اعتبار دعاء الندبة
سؤال: هل ثبت أن دعاء الندبة وارد عن الأئمة صلوات الله عليهم بشكل معتبر؟
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ دعاء الندبة من أشهر الأدعية التي يواظب عليها الأصحاب منذ قرون مديدة في الأعياد الأربعة – وهي الغدير والفطر والأضحى والجمعة –، بل اتّخذوها شعاراً لهم، يجدّدون به العهد - في هذه المناسبات والأوقات الشريفة – مع بقية الله الأعظم، الحجّة ابن الحسن (عجل الله فرجه الشريف).
وقد نُقل هذا الدعاء في مصادر قديمة، فأوّل مصدر نُقل عنه – حسب ما وصلنا – هو كتاب (الدعاء) لأبي جعفر البزوفريّ الذي هو من أجلّاء الطائفة وكبارها في القرن الرابع الهجريّ، وهو من مشايخ شيخ الطائفة المفيد، قال الطهرانيّ – عند ذكر هذا الكتاب –: (أورد فيه دعاء الندبة، الذي استخرجه من كتابه هذا محمّد بن أبي قرّة) [الذريعة ج8 ص184]، وابن أبي قرّة كان من ثقات المحدّثين صاحب مؤلّفات كثيرة منها (كتاب عمل يوم الجمعة، كتاب عمل الشهور، كتاب التهجّد)، وقد نقله عنه مباشرة أو بالواسطة جمعٌ من الأعلام؛ المشهديّ والراونديّ في مزاريهما، وابن السكون، والسيّد ابن طاووس في مزاره وإقباله، وابنه في زوائده.
وهذا الدعاء منسوبٌ إلى صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) – وهو في مقام تعليم الشيعة كيفيّة الدعاء والندبة لحجّة الله الأعظم -، ويُنسب في كلمات جمعٍ للإمام الصادق (عليه السلام).
كما أنّ هذا الدعاء محكوم باعتباره من عدّة جهات: إحداها: وثاقة رجاله، وثانيها: استفاضة بنوده ومقاطعه، وثالثها: علوّ مضمونه وقوّته، ورابعها: اشتهاره بل قيام السيرة عليه، وخامسها: مقبوليّته عندهم باستدلالهم بمقاطع منه في الفقه وغيره، مع كثرة أعمالهم العلميّة عليه.
وتفصيل الكلام في ذلك يقع في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: مصادر الدعاء:
أخرج هذا الدعاء جملة من أكابر العلماء، في تصانيفهم المعتبرة، نذكر منها:
1ـ المزار الكبير ص573، للمحدّث الجليل الشيخ محمّد بن جعفر المشهديّ الحائريّ [من أعلام القرن السادس]، فإنّه قال: (الدعاء للندبة: قال محمّد بن أبي قرّة: نقلت من كتاب أبي جعفر محمّد بن الحسين ابن سفيان البزوفريّ - رضي الله عنه - هذا الدعاء، وذكر فيه: أنّه الدعاء لصاحب الزمان - صلوات الله عليه وعجل فرجه وفرجنا به -، ويُستحبّ أن يُدعَى به في الأعياد الأربعة : « الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه واله وسلم تسليما... »، وتدعو بما أحببتَ إن شاء الله).
وقد قال في مقدّمة الكتاب [ص27]: (أمّا بعد، فإنّي قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد المشرّفات، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات... ممّا اتّصلت به من ثقات الرواة إلى السادات).
2ـ مصباح الزائر ص446، للسيّد الجليل رضيّ الدين عليّ ابن طاوس الحليّ [ت664هـ]، فإنّه قال فيه: (ويلحق بهذا الفصل المشار إليه دعاء الندبة... ذكر بعضُ أصحابنا، قال: قال محمّد بن علي بن أبي قرّة: نقلت من كتاب محمّد بن الحسين بن سنان البزوفريّ – رضي الله عنه – دعاء الندبة، وذكر أنّه الدعاء لصاحب الزمان – صلوات الله عليه -، ويُستحبّ أن يُدعى به في الأعياد الأربعة، وهو: « الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمّد نبيّه وآله وسلّم تسليما... »، ثمّ صلِّ صلاة الزيارة – وقد تقدّم وصفها -، ثمّ تدعو بما أحببتَ، فإنّك تُجاب إن شاء الله تعالى).
