الوحدة الإسلاميّة في ظلّ تنوّع المذاهب واختلافاتها؟

السؤال: كيف يمكن تحقيق الوحدة الإسلاميّة في ظلّ التنوّع المذهبيّ الواسع بين المسلمين؟ وهل يمكن الجمع بين الدعوة إلى وحدة الأمّة الإسلاميّة وبين تأكيد حقّ كلّ مذهب في تمثيل الحقيقة الدينيّة؟ وهل يمكن للشيعة أن يدعوا للوحدة الإسلاميّة مع التأكيد على صحّة مذهبهم، دون أن يتحوّل ذلك إلى تناقض مع احترام المذاهب الأخرى؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

تحقيق الوحدة الإسلاميّة مع الحفاظ على التنوّع المذهبيّ هو مشروع حضاريّ يسعى إلى بناء أرضيّة مشتركة تجمع بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، مع احترام الخصوصيّات التي نشأت عبر القرون. فهذا الطرح ينطلق من إدراك أنّ الوحدة لا تعني التماثل أو إلغاء الاختلافات، بل تعتمد على فهم عميق للمشتركات الكبرى التي توحّد الأمّة. ومن هذا المنطلق، يصبح تحقيق الوحدة الإسلاميّة هدفاً رئيساً ليس فقط لتعزيز التضامن بين المسلمين، ولكن أيضاً لإبراز القيم الحضاريّة للإسلام، التي تدعو إلى التعايش والعدل واحترام التنوّع، وهو ممّا يفتح آفاقاً أوسع للتقدّم والنهضة في سياق عالم يواجه تحدّيات العولمة والانقسامات.

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المشروع يواجه تحدّيات كثيرة في ظلّ واقع معقّد يعيشه العالم الإسلاميّ، حيث تتشابك الأبعاد الدينيّة مع القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وهو ممّا يجعل من الضروريّ النظر إلى الوحدة من منظور شامل لا يقتصر على الجانب الشعائريّ أو العقديّ، بل يمتدّ إلى الجوانب العمليّة التي تسهم في تعزيز التماسك المجتمعيّ.

ويتجلّى هذا الفهم من خلال بعدين رئيسيّين يتكاملان في رسم ملامح هذا المشروع: الأوّل يتّصل بالجانب السياسيّ والاجتماعيّ، حيث تتجلّى الحاجة إلى تعاون المسلمين لمواجهة التحدّيات المشتركة وتعزيز الاستقرار والتنمية في مجتمعاتهم. وأمّا الثاني، فهو معرفيّ وعقائديّ، يركّز على تعميق الحوار بين المذاهب من أجل الوصول إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل.

أوّلاً: البعد السياسيّ والاجتماعيّ:

الوحدة الإسلاميّة تعني التركيز على الهويّة الجامعة التي تجمع المسلمين، بعيداً عن التعصّب المذهبيّ الذي يهدّد استقرار الأمّة. فهذه الهويّة تقوم على الإيمان بالله ورسوله والقرآن الكريم، وتشترك جميع المذاهب الإسلاميّة في هذه الثوابت، وهو ما يجعلها أساساً قويّاً للتفاهم والتعاون. لكن التحدّي يكمن في تجاوز الطائفيّة، وهي النزعة التي تجعل الانتماء المذهبيّ معياراً للتعامل مع الآخرين، وهو ممّا يؤدّي إلى التفرقة والضعف. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، في دعوة صريحة إلى نبذ الفرقة والتمسّك بمبادئ الإسلام الجامعة.

فالدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة لا تعني تخلّي المذاهب عن خصوصيّاتها، بل تسعى إلى تسليط الضوء على المصير المشترك الذي يواجه الأمّة الإسلاميّة في ظلّ التحدّيات السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة، فالاختلافات المذهبيّة تظلّ محصورة في إطار النقاش الفكريّ والمعرفيّ داخل البيت الإسلاميّ الواحد، في حين يبقى الدور الحضاريّ للمسلمين يرتبط بالإسلام كدين شامل، يحمل رسالة عالميّة تدعو إلى العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، في مواجهة التيارات والاتجاهات الدينيّة والحضاريّة الأخرى. بمعنى آخر، فإنّ الخطر الذي يهدّد الإسلام كدين والمسلمين كأمّة لا يفرّق بين التباينات العقائديّة والفقهيّة بين المذاهب، بل ينظر إليهم جميعاً بمنظار واحد. من هنا تبرز أهمّيّة الوحدة في جمع صفوف المسلمين لمواجهة هذه التحدّيات التي تستهدف هويّتهم ومكانتهم العالميّة، وذلك من خلال نبذ التحريض الطائفيّ وتعزيز ثقافة التسامح التي تحوّل الاختلاف إلى عامل قوّة وبناء، بدلاً من أن يكون مصدراً للتهديد والتفكيك.

وفي السياق السياسيّ والاجتماعيّ، تزداد أهمّيّة الوحدة في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تهدّد الأمّة. فعلى سبيل المثال، الحرب الصهيونيّة على غزّة تُظهر بوضوح كيف أنّ التحدّيات المشتركة التي تواجه المسلمين - سواءٌ أكانت سياسيّة أم عسكريّة - لا تميّز بين المذاهب الإسلاميّة المختلفة. فعلى الرغم من الاختلافات المذهبيّة، يبقى العدو المشترك واحداً، وهو السعي لتقسيم الأمّة والنيل من هويّتها. ومن هنا، تصبح الوحدة الإسلاميّة ضرورة ملحّة للتصدّي لهذه المخاطر، والتأكيد على أنّ التحريض الطائفيّ لا يخدم إلّا أعداء الأمّة، في حين تعزيز التسامح وبناء ثقافة الحوار يعدُّ الطريق الوحيد لتحويل الاختلاف إلى عامل قوّة، ومواجهة العدوان.

ثانياً: البعد العقائديّ والمعرفيّ:

فالبعض يروّج لفكرة نسبيّة الحقيقة الدينيّة، بحيث تُعتبر جميع المذاهب متساوية في تمثيل الحقيقة، وهذا يتناقض مع منطق الدين الذي يقوم على وجود حقيقة واحدة أرادها الله تعالى وبلّغها من خلال الوحي، والاختلافات المذهبيّة، رغم وجودها، لا تعني استحالة الوصول إلى الحقّ، فالأمر يتطلّب البحث العلميّ القائم على الموضوعيّة العلميّة والذي يميل مع دليل أينما مال، ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تؤكّد على أنّ الإسلام دين واحد يمتلك معايير واضحة تُحدّد الحقيقة من خلال النصوص القطعيّة والبرهان العقليّ.

وإيمان الشيعة بأنّ مذهبهم هو الأقرب إلى الإسلام الأصيل لا يعني ادّعاءً للحقيقة المطلقة، وإنّما هو ناتج عن تحليل علميّ للنصوص، ومراجعة دقيقة للمفاهيم والمعايير الشرعيّة التي تميّز مذهبهم عن غيره. إذْ تبيّن لهم - من خلال الأدلّة العقليّة والنقليّة - أنّ هذه الرؤية تتوافق أكثر مع النصوص الواضحة في القرآن الكريم والسنّة، وخصوصاً في قضايا مثل الإمامة والولاية، وهي قضايا أساسيّة لا يمكن فهم الإسلام بشكل كامل من دونها.

وعلى الرغم من الاحترام الكامل للمذاهب الإسلاميّة الأخرى، فإنّ الشيعة يؤمنون بأنّ مذهبهم يقدّم الفهم الصحيح للأصول التي أراد الله تعالى لها أن تكون محوراً لإقامة الدين، وأنّ كلّ المذاهب الإسلاميّة الأخرى تمثّل اجتهادات تختلف في بعض جوانبها، ولكنّها لا تصل إلى نفس مستوى وضوح وصحّة الأدلّة التي يدعمها مذهبهم. فمن هذا المنطلق، يدعو الشيعة إلى الحوار المفتوح والتفاعل الفكريّ البنّاء مع الآخرين، بعيداً عن التعصّب والتكفير، معتمدين في ذلك على البرهان والدليل الشرعيّ والعقليّ الذي يدعم صحّة مذهبهم.

وفي المحصلة، الوحدة الإسلاميّة تتحقّق عندما تركّز الأمّة على القيم الكبرى التي تدعو إلى التعاون والتراحم، بعيداً عن النزاعات المذهبيّة. فهذا النهج لا يلغي المذاهب، بل يُبرز المشتركات ويُعزّز الحوار الذي يخدم وحدة المسلمين ويُحصِّنهم ضدّ التحدّيات التي تواجههم. والحمد لله ربّ العالمين.