) بعد طبع كتابه [مباني تكملة المنهاج] المتقدّم، وبعد أن تجاوز عمره التسعين – كما صرّح المقرّر في المقدّمة -، قال في آخره - في بداية بحث حدّ السرقة -: (إلى هنا، وترك سماحة السيّد الأستاذ الدرس كلّيّاً).

فيُلاحظ: أنّ السيّد الخوئيّ (قدّس سرّه) قد عدل عن رأيه السابق من إرسال العهد وعدم إمكان الاستدلال به فقهيّاً إلى أنّ إسناده معتبر، ويمكن الاستدلال به فقهيّاً، وهذا ما تبنّاه أخيراً، واستقرّ رأيه عليه. (رضوان الله تعالى عليه).