3ـ إقبال الأعمال ج1 ص504، للسيّد ابن طاوس أيضاً، قال فيه: (دعاء آخر بعد صلاة العيد، ويُدعى به في الأعياد الأربعة: « الحمد لله الذي لا إله هو، وله الحمد رب العالمين، وصلى الله على محمّد نبيه وآله وسلم تسليماً... »).
4ـ المزار القديم، الذي يُنسب إلى قطب الدين الراونديّ [ت573هـ]، وقد نقله منه غير واحدٍ من الأعلام، قال الشيخ عباس القميّ: (اعلم أنّ دعاء الندبة منقول في ثلاث كتب في المزار، الأول: المزار الكبير الذي صنّفه محمّد ابن المشهديّ، والثاني: مصباح الزائر للسيّد ابن طاوس – رحمه الله –، والثالث: المزار القديم، الذي هو ظاهراً من مؤلّفات القطب الراونديّ – رحمه الله –، ونُقل دعاء الندبة في هذه الكتب الثلاثة من كتاب ابن أبي قرّة) [ينظر جمال الأسبوع ص553 حجري].
وقال المحدث الميرزا النوريّ – ما تعريبه –: (قراءة الدعاء المعروف بدعاء الندبة، الذي نقله الشيخ الجليل محمّد ابن المشهديّ، ورضيّ الدين عليّ ابن طاوس، وصاحب المزار القديم، عن الشيخ النبيل محمّد بن علي بن أبي قرّة، الذي نقله من كتاب أبي جعفر محمّد بن الحسين بن سفيان البزوفريّ...) [تحية الزائر ص157].
5ـ زوائد الفوائد (مخطوط) ص241-أ، للسيد الجليل علي بن علي ابن طاوس الحليّ [المولود 647هـ]، فإنّه قال فيه: (دعاء آخر بعد صلاة العيد، ويُدعى به في الأعياد الأربعة: « الحمد لله الذي لا إله إلّا هو، وصلى الله على محمّد نبيّه وآله وسلّم... »).
ونسبه لهذا الكتاب العلّامة المجلسيّ بقوله: (الإقبال وزوائد الفوائد: الدعاء بعد صلاة العيد... أقول: ثمّ ذكر السيّدان دعاءَ الندبة الذي يُدعى به في الأعياد الأربعة، وسيأتي في كتاب المزار، تركنا ذكره هنا حذراً من التكرار) [بحار الأنوار ج88 ص20-28].
6ـ خطّ الفقيه الأديب عليّ ابن السكون (ت600هـ)، فقد حُكي أنّه جاء في بعض نسخ [بحار الأنوار ج99 ص110] – بعد نقل دعاء الندبة من كتاب السيّد ابن طاوس –: (أقول: قال محمّد ابن المشهديّ في المزار الكبير.. وذكر مثلَ ما ذكره السيّد سواء، وأظنّ أنّ السيّد أخذه منه إلّا أنّه لم يذكر الصلاة في آخره. ووجدتُه هكذا أيضاً نقلاً من خطّ عليّ بن السكون – قدس سره -) [ينظر شرح دعاء الندبة ج1 ص159-160].
ونقلها من المتأخّرين عنهم كثير من الأعلام، منهم: العلّامة المجلسيّ في كتبه المتعدّدة: بحار الأنوار ج99 ص104، وتحفة الزائر ص547، وزاد المعاد ص303.
النقطة الثانية: قرائن الانتساب للمعصوم:
نُسب دعاء الندبة في كلمات بعضٍ إلى الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وفي كلمات بعض آخر إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، ويمكن ذكر عدّة قرائن يُستند لها في انتسابها للمعصوم (عليه السلام):
الأولى: الفتوى بالاستحباب:
جاء في المصادر المتقدّمة أنّ الدعاء منقول من كتاب البزوفريّ، وفيه: « ويُستحبّ أن يُدعَى به في الأعياد الأربعة »، وجاء في آخرها كما في المزار الكبير: « وتدعو بما أحببتَ إن شاء الله »، وفي مصباح الزائر: « ثمّ صلِّ صلاة الزيارة – وقد تقدّم وصفها –، ثمّ تدعو بما أحببتَ، فإنّك تُجاب إن شاء الله تعالى ».
