الإمام الباقر (ع) والتأصيل لمذهب أهل البيت (ع)
ما هي الخطوات العمليّة التي قام بها الإمام الباقر (عليه السلام) نحو التأصيل لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أنّ أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) منذ أنْ شيَّد النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) دعائم التشيّع إلى يومنا هذا كانوا وما يزالون يمثّلون أقليّةً واضحةً بالقياس إلى أتباع مدرسة الخلافة؛ والنتيجة الطبيعيّة لذلك لابدّ من أنّ تنصهر هذه الأقليّة فكراً وعقيدةً وفقهاً وأخلاقاً في قالب الأكثريّة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى فقدانها استقلاليّتها كمذهبٍ وطائفة، وهذا ممّا يشهد به الوجدان عند ملاحظة أحوال الأقلّيَّات المعاصرة، غير أنّ جهود الإمام الباقر (عليه السلام) حالت دون ذلك؛ حيث عمل على التأصيل للمذهب واستقلاليّته فكريّاً وعقائديّاً وفقهيّاً وسلوكاً ومعرفيّاً، ففتح الله تعالى على يديه للشيعة فتحاً مبيناً، وفي ذلك يقول الصادق (عليه السلام): «وكانت الشيعة قبل أنْ يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم، حتّى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيَّن لهم مناسك حجِّهم وحلالهم وحرامهم حتّى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس» [الكافي ج2 ص20].
وكان سرّ نجاحه (عليه السلام) في ذلك هو العناية الإلهيّة التي هيّأت له الأجواء والظروف المناسبة ، كما في حديث الصادق (عليه السلام) حيث قال: «إنّ الوصيّة نزلت من السماء على محمّد كتاباً، لم ينزل على محمّد (صلّى الله عليه وآله) كتابٌ مختومٌ إلّا الوصيّة، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمّد هذه وصيّتك في أمّتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أيُّ أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نَجيبُ الله منهم وذريته، لِيرثك علم النبوَّة كما ورَّثه إبراهيم (عليه السلام) وميراثه لعليٍّ (عليه السلام) وذريّتك من صلبه. قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح عليٌّ (عليه السلام) الخاتم الأوّل ومضى لما فيها، ثمّ فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلمّا توفّي الحسن ومضى فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيها أنْ: قاتل فاقتُل وتُقتَل واخرجْ بأقوامٍ للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معك، قال: ففعل (عليه السلام)، فلمّا مضى دفعها إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) قبل ذلك، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أنْ اصمت وأَطرِق لِمَا حُجب العلم، فلمّا توفّي ومضى دفعها إلى محمّد بن عليّ (عليهما السلام) ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أنْ: فَسّر كتاب الله تعالى وصدّق أباك وورِّث ابنك واصطنع الأمة وقم بحقّ الله عزّ وجلّ، وقل الحقّ في الخوف والأمن ولا تخشَ إلّا الله، ففعل، ثمّ دفعها إلى الذي يليه، قال: قلتُ له: جُعلتُ فداك فأنت هو؟ قال: فقال: ما بي إلّا أنْ تذهب يا معاذ فتروي عليَّ، قال: فقلت: أسأل الله الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أنْ يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات، قال: قد فعل الله ذلك يا معاذ، قال: فقلت: فمَن هو جعلت فداك؟ قال: هذا الراقد، وأشار بيده إلى العبد الصالح وهو راقد» [الكافي ج1 ص279]. ومن هنا كانت حركة الإمام (عليه السلام) تتمثّل بالعمل على الجوانب التالية:
أوّلاً: الكشف عن عقائد المذهب الحقّة وتقريبها إلى أذهان الناس:
حيث قام الإمام (عليه السلام) ببيان أصول الدين وصنوف العقيدة الحقّة وإيضاحها للناس بأساليب سلسة لا يدانيها اللبس، وأقام عليها الأدلّة القاطعة والحجج الساطعة، بعد أن لم تكن معروفةً بشكلٍ واضحٍ إلّا عند خواصّ الأئمّة (عليهم السلام).
فمن ذلك مثلاً: بيانه لحقيقة التوحيد وواقعه، واستحالة الإحاطة بكنه الذات الإلهيّة المقدّسة، وعجز الأوهام عن إدراكها؛ ولذا كان ينهى الناس عن الكلام في ذاته تعالى، فعن أبي بصير قال: «قال أبو جعفر (عليه السلام): تكلّموا في خلق الله ولا تتكلّموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيّراً» [الكافي ج1 ص92]. ومن ذلك أيضاً: بيانه لمسألة أزليّة الله جلّ وعلا بتفاصيل دقيقةٍ ومحكمةٍ، وتوضيحه للعلم الإلهيّ وكيف تعلّقه بالأشياء، وتعريف الناس بالصفات الإلهية وأنّها عين الذات.
