اتّهام المحقّق النراقي بتجويزه النظر إلى المحارم بشهوة وتلذّذ..!.

السؤال: (قال المحقّق النراقي في مستند الشيعة:ج16،ص66 : " ولا بأس بالنظر إلى شعر المحارم وغير البالغة والذمّية منفصلة ولو بالتلذذ. لعدم دليل على المنع ، مع أن التلذذ منه غالباً ليس لأجل الشعر خاصة..!" ، علّامة الشيعة النراقي: يُجَوِّزُ للذكر الشيعي أن ينظر لمحارمه بتلذذ وشهوة!!! لعدم وجود دليل على المنع..!.)

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد.. فمع أنّ السؤال يرتبط بالجنبة الفقهية لا العقائدية ، لكنّنا سنضطر للردّ على ما ذكره السائل من الافتراء ؛ حتّى لا يتوهَّم البعض صحّة ما جاء فيه وتغافلنا عنه ، وسيكون الردّ من خلال بيان ثلاثة أمور:

الأمر الأوّل: في ما ينبغي للمسلمين معرفته من الفرق بين كتب الفتاوى من جهة ، وكتب الفقه الاستدلالي من جهة أخرى فإنّ كتب الفتاوى وضعت للتقليد ومعرفة رأي المجتهد والعمل به ، بخلافه في كتب الفقه الاستدلالي فليس للمقلّدين الرجوع إليها والأخذ عنها ؛ لأنّها لا تمثّل رأي صاحبها بالضرورة ، بل هي كتب وضعت لمناقشة الأدلّة واستعراضها وكيفية التعامل معها وما الذي يمكن استفادته أو عدم استفادته من هذا الدليل أو ذاك ؛ ولذا نجد الفقيه الواحد له عدة كتب استدلالية ، وفي كلّ كتاب منها له رأي يخالف ما قاله في الكتب الباقية منها ، فمثلاً للعلّامة الحلّي عدّة كتب استدلاليّة: كالقواعد، والتذكرة، والتحرير، والإرشاد، ومختلف الشيعة، وغيرها حتى وصلت كتبه تلك إلى 22 كتاباً ، ومثله الشهيد الأوّل، فله اللمعة الدمشقية، والذكرى، والألفية، والقواعد والفوائد ..إلخ ، وفي عصرنا الراهن نجد أنّ للسيد الخوئي مثلاً كتاب "منهاج الصالحين"، وله كتاب "مباني المنهاج" ، مصباح الفقاهة ، وفقه الشيعة ، فالأوّل يمثّل رسالته العملية وفتاواه لمقلّديه ، أمّا البواقي فهي كتب استدلاليّة لا يتداولها إلّا العلماء وذوو الاختصاص من طلبة الحوزات العلميّة ؛ لأنّها وُضِعَت لاستعراض المهارات الفقهية للفقيه (أي من خلالها فقط وفقط يثبت اجتهاده وقدرته على الاستنباط) ؛ ولولا هذه الكتب لأمكن لكلّ شخص أن يستنسخ منهاج الصالحين ويدّعي الفقاهة..!. على أنّ الفرق بين كتب الاستدلال وكتب الإفتاء هو أمر ثابت عند جميع المذاهب الإسلامية.[انظر مقالة د. سعد الكبيسي على الرابط: https://2u.pw/q7vrKfVA ، وأيضاً مقالة دار الإفتاء المصرية على الرابط: https://2u.pw/wsfONAad ]

هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ الفقيه في سعة كاملة من الكلام في كتب الاستدلال، فله أن يقول ما يشاء ويستدلّ كيف يشاء ما دام ذلك مطابقاً لموازين الاجتهاد وقواعد الاستنباط؛ إذ قد عرفت أنّ كتب الفقه الاستدلالي موضوعة للنقاش العلمي لا لعمل المقلّدين، بخلافه في مرحلة الفتوى فقد يضطرّ الفقيه إلى مخالفة جميع ما قاله في تلك الكتب، فيتّخذ طريق الاحتياط أو يعمل بحاكميّة العناوين الثانويّة على العناوين الأوّليّة - وهذا أمر يعرفه طلبة العلوم الدينيّة - ؛ ولذا نجد الرسائل العلميّة مليئة بالاحتياطات، سواء كانت على هيأة فتوى بالاحتياط، أي لا تجوز مخالفتها ولا الرجوع فيها إلى مجتهد آخر، أو كانت احتياطاً وجوبيّاً يجوز للمقلّد الرجوع فيه إلى مجتهد آخر مع مراعاة الأعلم فالأعلم، أو استحبابياً فتجوز مخالفته بلا محذور.

