هل الدين هو مصدر الأخلاق الوحيد؟

سؤال: أقدم الشرائع والأحكام البشرية سبقت الأديان (السماويّة)، أو كانت في نفس الفترة لكن في أماكن أخرى بعيدة عن بني إسرائيل، هي ليست مستمدة من الأديان (السماوية)، مثلاً: حضارة المصريّين (قبل موسى)، حمورابي (1800 ق.م)، زرادشت (1500 ق.م)، حضارة مملكة سبأ (1200 ق.م)، بوذا (560 ق.م)، كونفسيوش (550 ق.م)، أفلاطون والاغريق (427 ق.م)... الخ. كلّ هؤلاء لم تذكرهم الكتب (السماويّة) الثلاثة على أنّهم أنبياء ولا رسل، ولا أنّ شرائعهم (سماويّة)، كما لم يقل بذلك أي عالم مسلم. ومعلوم أنّ هذه الحضارات كانت على درجة عالية من التطور والسمو كما يزعم بعض الباحثين! إذن: الأخلاق مصدرها ليس الدين فقط، وممكن للبشر أن يكونوا أخلاقيّين بدونه؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

اختلط على كثير من الباحثين الخلاف حول مصدر الأخلاق بين المتديّنين وبين مخالفيهم من الملحدين واللادينين، حيث تصوّر هؤلاء بأنّ المتديّنين يدّعون بأنّ الاخلاق مصدرها الدين، وبدونه لا يكون هناك أخلاق. ومن هنا عملوا على إيجاد نماذج أخلاقيّة من مجتمعات غير دينيّة!

وهذا خلط غير مبرّر؛ لأنّ محلّ النزاع والاختلاف هو حول وجود جانب روحيّ في الإنسان غير جانبه الماديّ، وبذلك الجانب الروحيّ يتفهّم الإنسان الأخلاق، وليس بجانبه الماديّ العنصريّ والأنانيّ، وحالة التسامي والتجاوز التي يمتلكها الإنسان لا يمكن فهمها إلّا من خلال فهم الروح التي تسعى للارتباط بالمطلق، فلو أهملنا هذه الروح ولم نعترف بوجودها، كيف يمكن بعد ذلك فهم هذه القيم الأخلاقيّة؟

وما يحاول الإلحاد تقديمه من مبرّر ماديّ للأخلاق، ليس إلّا محاولة ساذجة في نظر المؤمنين بوجود قوّة مطلقة تتصف بكلّ صفات الجمال، وروح الإنسان هي الوحيدة القادرة على الاتّصال بتلك القوّة والاقتراب منها عبر تمثّلها بتلك الصفات.

ومن هنا، فإنّ الكلام محصور حول تفسير حقيقة موضوعيّة موجودة يسلّم بها المؤمن والملحد، وهي تلك القيم الأخلاقيّة، والخلاف في تفسير هذه القيم ومصدر وجودها، هل هي الروح الواعية التي فطرها الله على تلك القيم وزيّنها بها؟ أم هي المادة العمياء البلهاء؟

ومن جهة أخرى، فإنّ الاكتفاء برصد هذه القيم الأخلاقيّة من واقع الحياة الاجتماعيّة، يتضمّن اعترافاً بوجود بُعدٍ غير ماديّ يتطلّع له الاجتماع الإنسانيّ؛ لبداهة وجود هذه القيم الأخلاقيّة عند الإنسان والمجتمع، ولبداهة كونها غير ماديّة، وهذا ما لا يمكن أن ينسجم مع التفكير الإلحاديّ.

وعليه، فإنّ الإجابة المختصرة على هذا السؤال: هو أنّ الإنسان كائن أخلاقيّ، بمعنى أنّ الله خلقه وفطره على منظومة من القيم الأخلاقيّة، والإنسان يدرك هذه القيم بواقع فطرته ووجدانه، وفي قبال هذه الفطرة التي تشدّ الإنسان إلى التكامل الأخلاقيّ هناك غرائز ودوافع ماديّة تشدّ الإنسان في الاتّجاه المعاكس، وفلسفة الأديان هي تذكير الإنسان وتنبيهه بهذه القيم الأخلاقيّة حتّى لا ينجرف بعيداً مع الغرائز الماديّة.

ولكي نوضّح ذلك لابدّ من تقديم شرح مبسّط لفلسفة الأديان:

وما نحبّ التأكيد عليه هنا: هو أنّ الإنسان عندما يكون بينه وبين نفسه يختلف عن الإنسان عندما يكون بينه وبين الآخر، ومن هذه الزاوية يمكننا التأكيد على أهميّة الأديان ليس لكونها تخاطب عقل الإنسان فحسب، وإنّما لكونها تخاطب ضمير الإنسان، وتحمّله المسؤوليّة الشخصيّة في كسب معارفه وإيمانيّاته واعتقاداته.

فالإنسان حقيقة واضحة وضوح الذات للذات {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}، وفي الوقت نفسه يمتلك قدرة عالية على التمويه، وبخاصّة في قبال الآخر {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، فمع أنّه واضح لدى نفسه لكنّه يموّه الحقيقة في قبال الآخر بسرد التبريرات والمعاذير، فهناك جانب واضح وآخر غامض، أمّا الأوّل: فعندما يقف الإنسان أمام نفسه، وأمّا الثاني: فعندما يقف أمام الاخرين، فإنّه يزداد غموضاً وتلوناً، {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .

وإذا كانت الديانات هي رسالة من الخالق للمخلوق، حينها تكون الأديان هي الإطار الأنسب للإنسان، بل لا غنى للإنسان عن الأديان؛ لكونها القادرة على مناجاة الإنسان من الداخل، وتحريكه من الباطن ليجد الإنسان ذاته، فيحقّق الانسجام مع نفسه والتكامل مع محيطه.

ومع أنّ إنسانيّة الإنسان تتجلّى في ارتباطه مع الآخر، إلّا أنّ ذلك يبدأ من الصلاح على مستوى الذات حتّى ينعكس صلاحاً على مستوى الجماعة، فعندما يقف الإنسان وجهاً لوجه مع ذاته يكون هو المسؤول عن إنسانيّته، والدين ليس إلّا تنبيهاً للإنسان النائم في أعماق الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}، والظلم والجهل هما اللذان يضيّعان هذه الأمانة، فالله خلق كلّ شيء في الوجود بالشكل الذي لا يكتسب معه كمالاً آخر، فالسماء سماء، والأرض أرض، وكذلك النبات والحيوان، أمّا الانسان فقد أوكل الله له إكمال ذاته وفتح أمامه الطريق وهيّأ له الأسباب، وهذه أمانة الله للإنسان وهي أن يكون مسؤولاً عن بناء نفسه وصناعة ذاته، فإمّا أن يكون إنساناً وإمّا يكون حيواناً، فالله لم يخلق الإنسان إنساناً بالشكل الذي خلق به الحيوان حيواناً، وإنّما جعل له الخيار، فإمّا أن يكون {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}، وإمّا أن يكون {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} .

ففلسفة الأديان هي تشجيع الإنسان على أن يكون إنساناً بعقله وإرادته، وما فطر عليه من قيم كمال وجمال، وليس حيواناً بغريزته وشهواته وأنانيّاته، وهكذا يكون يوم الجزاء في الآخرة، فمَن أصبح إنساناً في الدنيا بعث إنساناً في الآخرة وكان نصيبه الجنّة، ومَن عاش في الدنيا كالأنعام بعث كما كان، يقول تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.

فالأديان شيء آخر يمتاز عن معارف البشر ومناهجهم وقوانينهم وتنظيماتهم، ليس لأنّ الأديان بخلاف ذلك، وإنّما لكونها تجعل ذلك كلّه مسؤوليّة الإنسان بوصفه إنسان، والأديان هي التي تصنع الإنسان الذي يصنع كلّ ذلك، فسلطة الضمير والوجدان هي المحكمة الخاصّة بكلّ إنسان، فحتّى لو جحد بالحقّ ظاهراً لا يمكنه ذلك داخلاً {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}.

ووضوح الإنسان لدى نفسه لا يكون مجدياً ما لم يكن هناك إله يعلم بحقيقة حاله، وكذلك لا يكون مجدياً وجود إله بدون إقامة محكمة كبرى تنكشف فيها البواطن والسرائر، وهذا ليس شيئاً آخر غير الدين، وهو الإيمان بالله والإيمان بحكمه العادل يوم القيامة، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}، فشهادة الله على بواطن الإنسان، وإيمان الإنسان بوجود هذا الشاهد، يشكّلان معادلة التديّن في داخل الإنسان، ومَن يحاول خداع الله فهو لا يخدع في الواقع إلّا نفسه، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ}.

وعليه، فإنّ الإنسان بقدر وضوحه في مخبره، غامض في مظهره، ولا يعرف مرض القلوب إلّا الله خالق الإنسان، وبالتالي لا تستقيم للإنسان حياة في هذه الدنيا، ولا يكون لوجوده حِكمة، ما لم يكن هناك إلهاً عالماً بحاله، ومحاسباً له على أعماله، يرشده إلى ما فيه خيره وصلاحه، ويحذّره ممّا فيه هلاكه، ثمّ يكون إلى الله مرجع العباد جميعاً ليحكم بينهم بالعدل.

وفي مقابل هذا الوضوح الذي تبتني عليه معادلة الأديان، يزداد المشهد غموضاً عند منكري الأديان، فكيف نتلمّس الحِكمة من وجود الإنسان، وهو قد جاء إلى الوجود من حيث لا يدري؟ ثمّ يمضي عنه ويغادره إلى حيث لا يدري أيضاً، وما بين البداية والنهاية يعيش صراعاً مريراً من أجل الحياة، فمنهم مَن ابتسمت له الدنيا، ومنهم من أدبرت عنه وتولّت، وكلّ ذلك والإنسان لا يدري لماذا جاء إلى هذه الحياة؟ ولماذا يمضي ويتركها؟ فيعيش فيها ظالماً أو مظلوماً، حاكماً أو محكوماً، فقيراً أو غنيّاً، مريضاً أو معافى، ثمّ يغادر الجميع منها إلى وجهة واحدة، وإلى مصير مشترك، حيث لا حياة بعدها ولا رجعة، فإذا كان قدومه مجهولاً وذهابه مجهولاً لابدّ أن يكون ما بينهما مجهولاً أيضاً، فهل يعدّ كلّ ذلك الجهل فلسفة في قبال الأديان؟