وكذلك تبصرتهم بحقيقة الإمامة ومسائلها مثل: مدى احتياج الناس للإمام، وأهميّة وجوده في حياة الأمّة، وأنّه يجب على كلّ أهل زمانٍ التمسّك بإمامهم، ومَن هم الأئمّة الاثنا عشر الذين فرض الله تعالى طاعتهم؟ وما هي حقوق الإمام على الناس؟ وغير ذلك، هذا فضلاً عن تحصينه لعقيدة المذهب من خلال بيانه العقائد الفاسدة، والتحذير من الوقوع فيها، والتأكيد على ضرورة تنقيّة معتقداتهم من الأباطيل، والإرشاد إلى أهميّة التمسّك بحبل الله تعالى المتمثّل بالثقلين (أهل البيت والقرآن الكريم)، ولزوم الأخذ عنهم والردّ إليهم ومواصلة الارتباط بهم والولاية لهم والبراءة من عدوّهم، وعدم الاعتراف بمرجعيّة وولاية أحدٍ غيرهم (عليهم السلام)، ويلاحظ ما كتبناه جواب سابق منشور بعنوان: (الدور العقائدي للإمام الباقر (عليه السلام)).
ثانياً: بناء المنظومة الفقهيَّة والتشريعيّة، والتأسيس لمرجعيّة الفقهاء:
وقد تمثّل ذلك بأنّ عقد الإمام مجلسين:
أحدهما: المجلس العامّ المتمثّل بجلوسه (عليه السلام) في المسجد النبويّ تارةً، وفي داره أخرى وحتّى في بيت الله الحرام في مواسم الحجّ؛ لغرض تعليم الناس أحكامهم الشرعيّة في العبادات والمعاملات، ومن هنا تجد أنّ معظم روايات الأحكام الشرعيّة في الكتب الأربعة وغيرها إنّما ترجع إليه وإلى ولده الصادق (عليهما السلام).
والآخر: المجلس الخاص، وهو عبارة عن حلقاتٍ درسيّة كانت تعقد في دار الإمام (عليه السلام) لمجموعةٍ من كبار أصحابه (عليه السلام) وثقاتهم، أمثال: زرارة بن أعين، أبأن بن تغلب، محمّد بن مسلم، ليث بن البختري، أبو حمزة الثمالي، الفضيل بن يسار، بكير بن أعين، حمران بن أعين، بريد بن معاوية العجلي وغيرهم، حيث كان يلقي عليهم مختلف المسائل العلميّة في الفقه وأصوله والتفسير والحديث واللغة وغيرها من العلوم، كما أنّه (عليه السلام) فتح باب الاجتهاد لهم وقام بتعليمهم كيفيّة استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها المقرّرة لها؛ فبيّن لهم القواعد الفقهيّة والأصوليّة المستعملة في عمليّات الاستنباط كقاعدة الحلّ وقاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ، والاستصحاب، وقاعدة نفي الضرر، وكيفية علاج التعارض الحاصل بين الأخبار، وما هي المرجّحات التي يمكن أنْ يستفيد منها الفقيه في ترجيحه لخبر على آخر، هذا فضلاً عن بيانه لحرمة الاستنباط تعويلاً على مثل القياس والاستحسان والرأي، وإيضاح ما فيها من المحاذير، فأصبح أصحابه بذلك من أكابر فقهاء الأمّة والمرجعيّات الدينيّة في المذهب، وأثروا الساحة الإسلاميّة بالكثير من المؤلّفات والمصنّفات، وقد ذكر علماء الفريقين الكثير منها في كتبهم، كما في كتاب فهرست ابن النديم، وكتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة، وكتاب الشيعة وفنون الإسلام، وكتاب فهرست التراث، وغيرها.
هذا وقد كانت هذه الحلقات تمثّل النواة التي انبثق عنها تأسيسه (عليه السلام) جامعة أهل البيت (عليهم السلام) التي استقطبت بدورها فقهاء المذاهب المختلفة ومرجعياتها.
هذا وقد أوضحنا هذا الدور للإمام (عليه السلام) بشيءٍ من التفصيل في جواب مستقلٍّ بعنوان: (الإمام الباقر (ع) والتأسيس لنظام المرجعية) فليلاحظ.
ثالثاً: نشر الوعي السلوكي والأخلاقيّ الخاصّ بمذهب التشيّع:
فقد أولى الإمام (عليه السلام) الجانب الأخلاقيّ والاجتماعيّ اهتماماً بالغاً وعنايةً فائقةً، ووضع برامج إصلاحيّةً اعتمد فيها هدي القرآن والسنّة مبتدئاً بإصلاح النفس ثمّ الأسرة التي تمثّل نواة المجتمع الصالح، ومتصاعداً في ذلك حتّى ينتهي بالأمّة ككلّ، فحثّ على الفضيلة قولاً وعملاً، ورغّب في الآخرة وأرشد إلى مكارم الأخلاق، ودعا إلى الالتزام بالآداب، وأكّد على ضرورة احترام منظومة الحقوق والواجبات التي شرّعها الإسلام بين الزوجين، والوالدين وأبنائهم، والجيران، والأصدقاء، وأبناء المذهب الواحد أو الدين الواحد، كما شدّد على أنّ الانتماء لأهل البيت (عليهم السلام) إنّما يكون بطاعة الله تعالى والورع في دينه، كما في قوله - مثلاً - لجابر الجعفي: «يا جابر! بلّغ شيعتي عنّي السلام، وأعلِمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجلّ، ولا يُتقرّب إليه إلّا بالطاعة له، يا جابر! مَن أطاع الله وأحبّنا فهو وليّنا، ومَن عصى الله لم ينفعه حبّنا» [أمالي الطوسيّ ص296]، وللوقوف على تفاصيل وأحاديث أخرى في هذا المجال يمكن مراجعة كتاب [مسند الإمام الباقر (ع) ج3 ص173ـ316) ففيه الغنى والكفاية.