فإذا اتّضح لك جميع ذلك فقد قيل: "إنّ الكتاب يقرأ من عنوانه" ، أي - غالباً - يمكن معرفة موضوعه من خلال عنوانه، ومن الواضح أنّ عنوان (متسند الشيعة) يدلّ على كونه كتاباً استدلاليّاً موضوعاً للبحث الفقهي ومناقشة الأدلّة التي يستند إليها فقهاء الشيعة في استنباط الأحكام ، وليس كتاباً للفتوى حتّى يقال:(علّامة الشيعة النراقي: يُجَوِّزُ للذكر ..إلخ).

والذي يشهد بأنّه كتاب فقه استدلالي وليس كتاب فتوى هو عبارة المؤلّف كاملة - لا مقتطعة - حيث قال: (الأجزاء المنفصلة - كالشعور - حكمها حكم الأجزاء المتصلة ، فيحرم النظر إليها فيما يحرم متّصلاً . لا للاستصحاب ؛ لمعارضته هنا مع استصحاب عدم الحرمة في المنفصل المعلوم قبل شرع الحرمة . بل لإطلاق مثل قوله [عليه السلام]: "حَرُمَ النظرُ إلى شعورهن". والقول بعدم ظهور النظر إلى المنفصل من الإطلاقات . غير جيد في الشعر ، لعدم تبادر المتصل من الشعر ، ولا من شعر المرأة ، ولا من النظر إلى الشعر ، ولا من النظر إلى شعر المرأة ، كما لا يتبادر ذلك من النهي عن النظر إلى شعر المَعْزِ . نعم ، لا ينصرف الإطلاق في غير الشعر من الأجزاء المنفصلة ، لندرة وجودها منفصلة بحيث يتبادر منها المتّصل ، فيحرم في الشعر دون غيره ، وعدم الفصل غير ثابت . ولا بأس بالنظر إلى شعر المحارم وغير البالغة والذّمية منفصلة ولو بالتلذذ. لعدم دليل على المنع ، مع أنّ التلذذ منه غالباً ليس لأجل الشعر خاصة...).[مستند الشيعة:ج16،ص65 وما بعدها ، باب: حكم الأجزاء المنفصلة كالمتّصلة]

هذا تمام كلامه "رفع الله مقامه" ، وإليك بيان المسالة المذكورة فيه :

فقد اختلف فقهاء المذهب في النظر إلى الشعر المنفصل ما لو كان لامرأة أجنبية بالغة مسلمة ، فمنهم من أجازه [انظر العروة الوثقى للسيد اليزدي:ج2،ص687 ، المسألة:45] ، ومنهم مَن ذهب إلى الاحتياط الوجوبي بتركه [انظر تحرير الوسيلة للإمام الخميني: ج2،ص243 المسألة 21] ، ومنهم مَن فصّل في المسألة بأن قال بالحرمة إذا كان النظر إلى الشعر يُعّدُّ نظراً إلى صاحبته عند العرف، وأما إذا لم يكن كذلك فالأحوط استحباباً ترك النظر إليه. [انظر منهاج الصالحين لسماحة السيّد السيستاني:ج3،ص13 المسألة:17]

وأمّا سماحته المحقّق النراقي فقد فصّل فيها بنحو آخر ، فذكر في بداية كلامه أعلاه حكم النظر إلى الأجزاء المنفصلة من جسد المرأة "الأجنبية ، البالغة ، المسلمة" ، وأنّه كحكم النظر إلى تلك الأجزاء قبل انفصالها وهو الحرمة كما هو صريح عبارته ، ثمّ ذكر الدليل الذي استند إليه وكيفية استفادة الحكم منه وأنّه ليس هو الاستصحاب ، وإنّما هو الإطلاق في بعض الروايات.

ويلاحظ أنّ حكمه بالحرمة هنا مشروط بأن تكون المرأة صاحبة الأجزاء المنفصل: ( أجنبية ، وبالغة ، ومسلمة ) بقرينة ما ذكره في ختام كلامه من أنّه لو انتفى أحد هذه الشروط الثلاثة بأن نظر الرجل بشهوة إلى شعر منفصل ، وكان هذا الشعر مأخوذاً من أحدى محارمه لا من امرأة أجنبية ، أو مأخوذا من صبية لا من امرأة بالغة ، أو كان مستورداً من دول أهل الكتاب وليس شعراً لامرأة مسلمة فإنّه لا يحرم النظر إليه ؛ فمثلاً لو كانت الزوجة صلعاء فقامت بوضع شعر مستعار على رأسها – وهو المسمّى عند العوامّ بالباروكة - ، وكان هذا الشعر مأخوذاً من إحدى محارم الزوج ، أو من صبية غير بالغة ، أو من امرأة يهوديّة أو نصرانيّة ، فإنّه لا يحرم نظر الزوج إليه ؛ لعدم قيام الدليل على ذلك عند سماحته ، وحينئذٍ فالأصل في مثله هو الإباحة ولا حرمة لهذا الشعر حتّى يحرم النظر إليه سواء بتلذّذ أو بدونه. وهذه الخاتمة من كلامه "طيّب الله ثراه" هي التي اقتطعها السائل ليوهم الناس بما تقدّم ذكره.

الأمر الثاني: هو أنّ مسألة النظر إلى الأجزاء المنفصلة هي مسالة خلافية عند جميع فقهاء المسلمين من المذاهب الأخرى وليس فقهاء الشيعة فقط ، وإليك بيان كلماتهم: 1-فعن النووي وهو شافعي المذهب قال: (فرعٌ: ما لا يجوز النظر إليه متّصلاً كالذكر وساعد الحرة وشعر رأسها وشعر عانة الرجل وما أشبهها ، يحرم النظر إليه بعد الانفصال على الأصح . وقيل : لا [أي قيل : لا يحرم ].....، وفي فتاوى البغوي : أنّه لو أُبِينَ شعرُ الأمة أو ظُفرها ، ثمَّ عُتِقَتْ ، ينبغي أن يجوز النظر إليه وإن قلنا: إنّ المبان كالمتصل ؛ لأنّه حين انفصل لم يكن عورة ، والعتق لا يتعدى إلى المنفصل).[انظر روضة الطالبين:ج5،ص372]

2- وفي كشف القناع وهو من أهم كتب الفقه الحنبلي جاء التالي: (ويَحرُمُ نظرُ شعرِ أجنبيةٍ كسائر بدنها ، لا الشعر البائن المنفصل منها.)، وفيه أيضاً: (ولا يحرم نظره ، ولا مَسُّ الشعر البائن ، أي المنفصل من المرأة الأجنبية لزوال حرمته بالانفصال)[ انظر على التوالي كشف القناع للبهوتي:ج1،ص95 ، وكذلك:ج5،ص15].

3- وفي فقه المذهب الحنفي قال ابن عابدين: (الأول: ذكر بعض الشافعية أنّه: لو أُبِينَ شعر الأَمَةِ ثمَّ عُتِقَت لم يحرم النظر إليه ؛ لأنّ العتق لا يتعدى إلى المنفصل اه‍. ولم أَرَهُ لأئمّتنا ، وكذا لم أَرَ ما لو كان المنفصل من حرمةٍ أجنبية ثمّ تزوجها ، ومقتضى ما ذكر من التعليل حرمة النظر إليه ، وقد يقال : إذا حلّ له جميع ما اتصل بها فَحَلَّ المنفصل بالأَوْلَى ، وإن كان منفصلاً قبل زمن الحِلِّ ، والله تعالى أعلم.) [انظر حاشية رد المختار في الفقه الحنفي:ج6،ص689]

