اتهام الشيعة بالنصب
يتهم بعض أهل السنة الشيعةَ بالنصب؛ لأنهم لا يوثّقون بعض أهل البيت ويذمّونهم في رواياتهم، مثل العبّاس عمّ النبيّ (ص) وعقيل وأبناء الإمام الحسن (ع)؛ إذ أن ترجمتهم في كتبنا غير مادحةٍ لهم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس خفيّاً على المسلمين وغيرهم أنّ مذهب الشيعة هو المذهب الأوحد الذي يرفع لواء الولاية لأهل البيت (عليهم السلام)، وينادي بوجوب طاعتهم وتعظيمهم وتقديم حقّهم، حتّى نتج عن ذلك اتّهام العامّة وخصوصاً السلفيّة لأتباع التشيّع بالغلوّ وتأليه وعبادة أهل البيت (عليهم السلام)، بل قد ذهب بعض المتطرّفين منهم - كابن تيميّة وابن عبد الوهاب - إلى تكفيرهم وإباحة دمائهم، فلا يُعقل - والحال هذه – أنّ يكون الشيعة المتَّهمون بالغلوّ هم في الوقت نفسه نواصب يظهرون العداء لأهل البيت (عليهم السلام)؛ فإنّ في ذلك ما لا يخفى على البصير من التناقض! هذا من ناحية.
ومن الناحية الأخرى فإنّ السؤال مغالطاتٍ شنيعةً وخلطاً بين الأوراق كما سيتّضح، وللإجابة عنه نذكر الأمور الآتية:
الأمر الأوّل: لابدّ من الالتفات إلى أنّ عنوان أهل البيت (عليهم السلام) له عدّة إطلاقات تستفاد من الأخبار المرويّة عند الفريقين:
1ـ فتارة يراد به أصحاب الكساء خاصة، كما في حادثة الكساء الذي يوم جمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فيه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: «اللَّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» [ينظر: مسند أحمد ج6 ص292، سنن الترمذيّ ج5 ص328].
2ـ وأخرى يُطلق ويُراد به المعصومون الأربعة عشر فقط، كما في قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «المهدي منّا أهل البيت» [مسند أحمد ج1 ص84]. ومن الواضح أنّ المذكورين في الإطلاق الأوّل يدخلون تحت هذا الثاني.
3-وقد يطلق ثالثة ويُراد منه ما هو أعمّ من المعصومين الأربعة عشر وغيرهم ممّن يتّصل بهم نسباً كالأعمام والأولاد وغير ذلك.
فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ مَن تجب ولايتهم والبراءة من عدّوهم ولا يجوز النصب بحقّهم – وهو إظهار العداء لهم (ع) – إنّما هم خصوص المذكورين في الإطلاقين الأوّل والثاني، وأمّا مَن جاء ذكرهم في السؤال كأمثال العبّاس بن عبد المطّلب وعقيل وأولاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ونحوهم، فهم خارجون عن الإطلاقين المذكورين ولا يدخلون فيهما.
وبعبارة أوضح: إنّ المعيار في تحديد موضوع النصب والعداء ليس مجرد إطلاق لفظ أهل البيت (ع) على الشخص، بل لابدّ من الرجوع على النصوص التي تصرّح بأنّ لهذا الشخص حقوقاً على الأمّة، وأنّ إظهار العداوة له واتخاذ موقفٍ سلبيٍّ منه أمور ينهى عنها الشارع ويعاقب عليها، كقوله (صلّى الله عليه وآله) في حقّ أمير المؤمنين: «اللهم مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله» [مسند أحمد ج1 ص118] ، أو قوله الآخر في حقّ الزهراء (عليها السلام): «إنّ فاطمة بَضعة منّي، وهي روحي التي بين جَنبيّ، يسوؤني ما ساءها، ويسرّني ما سرّها»، وغيرها [الاعتقادات ص105، صحيح البخاريّ ج4 ص210، صحيح مسلم ج7 ص141]. فهذه الأحاديث ونظائرها قد حدّدت مَن هم الذين تجب موالاتهم وتحرم أذيّتهم ونصب العداء لهم، وبلا شكّ فإنّ العباس بن عبد المطّلب أو عقيل بن أبي طالب وأمثالهم لم يرد في حقّهم عند جميع المسلمين مثل هذه الأحاديث حتّى يُفهم من مخالفتها الوقوع في محذور النصب واستلزام ذلك للمخالفة الشرعيّة القطعيّة الموجبة للعذاب، فتدبّر جيّداً.