أقول: لا يخفى أنّ الاستحباب حكم شرعيّ يجب أن يستند لدليل شرعيّ، كما أنّ التنصيص على صلاة الزيارة بعد دعاء الندبة يحتاج لمسوّغ شرعيّ لأنّه دعاء وقد أُلحق بزيارات الحجّة (عجل الله فرجه) فيؤتى بصلاة الزيارة لذلك. وهذا الحكم بالاستحباب منذ القرن الرابع – باعتبار أنّ البزوفريّ من مشايخ الشيخ المفيد المتوفى سنة 413هـ – يدلّ على أنّ الأصل في هذا الدعاء هو كونها مرويّة عن المعصوم (عليه السلام).
الثانية: الدعاء لصاحب الزمان (عج):
جاء في كلام ابن أبي قرّة – الذي نقله ابن المشهدي وابن طاوس –: « وذكر فيه: أنّه الدعاء لصاحب الزمان »، فإنّ هذه العبارة تحتمل أنّ هذا الدعاء منسوب لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف)، أي أنّه مرويّ عنه، مع احتمال أن يكون المراد أنّ الدعاء يتضمّن ذكر صاحب الزمان (عجل الله فرجه) والدعاء له.
الثالثة: رواية البزوفريّ ينبئ عن الصدور:
إنّ أبا جعفر البزوفريّ – الناقل الدعاء – من مشايخ الطائفة وأجلّائها، وقد نقل الشيخ الطوسيّ في [الغيبة ص187] في حقّه روايةً نقلها العلّامة المجلسيّ في [بحار الأنوار ج51 ص325] وعلّق عليها بقوله: (يظهر منه: أنّ البزوفريّ كان من السفراء، ولم يُنقل، ويمكن أن يكون وصل إليه بتوسّط السفراء أو بدون توسّطهم في خصوص الواقعة). فنقل مثل هذا الشخص هذا الدعاء ممّا عن الصدور عن المعصوم (عليه السلام).
قال الفقيه الشيخ محمّد السند – عند ذكر إسناد الدعاء -: (والبزوفريّ – الذي يروي الدعاء – هو أحد وجوه الحجيّة فيه، فهو يروي عن الشيخ حسين بن روح النوبختي – السفير الثالث للإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف – مباشرة وأحياناً بالواسطة، يعني بطبيعة الحال هو يروي التوقيعات الشريفة الصادرة من الناحية المقدسة، كما يروي السفراء المحمودين بالواسطة، وكلّ علماء الإماميّة يتعاملون مع ما يصدر من السفراء المحمودين معاملة توقيع صادر من الناحية المقدسة، وهذا التعامل هو نفسه مع دعاء الندبة الذي يرويه البزوفريّ، أي يتعاملون معه معاملة التوقيع الصادر من الناحية المقدسة، وهذا هو ديدن علماء الإمامية) [المشروع السياسي للإمام المهدي ص31].
الرابعة: سيرة المتشرّعة على تلاوة الدعاء:
لقد قامت سيرة العلماء والمؤمنين على اعتماد هذا الدعاء منذ القرن الرابع الهجريّ تقريباً، لتربية الأمّة في الأعياد الأربعة – وهي أوقات حسّاسة ومهمّة عند المسلمين – على الدعاء لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، وقد أصبح ظاهرة عباديّة منتشرة. ومثل هذه السيرة الضاربة بالقدم لا تكون بهذه المثابة لو لم يكن هذا الدعاء موروثاً عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). وسيأتي الكلام حول هذه القضية في النقطة الثالثة.
الخامسة: نسبة الدعاء للمعصوم (ع) في كلمات الأعلام:
لقد صرّح كثيرٌ من أكابر العلماء بكون هذا الدعاء مرويّاً عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، وقد نُسب في كلمات جمع منهم للإمام المهدي (عجل الله فرجه) وفي كلمات جمع آخر للإمام الصادق (عليه السلام)، وفي كلمات آخرين دون ذكر اسم الإمام.
1ـ المحدّث الشيخ محمّد المشهديّ، فإنّه ذكر هذا الدعاء في كتابه المزار الكبير، الذي قال في مقدّمته: (أمّا بعد، فإنّي قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد المشرّفات، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات... ممّا اتّصلت به من ثقات الرواة إلى السادات)، وهذا تصريحٌ بأنّ ما يورده في كتبه مرويّ عن الأئمّة السادات (عليهم السلام).
2ـ العلّامة المجلسيّ، فإنّه قال في [زاد المعاد ص303]: (وأمّا دعاء الندبة المشتمل على العقائد الحقّة والتأسّف على غيبته – عجل الله فرجه – فمرويّ بسند معتبر عن الإمام جعفر الصادق – عليه السلام -؛ إذ إنّ قراءته مسنونة في الأعياد الأربعة – أي يوم الجمعة ويوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى ويوم عيد الغدير).
وقد جعله أيضاً في كتابه [تحفة الزائر ص547]، الذي صرّح في مقدّمته بأنّه معقود لذكر الزيارات والأدعية والآداب المرويّة بالأسانيد المعتبرة عن أئمّة الدين (صلوات الله عليهم أجمعين) [تحفة الزائر ص4].
3ـ العلّامة السيّد صدر الدين الطباطبائيّ، فإنّه صرّح في كتابه [شرح دعاء ندبه ص106] قائلاً: (إنّي لمّا رأيت الدعاء الشريف الشهير بدعاء الندبة، المندوب قراءته في الجمعة والعيدين والغدير - كما رُوي عن الإمام الهمام وسيّد الأنام، الفرقان بين الحلال والحرام، القرآن الناطق بالحقائق والأحكام، أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق - عليه السلام - مشتملاً على...).
4ـ قال الشيخ الأعظم الأنصاري: (وقوله - عليه السلام - في أول دعاء الندبة: « بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا ») [كتاب المكاسب ج5 ص21].
وتابعه على ذلك محشّو كتاب المكاسب وشرّاحه من كبار العلماء، ولم يشكّكوا في انتسابه للمعصوم (عليه السلام)، بل تكلّموا في مفاد العبارة ودلالتها، فلو كان في انتسابه تأمّل لتكلّموا فيه، بل ورد منسوباً للمعصوم (عليه السلام) في كلمات جمع منهم، كالمحقّق الرشتيّ في بحث الشروط من [كتاب الإجارة ص16]، والعلّامة المامقانيّ في [غاية الآمال ج3 ص488]، والمحقّق الأصفهانيّ في [حاشية المكاسب القديمة ص10]، والسيّد محمّد صادق الروحانيّ في [منهاج الفقاهة ج5 ص213]، وغيرهم.
5ـ الفاضل المازندرانيّ، فإنّه قال: (ويشهد لهذا المعنى: الأدعية المأثورة عنهم – عليهم السلام -، ففي دعاء الندبة...) [شرح زيارة عاشوراء ص93].
6ـ العلّامة إبراهيم الكاشانيّ، فقد عدّه من الأدعية المنسوبة للحجّة (عجل الله فرجه)، حيث ذكره في كتابه [الصحيفة المهديّة ص75] قائلاً: (وكان من دعائه المعروف بدعاء الندبة..)، وصرّح في مقدّمته قائلاً: (صرفتُ همّي إلى تأليف كتاب محتوٍ على جملة ممّا ورد من التوقيعات الشريفة الأدعية التي كانت منسوبة إليه - عليه السلام -).
7. العلّامة الميرزا محمّد تقي الأصفهانيّ، فقد قال: (ومن الأدعية الشريفة المرويّة في هذا الباب: دعاء الندبة، المروي في زاد المعاد بحذف الإسناد عن سادس الأئمّة الأمجاد، المؤكّد في أربعة أعياد، أعني الجمعة والفطر والأضحى والغدير) [مكيال المكارم ج2 ص86].
وقال أيضاً: (الثالث والثلاثون: رفع الصوت في الدعاء له – عليه السلام -، وخصوصاً في المجالس والمحافل العامّة، فهو إضافة إلى أنّه تعظيم لشعائر الله تعالى، فقد ظهر استحباب ذلك في بعض فقرات دعاء الندبة المرويّ عن الصادق – عليه السلام -) [وظيفة الأنام في زمن غيبة الإمام ص49].