4- وأمّا الإمام مالك وأتباعه فقد قالوا بجواز النظر للأجزاء المنفصلة من الحيّ حتّى العورة منها ، وعدم جواز ذلك في المنفصلة من الميّت..!. [انظر الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت "عليهم السلام":ج1،ص291 – الهامش رقم 4]

الأمر الثالث والأخير: أنّ جميع المذاهب الإسلاميّة – حتّى السلفيّة - قائمة على ضرورة توقير العلماء المعروفين باجتهادهم وورعهم وعدم جواز القدح بهم ، قال شيخ السّلفية ابن تيمية: (...، وَلِهَذَا وَجَبَ بَيَانُ حَالِ مَنْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الرَّأْيِ وَالْفُتْيَا وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُوراً لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ .فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ .وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ السَّائِغُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّأْثِيمِ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ ؛ بَلْ يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِن الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مُوَالَاتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ : مِنْ ثَنَاءٍ وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.) [مجموع الفتاوى:ج28،ص233]. وقال السقّاف وهو من علماء المخالفين: (الفروع الفقهية المتعلّقة بالعبادات والمعاملات مبنية على الظنّ ، واليقين فيها قليل؛ ولذلك حصل فيها الخلاف بين الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، وكان فيهم المخطئ والمصيب، ولم يُضلّل أحدٌ منهم مُخالِفَه إذا أخطأ، بل يعتقدون أنّهم جميعاً على هدىً وسُنَّةٍ، وأنَّ المخطئَ مأجورٌ على اجتهاده.)[فتح المعين للحسن بن علي السقّاف:ص13]

فإذا عرفت ذلك فإنّ المحقّق النراقي "أعلى الله مقامه" يعدُّ واحداً من أساطين المذهب وفطاحل الفقه على مرّ التأريخ ، ويكفي أنّ نورد شيئاً من ترجمة العلّامة الشيخ أقا بزرك الطهراني له حيث يقول عنه: (هو الشيخ المولى أحمد بن المولى محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني ، عالم كبير وفقيه بارع ومصنّف جليل، ولامع متبحر ورئيس مطاع، وكان رحمه الله من العلماء الأتقياء والأبرار الأخيار عطوفاً على الفقراء، شفيعاً على الضعفاء، ساعياً في قضاء الحوائج، باذلاً جهده في إنجاز مطالب المحتاجين)[طبقات أعلام الشيعة:ج10،ص116، ولمزيد من أقوال العلماء فيه انظر الرابط التالي: https://2u.pw/cPRWr8Ox ] ، وعليه فإنّ الافتراء على عالم جليل بهذه المنزلة واقتطاع جزء من كلامه واتهامه بالإفتاء بما فيه إنّما هو طريق اعتاد الأعداء سلوكه لعجزهم عن مجاراة علماء المذهب الأبرار.

وخلاصة الكلام: أنّه ومن خلال مجموع ما تقدّم يتّضح لنا أنّ الشخص السائل اقتطع جملة من كلام المحقّق النراقي ؛ ليكذب على الناس ويوهمهم بأنّ سماحته يفتي بجواز النظر إلى المحارم بشهوة وتلذّذ ، أي أنّه يجيز لمقلديه ذلك ، ولكنّ عنوان الكتاب وتمام كلام المؤلّف ومعناه كلّ ذلك كان كفيلاً بفضحه..! ؛ فإنّ المحقّق النراقي لم يقل بجواز النظر إلى المحارم بشهوة بل كان كلامه عن الشَّعر المنفصل عنها سواء مع الشهوة والتلذّذ أم بدونهما ، كما أنّه كلام مذكور في كتابٍ معدودٍ للفقه الاستدلالي وليس للفتوى ، وقد أدلى سماحته برأيه في المسالة أسوة بعلماء المذاهب الإسلامية كافة..!، ولكنّ أحفاد آكلة الأكباد لم يَطِبْ لهم إلّا أنّ يأكلوا لحوم الأبرار، فالله حسبنا فيهم ونعم الوكيل، ونكتفي بهذا القدر ممّا وفّقنا تعالى إليه من البيان ، وله الحمد أوّلاً وآخراً.