ما رأي الشرع بعقيدة تجسّم الأعمال يوم القيامة؟

السؤال: ممكن معرفة رأي الشرع بعقيدة تجسّم الأعمال في يوم القيامة.. اذْ يقول البعض: إنّها فكرة فيثاغورثيّة مأخوذة عن اليونان والهنود؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

تجسّم الأعمال أو تجسّدها من المباحث المثارة بين علماء الكلام والفلسفة، وهو من المسائل التي تتفرّع من بحث عقيدة المعاد والجزاء يوم القيامة، والمقصود من تجسّم الأعمال هو تحوّل ما يعمله الإنسان في الدنيا من خير أو شرٍّ إلى صور حسيّة يوم القيامة، فمثلاً يتحوّل عمله الصالح في صورة شابٍّ جميل ذو مظهر حسن، أو يتحوّل عمله الفاسد إلى صور من النيران والسلاسل والأغلال وغير ذلك، يقول الشيخ السبحانيّ في كتابه مفاهيم القرآن الكريم: "إنّ تجسّم الأعمال بمعنى: أنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان سواء كان حسناً أو سيّئاً، له صورتان: الأولى: دنيويّة، والثانية: أُخرويّة، وتكمن هاتان الصورتان في جوف وداخل العمل، وفي يوم الحشر وبعد التحوّلات والتطوّرات التي تحصل فيها، فإنّ العمل يترك صورته الدنيويّة ويتجلّى ويتمثّل، ويظهر في صورته الأخرويّة الواقعيّة، وبها ينعم الإنسان ويتلذّذ، أو يخسر ويتأذّى" (مفاهيم القرآن، ج 8، ص 330).

وقد استدلّ بعض العلماء على هذا الاعتقاد بظواهر بعض النصوص القرآنيّة مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾[الزلزلة 6]. فالقائلين بتجسّد الأعمال فسّروا الرؤية (برؤية نفس الأعمال)، واستبعدوا أن يكون المقصود هو رؤية ما يقدّر من جزاء لأعمالهم، يقول الشيخ البهائيّ: "إنّ الحيّات والعقارب التي وعدت في البرزخ هي نفس الأعمال والعقائد والأخلاق المذمومة والسيّئة، حيث تظهر بهذه الصورة، كما أنّ الحور والريحان وما شابه ذلك هي: نفس الأخلاق والأعمال والاعتقادات الصالحة والحسنة" (السبحاني، مفاهيم القرآن، ج 8، ص 341).

ومن الآيات أيضاً قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران 30]

فقد يستفاد من هذه الآية أنّ كلّ ما يفعله الإنسان المكلّف في هذه الدنيا محفوظ بصورته الباطنيّة وحقيقته العينيّة، وإنْ كان ذلك محجوباً عن المكلّف في الدنيا إلّا أنّه مكشوف له في عالم البرزخ ويوم القيامة، والذي يؤكّد ذلك، قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(الكهرف49) ، أيْ وجدوا ما عملوه في الدنيا حاضراً يوم القيامة، فكلُّ عمل يقوم به الإنسان خيراً كان أم شرّاً يجده بنفسه حاضراً أمامه ويراه بعينه، وبذلك تقام الحجّة بالكامل على العبد ولا يظلم ربّك أحداً، فكلّما يجزأ به العبد يوم القيام هو عين ما فعله بنسفه في الدنيا.

يقول السيّد محمّد حسين الحسنيّ الطهرانيّ في كتابه معرفة المعاد: "لذا لا يمكن للإنسان الاحتجاج على ربّه يوم القيامة، بل للّه الحجّة البالغة دوماً على الإنسان، لأنّ الإنسان يرى نفس عمله، و يرى الجنّة وجهنّم عين سلوكه وفعله وقد تجلّى في صورة ملكوتيّة: ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وحين يرى الإنسان أنّ وقود جهنّم هو نفس مدركات قلبه و نواياه الباطنة ويرى أنّ الجنّة والحور العين ورضوانٌ من الله أكبر هي نفس مفرزات ذهنه وخلوصه وإخلاصه؛ فأيّ حجّة سيمكنه -من ثمّ- إقامتها عند ربّه؟! وكيف ستكون له الحجّة على ربّه؟" (معرفة المعاد ص 138)

وهناك الكثير من الآيات القرآنيّة التي تدلُّ بحسب الظاهر على تجسّم الأعمال يوم القيامة.