8ـ العلامة الواعظ الچرندابيّ، فقد قال في مستدركاته على أوائل المقالات: (وقد أُشير إلى بعض ما ذكرنا في دعاء الندبة الشريفة، حيث يقول - عليه السلام -: « اللهم لك الحمد على ما جرى به قضائك في أوليائك.. » ) [أوائل المقالات مع التعليقات والمستدركات ص309].
9ـ العلامة الشيخ جواد الكربلائي، فقد قال: (وإليه يشير قوله - عليه السّلام - في دعاء الندبة من قوله : « الذين استخلصتهم لنفسك ودينك.. ) [الأنوار الساطعة ج2 ص160]
10ـ الفقيه الوحيد الخراساني، فقد حُكي أنه قال: (إن معرفة ولي الله الأعظم - عليه السلام - تحتاج إلى أن يشمر خواص العلماء الأتقياء الذين اشتغلوا سنين طويلة في معالجة المسائل الفكرية، ويدرسوا تعابير المعصومين - عليهم السلام - الواردة في الأدعية والزيارات، ويستخرجوا من كنوزها. كم قرأنا هذه العبارة في دعاء الندبة: « بنفسي أنتَ من عقيدِ عزٍّ لا يُسَامَى »؟ لكن مهما فكرنا فيها لوعي معناها لكان قليلاً..) [الحق المبين ص559].
وقال أيضاً: (إن بعض الكلمات الواردة في حقه عليه السلام يصعب فهمها وتصور أعماقها، كالفقرة التي في دعاء الندبة : « بنفسي أنتَ من عقيدِ عزٍّ لا يُسَامَى») [الحق المبين ص608].
11ـ الفقيه الشيخ الصافي، فقد صنّف رسالة خاصّة حول دعاء الندبة، وممّا جاء فيه: (نقول – فيما يتعلق باعتبار دعاء الندبة –: إنّه من حيث السند معتبر، ويبعث على الاطمئنان بصدوره عن المعصوم وإنْ لم يكن مسنداً..) [أنوار الولاية ص28].
النقطة الثالثة: وجوه اعتبار الدعاء:
لا إشكال عند الأعلام في مطلوبيّة تلاوة دعاء الندبة وقراءته؛ لوجوهٍ كثيرة؛ من الاطمئنان بصدوره من جهة الإسناد والمتن والشهرة والعمل، ومن اندراجه في عمومات استحباب الدعاء، واندراجه في عمومات « مَن بلغ ».
وسنذكر في المقام بعض وجوه اعتبار صدور الدعاء مع ذكر بعض كلمات الأعلام:
الأول: اعتبار الإسناد:
قال العلّامة المجلسيّ: (وأمّا دعاء الندبة المشتمل على العقائد الحقّة والتأسّف على غيبته – عجل الله فرجه – فمرويّ بسند معتبر عن الإمام جعفر الصادق – عليه السلام -؛ إذ إنّ قراءته مسنونة في الأعياد الأربعة – أي يوم الجمعة ويوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى ويوم عيد الغدير) [زاد المعاد ص303]. كما ذكره في كتابه [تحفة الزائر ص547] الذي صرّح في مقدّمته بأنّه معقود لذكر الزيارات والأدعية والآداب المرويّة بالأسانيد المعتبرة عن أئمّة الدين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقال الفقيه الشيخ لطف الله الصافي: (نقول – فيما يتعلق باعتبار دعاء الندبة -: إنّه من حيث السند معتبر، ويبعث على الاطمئنان بصدوره عن المعصوم وإنْ لم يكن مسنداً، ولا حاجة به للمزيد من الاعتبار لك نتلوه ونواظب عليه؛ لأنّ السيّد الجليل – إلى أن قال – واستناداً لمجموع ما تقدّم: يُحرَز الاطمئنان باعتبار هذا الدعاء وصدوره عن الإمام – عليه السلام –، خاصّة مع ملاحظة متنه، ويثبت بصورة قطعية استحباب تلاوته بالخصوص، واستناداً إلى الأدلّة العامّة على الأقلّ، فلا يبقى أيّ إشكال في ذلك ولا حاجة حتى للتمسّك بأخبار « من بلغ ») [أنوار الولاية ص28-32].