الأمر الثاني: تقوم عقيدة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعه في مواقفهم تجاه أيّ شخص، سواء كان من بني هاشم أم من غيرهم على معيارٍ واضحٍ وصريحٍ يتقوّم بـ: النصوص الشرعيّة، وما جاء في سيرة الشخص من أقوال وأفعال، وما تكشف عنه مواقفه تجاه أهل البيت (عليهم السلام) وقضاياهم المصيريّة.
فمثلاً مَن كان قادراً على نصرة الحسين (عليه السلام) فخذله ولم ينصره فإنّه وبلا شكّ يستحقّ اتخاذ موقفٍ سلبيٍّ تجاهه، وهكذا مع سائر المعصومين (عليهم السلام)، وهذا مبدأ قرآنيّ نحن مأمورون باتّباعه والعمل على ضوئه.
ولو عدنا إلى العبّاس بن عبد المطّلب مثلاً لوجدنا أنّ له سيرةً سلبيّة مع الإسلام، وقد أجمع المسلمون عليها، كخروجه يوم بدر مع المشركين ووقوعه في الأسر، وكذلك عدم هجرته مع النبيّ وأصحابه (صلّى الله عليه وآله)؛ ولذا نفى القرآن عنه وعن أمثاله أن تكون بينه وبين أولئك المهاجرين ولاية كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، كما أنّه كانت له مواقف هزيلة تجاه سلب الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم نصرته له، هذا فضلاً عمّا ورد من الذمّ بحقّه على لسان المعصوم (عليه السلام) [ينظر: جواب سابق لنا بعنوان: موقف الشيعة من العبّاس بن عبد المطّلب].
والحاصل: أنّ هذه العوامل ونحوها هي التي تفرض على أتباع مذهب التشيّع اتخاذ موقفٍ سلبيٍّ تجاه العبّاس بن عبد المطلّب، بخلاف - مثلاً – في الحمزة بن عبد المطلّب أو جعفر بن أبي طالب (عليهما السلام) فإنّ مواقفهما الناصعة تجاه الإسلام ونصرته وحُسن سيرتهما آخذة بعنق كلّ إنسان مُتشرّع ومُنصف إلى تمييزهما وتقديسهما بالضرورة، بل حتّى عقيل بن أبي طالب فإنّ موقف المذهب منه على التحقيق إيجابيٌّ بمعنى الكلمة. [ينظر: جواب سابق لمركزنا بعنوان: موقف علماء الشيعة من عقيل بن أبي طالب].