ومع ذلك لا يمكننا القول: إنّ هناك آية قرآنيّة نصّت بشكل صريح وقطعيّ على هذه العقيدة، والدليل على ذلك اختلاف المفسّرين وعلماء الكلام في دلالة جميع الآيات التي تمّ الاحتجاج بها على تجسّم الأعمال يوم القيامة، فمثلاً فسّر المنكرين لتجسّم الأعمال الرؤية في قوله تعالى: ﴿..لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ..﴾ برؤية كتاب الأعمال وليس نفس الأعمال، أيْ يروا أعمالهم التي كتبت وسجّلت في كتاب أعمالهم، وقد ذهب كلٌّ من الفخر الرازيّ والشيخ الطبرسيّ إلى هذا الرأي، وقالوا: إنّ الأعمال أعراضٌ، والأعراض لا تبقى ولا يمكن إعادتها، وإنّ الرأي القائل برؤية الأعمال غير صحيح.

أما من جهة الأحاديث الدالّة على تجسّد أو تجسّم الأعمال فهي كثيرة في هذا الباب، ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "من صلّى الصلوات المفروضات في أوّل وقتها وأقام حدودها رفعها المَلَك إلى السماء بيضاء نقيّة وهي تهتف به تقول: حفظك الله كما حفظتني، واستودعك الله كما استودعتني مَلَكاً كريماً، ومن صلّاها بعد وقتها من غير عّلة فلم يقم حدودها رفعها الملَك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيّعتني، ضيعك الله كما ضيّعتني ولا رعاك الله كما لم ترعني" (الوسائل كتاب الصلاة أبواب المواقيت باب 3 ح 4688).

وقد دلّت هذه الرواية على أنّ الصلاة لها صورة باطنيّة تتحدّث مع من يقيمها بحدودها وفي وقتها، ومع من لا يقيمها بحدودها وفي غير وقتها، وهو مـمّا يدلُّ على أنّ لها صورة حقيقيّة في الباطن غير الصورة الخارجيّة التي يمارسها المصلّي.

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : "إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره، والبرّ مُطِلٌ عليه، ويتنحّى الصبر ناحية، قال: فإذا دخل عليه الملكان اللّذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم ، فإن عجزتم عنه فأنا دونه" (بحار الأنوار ج 6 ص 230).

والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جداً، وكلّها ظاهره في أنّ الإنسان يجد ما يفعله من خير أو شرّ بنفسه حاضراً في البرزخ أو يوم القيامة، ففي الرواية عن قيس بن عاصم قال: وفدت مع جماعة من بني تميم على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت: يا نبيّ الله عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم نعبر في البريّة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا قيس إنّ مع العز ذلّاً، وّإنّ مع الحياة موتاً وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلِّ شيء حسيباً، وإنّ لكلّ أجل كتاباً، وإنّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، ولا تحشر إّلا معه، ولا تسأل إلّا عنه، فلا تجعله إّلا صالحا، فإنّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك ....." (البحار ج 7 ص 228).

وفي المحصّلة يمكننا القول: إنّ عقيدة تجسّد الأعمال تستمد جذورها من ظواهر النصوص الدينيّة، ولا علاقة لها بفيثاغورس أو غيره من فلاسفة اليونان حتّى وإن استعان بعض الفلاسفة والمتكلّمين ببعض المبادئ اليونانيّة، فمن يعتقد بها من المسلمين يكون قد وافق ظواهر النصوص، ومن لم يعتقد بها لعدم تماميّة الأدلّة في نظره لا إشكال عليه. والله العالم.