الثاني: علو المضمون وقوّة المتن:
قال الفقيه الشيخ الصافي: (وتزيد من اعتبار الدعاء: قوّة متنه وألفاظه ومضامينه، وهذا ما يعرفه العارفون باللغة وبأخبار وكلام أهل البيت – عليهم السلام – وبالأدعية الواردة عنهم، كما أنّهم يدركون من خلال ملاحظة ضعف سبك عبارات بعض الأدعية ومضامينها غير السامية عدم صدورها عنهم – عليهم السلام -) [أنوار الولاية ص28].
وقال الفقيه الشيخ السبحاني: (دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه) [مفاهيم القرآن ج10 ص267].
الثالث: استفاضة أو تواتر مقاطعه:
إنّ الملاحظ أنّ مقاطع دعاء الندبة مطابق لما جاء في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فإنّ مقطعه مرويّة في أحاديث أخرى، متواترة أو مستفيضة أو مشهورة. وقد تصدّت مؤسسة الإمام الهادي (عليه السلام) بقم المقدّسة لتوثيق ذلك، وطبع في أكثر من 650 صفحة. وقالت المؤسّسة في المقدّمة: (الهدف من تحقيقنا لهذا الدعاء: هو دراسة عباراته وعرضها على القرآن والأحاديث عن النبيّ – صلى الله عليه وآله – والأئمّة – عليهم السلام – الواردة في الموسوعات والمصادر الروائيّة، وتخريج ألفاظها وعباراتها ومضامينها وإثباتها في مواضعها؛ فإنّ من تمعّن في عبارات هذا الدعاء يرى أنّها مساوقة لمفاهيم القرآن الكريم ومطابقة للسنّة الشريفة، وهذا ما يُؤيّد قوّة مضامينه ويزيد في اعتباره، ويزيل ما قد يُثار من شبهةٍ حول بعض ألفاظه) [دعاء الندبة وتوثيقه من الكتاب والسنة ص16].
وقد ذكر الفقيه الشيخ محمّد السند – عند ذكر وجوه اعتبار دعاء الندبة -: (الوجه الثاني: أنّه متواتر لفظاً، وهذه حقيقة متحققة وإنْ يستغرب البعض منها، وهذا الأمر قامت بالدلالة عليه إحدى المؤسسات العلمية الحوزوية، حيث وجدت بعد التحقيق أن دعاء الندبة موجود بألفاظه وبنوده في جمل وألفاظ وحيانية متواترة لفظاً، أي أن كل جملة فيه أو جملتين معاً يوجد لها نص وحياني، بل إن البعض منها لها وجود وحياني قرآني. فهم لم يكتفوا بالاستفاضة المعنوية، أو التواتر المعنوي، أو اللفظية المعنوية، بل أثبتوا التواتر اللفظي في كلّ بنوده وجمله، وهذه الطريقة هي من خلال الإتيان بألفاظ الدعاء جملة جملة، أو جملتين بمعنى واحد ثم يبحثون في طوائف الروايات الواردة في موارد عديدة فيجدون نفس اللفظ ونفس التركيب والسياق، لكن هذا التواتر يسمى تواتر توليفيّ وهو تواتر حقيقيّ، يعني هو مؤلّف من مجموعة طوائف من الروايات كلّ منها تشكّل وروداً لهذه اللفظة المعيّنة، ومن المجموع يصبح عندنا تواتر لفظيّ حسب هذه الضابطة) [المشروع السياسي للإمام المهدي ص27-28].
الرابع: اشتهار الدعاء بين الأصحاب بل قيام سيرتهم على تلاوته:
قال الفقيه الشيخ الصافي: (وعليه يمكن الحدس بأن تلاوة هذا الدعاء كانت متداولة ومتعارفة بين الشيعة في العصور القريبة من عصر الأئمة – عليهم السلام -، وفي عصر الغيبة أيضاً كما هو الحال في عصرنا، وقد انتقلت هذه السنّة من يدٍ لأخرى وإلى الأخلاف من الأسلاف في حضور المحدّثين ومشايخ تلك العصور المتبحّرين جميعاً في علم الحديث وأساتذة هذا الفنّ والذين كانوا يشددون في المنع من قراءة الأدعية غير المسندة والأساليب غير المعتمدة، ورغم ذلك لم يعترض أحد منهم على اعتبار الدعاء المذكور) [أنوار الولاية ص31].
وقال الفقيه الشيخ السند: (سيرة العلماء والمؤمنين على اعتماده، حيث دأب العلماء الأوائل منذ القرن الرابع تقريباً على تربية الأمّة وفي أوقات مهمّة وحسّاسة في الأعياد وأيّام الجمع تربية عقائدية وإيمانيّة وتحويلها إلى شعيرة، وهي الاستمرار على دعاء الندبة، والدعاء به لصاحب العصر والزمان – عجل الله فرجه الشريف – منذ بداية عصر الغيبة الكبرى، وأصبح ظاهرة عباديّة منتشرة، ومن طقوس ومعالم الإيمان، وسيرة علماء الإماميّة فيه تربية المؤمنين على تعهّده والاستمرار في التمسّك به) [المشروع السياسي للإمام المهدي ص26].
وقال الشيخ حسين الكورانيّ: (دعاء الندبة: وهو مذكور في مختلف كتب الأدعية... وقد جرت سيرة العلماء الأبرار على قراءته، ومضامينه في غاية الأهمية) [آداب عصر الغيبة ص66].
وقال الفقيه الميرزا التبريزي: (ويدلُّ على ذلك جملة من الأدلة منها ما ورد في حقهم في دعاء الندبة المعروف المشهور، والله العالم) [الأنوار الإلهية ص115]
الخامس: مقبوليّة الدعاء عند الأصحاب:
لا يخفى أنّ هذا الدعاء من الأدعية التي تلقت القبول لدى كبار أعلام الطائفة فضلاً عن بقيتهم، وتجدهم يستدلّون بفقرات منها في أبحاثهم العقائديّة والفقهيّة والمعرفيّة والحديثيّة وغيرها، ولا نجدهم يتأمّلون أو يقفون عندها، بل يرسلونها إرسال المسلّمات، بل حتّى الذين يتوقّفون عند كلّ خبر من الأخبار في البحث الفقهيّ لا نجدهم يقفون عند إسنادها، بل يناقشون في الدلالة والمعنى، مع أنّ البحث الدلاليّ يكون في رتبة متأخّرة عن البحث الصدوريّ.
ولنذكر نموذج واحد في المقام، وهو أنّ الشيخ الأنصاريّ استدلّ بمقطع من الدعاء في بحث الشروط – الذي يعدّ من أهم المباحث في فقه المعاملات –، ومن ثَمَّ جاء الأعلام من بعده وتكلّموا في مفاده ودلالته طاوين مرحلة البحث السنديّ، فلاحظ: ما قاله الشيخ الأنصاري في [كتاب المكاسب ج5 ص21]، والعلامة المامقاني في [غاية الآمال ج3 ص488]، والمحقق الرشتي كما في تقريرات السيد الخلخالي لدرسه الموسوم بـ[فقه الإمامية ص21]، وفي [كتاب الإجارة ص16]، والميرزا الإيرواني في [حاشية المكاسب ج2 ص5]، والمحقق الأصفهاني في [حاشية المكاسب ج5 ص106]، وفي [حاشية المكاسب القديمة ص10]، والسيد روح الله الخميني كما في تقريرات الشيخ القديري لبحثه في [كتاب البيع ص46]، والسيد مصطفى الخميني في [كتاب البيع ج1 ص66]، والميرزا التبريزي في [إرشاد الطالب ج4 ص30]، والسيد محمد صادق الروحاني في [منهاج الفقاهة ج5 ص213]، والوحيد الخراساني في [العقد النضيد ج9 ص90]، وغيرهم كثيرون.