رابعاً: رفع مستوى الجانب المعرفيّ والتوعويّ لأتباع المذهب:
تمثّل القضايا المعرفيّة ركيزةً أساسيّةً في حياة الأمم والحضارات، وعاملاً مهمّاً في رفع ثقافة الفرد والمجتمع حيث يتمكّن الإنسان من خلالها التعرّف إلى الكثير من مسائل العلوم وحقول المعرفة، كالإحاطة بالحوادث التاريخيّة وحياة الأمم السالفة وأنبيائها (عليهم السلام)، وبعض مسائل الميتافيزيقيا والماورائيات كتصوّر الملائكة والجنّ وأنواع الخلائق، أو العوالم كعالمَي البرزخ والآخرة، والتعرّف على مسائل الوجود وخصائص الكائنات ومعرفة الإنسان بذاته، وغير ذلك من المسائل التي تُسهم في خلق صورةٍ علميّةٍ متكاملةٍ عن الوجود وما فيه، وفي مجالات العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة والشرعيّة كافَّة، وبالعود إلى الإمام (عليه السلام) نجده لم يُهمل هذا الجانب، بل أعطاه نصيباً من اهتماماته، فبيّن للناس مثلاً: أنواع البلايا والفتن، وحقيقة الإيمان ومراتبه، وبعض ما يرتبط بحياة الأنبياء (عليهم السلام) وما أوحاه الله لآدم وناجى به موسى، وبعض الحِكَم لسليمان (عليه السلام) وعلّة تسمية نوح بالعبد الشكور، وكيفيّة دعائه على قومه، وما جرى بينه وبين إبليس، وأنّ إسماعيل أوّل من تكلّم بالعربيّة، والتقاء يعقوب بيوسف، وتعريفه الناس ببعض الحوادث المرتبطة بسيرة النبيّ وأمير المؤمنين (عليهما وآلهما الصلاة والسلام)، وتفاصيل عن الحروب الثلاث للإمام، وبعض حوادث الطفّ الأليمة، ومخالفات الصحابة كمسير خالد بن الوليد لبني جذيمة وقتله لهم ودفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ديّتهم وبراءته من صنعه خالد. وللوقوف على تفاصيل المسائل المعرفيّة التي تكلّم فيها الإمام (عليه السلام) يراجع كتاب [حياة الإمام الباقر (عليه السلام) للقرشيّ ج1 ص242ـ274].
خامساً: الاهتمام بحفظ التراث الشيعيّ الأصيل:
حيث أسند الإمام (عليه السلام) عملية التدوين والتأليف والتصنيف في مختلف المجالات والعلوم إلى أصحابه وتلامذته المقرّبين؛ سعياً منه (عليه السلام) إلى المحافظة على تراث المذهب واستفادة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) جيلاً بعد جيل وفي مختلف الأمصار والبلدان، وقد نجحت هذه الثلّة المخلصة من أصحابه وتلامذته نجاحاً باهراً في إنجاز المهمّة التي أُنيطت بها؛ حيث أثْرَت الساحة الإسلاميّة بالكثير من تلك المؤلّفات والمصنّفات، فمنهم على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ أبان بن تغلب: له مجموعة كتب، منها تفسير غريب القرآن، وكتاب الفضائل، وكتاب صفين، وغيرها.
2ـ أبو بصير الأسديّ: له كتاب مناسك الحجّ، وكتاب اليوم والليلة في أعمال الأيام.
3ـ أبو حمزة الثماليّ: له كتاب في التفسير، وكتاب النوادر، فضلاً عن نقله رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين (عليه السلام).
4ـ زرارة بن أعين: له كتاب في الاستطاعة والجَبر.
5ـ جابر الجعفي: له كتاب النوادر، كتاب الفضائل، كتاب الجَمل، كتاب صفين، كتاب النهروان، كتاب مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكتاب مقتل الإمام الحسين (عليه السلام).
وهكذا غير هؤلاء الصفوة فإنّ القائمة تطول، ومن أحبّ الاستزادة فليرجع إلى فهرست ابن النديم، وفهرست النجاشي، وفهرست الطوسي، وكتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة، وكتاب الشيعة وفنون الإسلام، وكتاب فهرست التراث، وغيرها فقد ذكروا هناك الكثير من آثارهم ومؤلّفاتهم.
ختاماً هذا ما وفّقنا الله له من إيجازٍ لما قام به الإمام الباقر (عليه السلام) من التأصيل لمذهب التشيّع، نسأله تعالى أنْ يرزقنا وإياكم زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق