وأشهد أنّ دمك سكن في الخُلد

. السؤال: قال الإمام الصادق في حق الإمام الحسين (ع): « وأشهد أنّ دمَكَ سكن في الخُلد ، واقشعرَّت له أظلَّة العرش ..... وبكى له ما يُرى وما لا يُرى » وسؤالي عن ثلاثة أمور: أ. أَلَيس الإمام الحسين من ساكني الخلد والجنان، فلماذا خصّ الإمام الصادق الدمَ دون غيره ؟. ب. ما المقصود من أظلَّة العرش ؟. ج. كلُّ الخلق هي خلائق تُرى بالعين المجردة أم بغيرها إذًا فما المقصود من الذي لا يُرى؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد المقطع المذكور في إحدى زيارات المولى أبي عبد الله الحسين(ع) وهي مرويَّةٌ بسندٍ معتبرٍ عن الصادق (ع) وفي جملةٍ من المصادر المعتبرة، منها: الكافي ج4 ص576، وكامل الزيارات ص362، والتهذيب ج6ص55، ومَن لا يحضره الفقيه ج2ص595، وقد ذيَّلها الشيخ الصدوق بقوله: (وقد أخرجتُ في كتاب الزيارات، وفي كتاب مقتل الحسين "ع" أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب لأنّها أصحّ الزيارات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغٌ وكفاية.) انتهى.

وتمام المقطع محل البحث هو: « أشهد أنّ دمك سكن في الخلد، واقشعرّت له أظلَّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلق ربّنا وما يُرى وما لا يُرى »، وحيث إنّ السؤال مؤلّفٌ من ثلاثة شقوق، فإنّ الإجابة عنه تتّضح من خلال ثلاثة مطالب:

المطلب الأوّل: في الإجابة عن الشقّ الأوّل من السؤال، وقد ذُكرت فيه وجوه عديدة أهمّها ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ يكون ذلك محمولاً على حقيقته وأنّ دم الحسين "ع" سكن عالم الخلد، أمّا الحسين فله مقامٌ أرفع من ذلك بكثيرٍ، وعلمه عند الله تعالى.

قال الشيخ الوحيد الخراساني: (...علينا أن نعي أوّلاً ما الذي حدث ليسكن دمُ الإمام "ع" الخلدَ..؟. إنّ الخلد موضع التجرّد، فلو سكنت الروحُ الخلدَ فذلك على وفق الأصل، وأمّا لو انقلبت الحال وصارت الروح أسمى من الخلد بينما صار الخلد مسكناً للدّم، فإنّ ذلك فوق إدراك البشر وعقولهم، ومعنى هذا الكلام: أنّ الحسين "ع" بلغ من المنزلة موضعاً بحيث لا يسع الخلدُ سوى أن يكون مسكناً لدمه الطاهر، ليت شعري فأين تسكن روحه..؟!)[مصباح الهدى وسفينة النجاة ص25، وكذا منهاج الصالحين ج1ص365].

الوجه الثاني: من المعروف أنّ مفردة النفس تطلق على الدمّ في عرف الفقهاء فيقال: (هذا حيوان له نفسٌ سائلة) أي: حيوانٌ له دمٌ سائلٌ يجري على الأرض ويشخب فيما لو ذبحناه كما في الشاة ، في قبال (ما ليست له نفس سائلة) كالسمك ، أو الجراد والبعوض ونحوهما من الحشرات[ينظر: المصطلحات لمركز المعجم الفقهي ص1128]. وعليه فكما تطلق النفس على الدّم فإنّ الدم يطلق عليها أيضاً، فيكون المراد بالعبارة محلّ البحث أنّ النّفس الشريفة للمولى أبي عبد الله (ع) هي التي سكنت عالم الخلد. قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (*) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (*) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (*)وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27-30]، وهذا الرأي مبنيٌّ على أنّ الحشر روحانيٌّ لا جسمانيٌّ).[انظر شبكة الضياء].

الوجه الثالث: أن يكون ذلك كناية عن أحد أمرين ذكرهما سماحة السيد الروحاني في بعض الاستفتاءات:

أحدهما: الكناية عن خلود ثاره (ع) وأنّ الله سبحانه هو الذي سيطلب به وأنّ هذا الثأر يمثّل قضيةً إلهيّةً خالدًة لم ولن

تموت أو تُهمل أو تُنسى، فقد جاء في الأخبار أنّ الحسين (ع) كان قد طلب من الله تعالى أن يتولّى طلب ثأره، كما روى ابن عساكر بإسناده عن مسلم بن رباح مولى عليّ بن أبي طالب (ع) قال:« كنتُ مع الحسين بن عليّ "عليهما السلام" يومَ قُتِلَ، فَرُمِيَ في وجهِهِ بنشابَةٍ، فقال لي: يا مسلم! أَدْنِ يديكَ من الدَّمِ. فأدنيتهما، فلمّا امتلأتا قال: اسكبهُ في يديَّ، فسكبته في يده، فَنَفَحَ بهما إلى السماء، وقال: { أللّهُمَّ اطْلُبْ بِدَمِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ }. قال مسلم: فما وقع منه إلى الأرض قطرة »[تاريخ ابن عساكر ج14 ص223 ، وكذا كفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ ص284 - طبعة الغريّ] ، كما ويشهد له أيضاً نصوص كثير من الزيارات ؛ إذْ جاء فيها الأمر بالسلام على سيّد الشهداء "ع" بهذا الوصف:« السلام عليك يا ثار الله ».

والآخر: أو هو كناية عن عظمة مصيبة الحسين (ع) وأنّها بلغت مبلغاً لا يمكن معه نسيانها أو التغاضي والتغافل عنها أبداً. ويشهد له ما رواه الميرزا النوريُّ عن عبد الله بن سنان عن الإمام الباقر (ع) من قوله: « نظر النبيُّ "ص" إلى الحسين بن علي "عليهما السلام" وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، ثمّ قال "ع": بأبي قتيلُ كلّ عبرة..!، قيل: وما قتيل كلّ عبرة يا بن رسول الله..؟!، قال: لا يذكره مؤمنٌ إلّا بكى» [مستدرك الوسائل ج10 ص318، وعن جواب سماحة السيد الروحانيّ ينظر الرابط التالي: https://2u.pw/7f9nPati].

المطلب الثاني: في المقصود من أظلّة العرش، وفيه عدّة أقوال نذكر أهمّها بلا بيان، منها:

1- قال الفيض الكاشانيُّ: (أظلة العرش هي كناية عن أجسام العالم كلها فإنّها أظلّةٌ للأرواح، والعرش عبارة عن مجموع الخلائق). [الوافي ج14ص1489]

2- وقال العلّامة المجلسيُّ: (قوله ع : « واقشعرت له أظلة العرش » ، الأظلّة جمع ظلال وهو ما أظلّك من سقف أو غيره ، والمراد هنا ما فوق العرش ، أو أطباقه وبطونه؛ فإنّ كلّ طبقة وبطن منه ظلّ لطائفة ، أو أجزاء العرش؛ فإنّ كلّ جزءٍ منه ظلٌّ لِمَن يسكن تحته ،وقد يطلق الظلال على الأشخاص والأجسام اللطيفة وعالم الأرواح ، فيمكن أن يكون المراد بها الأرواح المقدسة والملائكة الساكنين في العرش)[بحار الأنوار ج98ص154، مرآة العقول ج18ص299].

3- وقال الشيخ الطريحيُّ: (واقشعرّت له أظلّة العرش لعلَّ المراد به أنوار العرش)[مجمع البحرين ج5ص418]

المطلب الثالث: في جواب الشقّ الثالث من السؤال، وفيه: أنّ قوله (ع): (ما يُرى وما لا يُرى)، يحتمل وجهان:

الأوّل: أنّ يُحمل اللفظ على ظاهره فيكون مراده (ع) ممّا يُرى هو ما تقع عليه العين المجرّدة فيُرى بواسطتها، وأمّا ما لا يُرى فهو ما ليس كذلك، فإنّ كثيراً من المخلوقات لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة مع أنّها موجودات مادّية جسمانيّة[ينظر: مصباح الهدى وسفينة النجاة ص28].

الثاني: أن يكون مراده من ذلك تقسيم الكائنات إلى: ماديّ محسوس كالإنسان، وإلى مجرّد عن المادّة العنصريّة والصورة الحسيّة والمدّة الزمانيَّة، كالنفس عند بعض الفلاسفة، وأنّ هؤلاء جميعاً بكوا على مصاب الحسين(ع) وتقرّبوا إلى الله تعالى بذلك،

وبعبارة أخرى فإنّ هنالك عالم المُلك: وهو العالم المحسوس الذي يدرك بالحسّ، ويقال له: عالم الشهادة أيضاً، وهو عالم الماديّات. وهنالك عالم آخر هو الملكوت: وهو ما لا يدرك بواسطة الحواس؛ ويسمّى عالم الغيب لغيابه عن الحسّ، وعالم المجرّدات[ينظر شرح أصول الكافي ج1ص22، الفروق اللغويّة ص511]، وهو عالم خفيٌّ علينا ولا نراه، وإليه أشار تعالى بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام 75] حيث أراه الله تعالى جميع أسرار ذلك العالم بعد أن كان لا يعرفها, منها كيفية إحياء الموتى[يلاحظ: تفسير الميزان ج2 ص370]، وكيفما كان فإنّ نسبة عالم الشهادة والملُك إلى عالم الغيب والملكوت كنسبة القطرة من البحر والذرّة إلى الكون، فإذا كان الإنسان يجهل أغلب ما في عالم الملك فما بالك بما في عالم الملكوت..؟!.

نعم يبقى السؤال في كيفية بكاء المجرّد، وهذا أمره هيّن؛ فإنّ لكلّ مخلوق طريقة تتناسب مع تكوينه وتنسجم مع طبيعة مسيره

نحو الحقّ سبحانه وطاعته له وعبادته وتقرّبه منه، تماماً كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[النور:41]، فكما أنّ لكلّ كائن طريقته المناسبة لخلقته في العبادة والتسبيح والصلاة، فكذلك له طريقته في التعبير عن حزنه وبكائه، وليس بالضرورة أن نعرف كيفية ذلك، بل لعلّه لا سبيل لنا إلى فهمه ومعرفته بعد ملاحظة قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء:44]. والخلاصة من جميع ذلك أنّ قوله (ع): « ما يرى وما لا يرى » فيه إلماحٌ إلى محدودية علم الإنسان، ومعه فليس له إلّا التسليم بمثل هذه النصوص وعدم تحرّي ما وراءها؛ لعجزه عن الوصول إلى معرفة ذلك وإدراك كنهه، وكما يقال في الفلسفة: لوجود خللٍ في القابل لا في الفاعل، فنحن بالنتيجة لسنا سوى كائناتٍ محدودةٍ لا يمكنها أنّ تستوعب جميع ما في عالمي المُلك والملكوت من أسرار ربّانيّة فهنالك خلق مجهول بالنسبة لنا تماماً ولا ندري به أصلاً، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}[يس:36]. هذا تمام ما وفّقنا الله تعالى لبيانه.. والحمد لله ربّ العالمين.