وقد نبّه على هذه النقطة بعض الأعلام بقوله: (بل إنّ الشيخ الأنصاري – رحمه الله – محقّق وأستاذ الفقهاء، يستدلّ على بحث حساس ومعقد في الخيارات في بحث الشروط – وهو بحث مفصلي في كل العقود والإيقاعات في معنى الشرط، وهو أنه يشمل الشرط الابتدائي أو غيره – بمقطع من متن دعاء الندبة... ويرسله هكذا إرسال المسلمات. وهكذا المرحوم الأصفهاني وكذلك السيد الخوئي – رحمة الله عليهما -. فسيرة علماء الإمامية في الاستدلال بدعاء الندبة شيء مركوز لديهم، وليس فقط سيرة عملية بل فتوائية أيضاً) [المشروع السياسي للإمام المهدي ص26].
وممّا ينبئ عن شدّة اهتمام الطائفة بهذا الدعاء: كثرة أعمالهم العلميّة عليه؛ شرحاً وتوضيحاً وترجمةً ودفاعاً، نذكر منها:
1ـ عقد الجمان لندبة صاحب الزمان: للميرزا عبد الرحيم بن نصر الله الكليبري التبريزي (ت1334هـ). [الذريعة ج18 ص55]. [الذريعة ج13 ص260].
2ـ شرح دعاء الندبة: للمولى حسين التربتي. [الذريعة ج13 ص260].
3ـ النخبة في شرح دعاء الندبة: للسيد محمود بن سلطان علي التستري المرعشي. (ت1355هـ) [الذريعة ج13 ص260، ج24 ص98].
4ـ وسيلة القربة في شرح دعاء الندبة: للمولى علي بن علي رضا الخوئيّ (ت1350هـ). [الذريعة ج25 ص82]. وقد ترجمه السيّد الأرمويّ إلى اللغة الفارسيّة. [الذريعة ج26 ص206].
5ـ ترجمة دعاء الندبة: للمولى رفيع الجيلاني، فرغ منه سنة 1123هـ، بالفارسية بين السطور، وعليه تعليقات كثيرة وبيانات فارسية لما يحتاج إلى البيان. [الذريعة ج26 ص197].
6ـ شرح دعاء الندبة: للسيد صدر الدين محمد الطباطبائي اليزدي (ت1154).
7ـ كشف الكربة في شرح دعاء الندبة: للسيد جلال الدين المحدث للأرموي، وهو نتيجة جهد ستين سنة، ويُسمّى بأسماء عديدة [الذريعة ج13 ص260، ج18 ص400].
8ـ أنوار الولاية، مناقشة للشبهات المثارة حول دعاء الندبة: للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكانيّ.
9ـ دعاء الندبة فوق الشبهات: للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، إعداد وتحقيق الشيخ محمد رضا الفردان.
10ـ الدفاع عن دعاء الندبة: للمحقق محمد تقي التستري، كتبه ردا على الدكتور علي شريعتي.
11ـ سند دعاء الندبة: للسيد ياسين الموسوي.
12ـ شرح دعاء الندبة: لكاظم المراد خاني [بحار الأنوار في تفسير المأثور للقرآن ج1 ص8 المقدمة]
13ـ المشروع السياسي للإمام المهدي (عج): للشيخ محمد السند، وهو قراءة في الأبعاد العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية لدعاء الندبة.
الحاصل:
1ـ قامت سيرة الشيعة على تلاوة دعاء الندبة في الأعياد الأربعة منذ قرون كثيرة، لتجديد العهد مع بقيّة الله الأعظم.
2ـ نُقل الدعاء في مصادر موثوقة، كـ(الدعاء) للبزوفريّ، وكتاب ابن أبي قرّة، ومن ثمّ المزار الكبير للمشهديّ، والمزار القديم للراونديّ، ومصباح الزائر وإقبال الأعمال لابن طاوس، وزوائد الفوائد لولده.
3ـ الأصحاب تعاملوا مع الدعاء على أنّه صادر عن المعصوم (عليه السلام)؛ لقوّة رجاله، وعلوّ مضمونه، وقيام السيرة عليه.
4ـ الدعاء محكوم بالاعتبار عند الأصحاب؛ لوثاقة رجاله وجلالتهم، واستفاضة مقاطعه وبنوده، وعلوّ مضمونه وقوّته، واشتهاره بل قيام السيرة عليه، ومقبوليّته عندهم باستدلالهم به في الفقه وغيره، مع كثرة أعمالهم العلميّة عليه.
اترك تعليق