وإلى هذا المعيار المثلّث تشير رواية الإمام الباقر (عليه السلام) عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: «لما أُمِرَ العبّاس بسدِّ الأبواب وأُذِن لعليّ (عليه السلام) بترك بابه، جاء العباس وغيره من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله ما بالُ عليّ يدخل ويخرج؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذلك إلى الله فسلِّموا له حكمه، هذا جبرئيل جاءني عن الله عزّ وجلّ بذلك، ثمّ أخذه ما كان يأخذه إذا نزل الوحي فسرى عنه، فقال: يا عباس يا عمَّ رسول الله إنّ جبرئيل يخبرني عن الله جلّ جلاله أنّ عليّاً لم يفارقك في وحدتك وآنسك في وحشتك فلا تفارقه في مسجدك، لو رأيت عليّاً وهو يتضوّر على فراش محمّد (صلّى الله عليه وآله) واقياً روحه بروحه متعرّضاً لأعدائه مستسلماً لهم أن يقتلوه كافياً شرَّ قتله لَعلمت أنّه يستحقّ من محمّدٍ الكرامة والتفضيل، ومن الله تعالى التعظيم والتبجيل، إنّ عليّاً قد انفرد عن الخلق بالبيتوتة على فراش محمّد (صلّى الله عليه وآله) ووقاية روحه بروحه، فأفرده الله تعالى دونهم بسلوكه في مسجده، ولو رأيت عليّاً يا عمّ رسول الله وعظيم منزلته عند ربّ العالمين وشريف محله عند ملائكته المقربين وعظيم شأنه في أعلى علّيين لاستقللت ما تراه له ههنا، إيّاك يا عمَّ رسول الله أن تجد له في قلبك مكروهاً فتصير كأخيك أبي لهب فإنّكما شقيقان» [تفسير الإمام العسكريّ ص20].
ومن مجموع ما تقدّم يتّضح لنا ما جاء في السؤال من التمويه والالتفاف على الحقيقة وارتكاب مغالطة "السبب الزائف" حينما جعل السائل ما ليس بعلّةٍ علّة، ليوهم الناس بأنّ القرابة من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) علّة تامّة لوجوب المحبّة والولاء واتخاذ مواقف إيجابيّة تجاه الشخص القريب، وأنّها تمنع أيضاً من اتخاذ الموقف السلبيّ حياله، مع أنّ ذلك خلاف المباني العقديّة المعروفة عند العامّة من أنّ القرابة لا تغني عن صاحبها شيئاً [ينظر: صحيح البخاريّ ج3 ص190، صحيح مسلم ج1 ص133]، وإلّا فلو كان المعيار هو القرابة لكان الواجب على المسلمين أن يتّخذوا موقفاً إيجابياً تجاه أبي لهب فإنّه عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فهل يلتزم أحد من العامّة بذلك؟!
الأمر الثالث: لقد خلط أصحاب هذه التهمة الزائفة بين موضوعين بينهما تمام التباين، أمّا الأوّل: فهو يرتبط بالجنبة العقائديّة وما يتفرّع عليها من الولاية والبراءة لأهل البيت (عليهم السلام)، وقد عرفت ما فيه من خلال ما تقدّم.
وأمّا الآخر: فهو موضوع التوثيق للأشخاص المذكورين في السؤال وأمثالهم، ومن الواضح أنّ التوثيق لا علاقة له بالعقيدة على الإطلاق؛ لأنّه من مسائل علم الرجال ولا يرتبط إلّا برواة الأحاديث حصراً.
وعلى أيَّة حالٍ فإنّ المعروف عن مذهبنا وما عليه العمل عند مشهور علمائنا أنّ الراوي متى ثبتت وثاقته قبِلنَّا روايته وعملنا بها حتّى وإن كان من المخالفين ولم يكن من أهل الولاية والنصرة لأهل البيت (عليهم السلام)، قال شيخ الطائفة الطوسيّ: (ولأجل ما قلنَّاه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلّوب، ونوح بن دراج، والسَكونيُّ، وغيرهم من العامّة عن أئمتنا (عليهم السلام) فيما لم ينكروه، ولم يكن عندهم خلافه) [العدّة في أصول الفقه ص149].
والنتيجة، أنّ ما جاء في السؤال مجرّد تهمة باطلة يحاول السلفيّة -على وجه الخصوص- إلصاقها بأتباع مذهب التشيّع، بعد إفلاسهم من إلحاق تهمة الغلوّ بهم. كما أنّ موقف الشيعة تجاه أيّ شخص إنّما يبتني على معايير منطقيّة وشرعيّة مع صرف النظر عن قربه أو بُعده من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق