الموضوعات بين الشيعة والمخالفين

يعترف بعض المؤلِّفين الشيعة بوعي أهل السنَّة وإدراكهم للأحاديث الموضوعة، بخلاف الشيعة، فما هو الرد؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

يُشير الأخ السائل إلى ما جاء في كتاب (الموضوعات) ونصُّه: (والذي لا يجوز التنكُّر له أنَّ محدِّثي السنَّة من أواسط القرن الخامس كانوا أكثر وعياً وإدراكاً للأخطار التي أحاطت بالحديث الشريف من محدِّثي الشيعة، فألَّفوا ـ بالإضافة إلى كتب الرواية وأحوال الرجال ـ عشرات الكتب خلال قرنين من الزمن حول الموضوعات، وبعضها يحمل هذا الاسم بالذات، ومن بين هؤلاء: عبد الرحمن بن الجوزيّ العالم الشهير الذي ألَّف كتابه الموضوعات في ثلاثة أجزاء خلال القرن السادس الهجري، وتوالت بعده المؤلَّفات في هذا الموضوع، فألَّف السيوطيُّ، والفتنيُّ، وغيرهما بالتخطيط والأسوب نفسيهما، واصبحت كتبهم من أجلِّ المصادر وأكثرها فائدةً لمن يريد أنْ يكتب في هذه المواضيع .

أمَّا الشيعة، فقد تجاهلوا هذا الموضوع وكأنَّه لا يعنيهم من أمره شيء، في حين أنَّ الموضوعات بين مروياتهم لا تقلُّ في عددها وأخطارها عن الموضوعات السنيَّة) [الموضوعات في الآثار والأخبار ص88].

والملاحَظ: أنَّ هذا الكلام المذكور ـ آنفاً ـ يشتمل على عدَّة دعاوى، وما يهمُّنا منها هو ثلاث دعاوى:

الأولى: أنَّ محدَّثي أهل العامَّة ـ من أواسط القرن الخامس ـ كانوا أكثر وعياً للأخطار التي أحاطت بالحديث من محدِّثي الشيعة.

والثانية: أنَّ شيعة أهل البيت قد تجاهلوا الأحاديث الموضوعة تماماً، وكأنه لا يعنيهم من أمرها شيء.

والثالثة: أنَّ عدد الأحاديث الموضوعة في كتب الشيعة وخطرها لا يقلُّ عمَّا ورد في كتب العامَّة.

ولا يُمكن الموافقة على هذه الدعاوى جملةً وتفصيلاً، فإنَّ المعطيات العلميَّة، والمؤشِّرات النقدية تخالفها تماماً، ولبيان ذلك نبيّن أموراً:

1ـ موقف المعصومين (ع) من الموضوعات:

كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أوَّل مَن نبَّه على وجود الأحاديث المكذوبة عليه، وذلك لـمَّا كثر الكذب عليه قام خطيباً فقال: «قد كثرت عليَّ الكذابة، فمَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار» [الكافي ج1 ص٦٢]. ومن بعده تصدَّى أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قسَّم الحديث إلى أربعة أقسام أحدها (الموضوع) منبِّهاً على خطورة الوضع والدسّ في الروايات [يُنظر: الكافي ج1 ص62]. ومن بعدهما تصدَّى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) إلى ذلك بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ، فبيّنوا وجود الكذّابين عليهم ولزوم الحذر منهم ومن مرويّاتهم.

وقد نصّ المعصومون (عليهم السلام) على كذب جملةٍ كبيرةٍ من الأحاديث المنتشرة بين الناس، منها: حديث الضحضاح الذي حكم بكذبه أمير المؤمنين والباقر والصادق والرضا والهادي (عليهم السلام) [يُنظر: الحجة على الذاهب ص85، كنز الفوائد ص80]، ومنها: حديث الحيض الذي حكم بكذبه الإمام الصادق (عليه السلام) [يُنظر: رجال الكشي ج2 ص494]، ومنها: حديث الرخصة في الغناء الذي حكم بكذبه الإمام الرضا (عليه السلام) [يُنظر: الكافي ج6 ص435]، وغيرها الكثير، كما لا يخفى على المطالِع.

وقد كان أصحاب الأئمّة يعرضون الكتب الحديثيّة على الأئمّة (عليهم السلام)، لنقد أحاديثها وتمييز صحيحها من سقيمها، والشواهد على ذلك كثيرة، منها: ما عرضه الثقة يونس بن عبد الرحمن من كتب أصحاب الصادِقَين (عليهما السلام) على الإمام الرضا (عليه السلام)، وقام بتمحيصها وبيان الصحيح منها من المكذوب [يُنظر: رجال الكشيّ ج2 ص489]، ومنها: كتاب (يوم وليلة) الذي عُرض على الإمام الهادي (عليه السلام) (فنظر فيه، وتصفَّحه كلَّه ثمَّ قال: هذا ديني ودين آبائي، وهو الحقُّ كله) [رجال الكشيّ ج2 ص780]، ومنها: كتاب (الديات) الذي عرض على الإمام الرضا (عليه السلام) [يُنظر: الكافي ج7 ص311]، ومنها: كتاب ابن خانبة الذي عرض على الإمام الهادي (عليه السلام) [يُنظر: فلاح السائل ص١٨٣]، ومنها: كتاب سُليم بن قيس الذي عرض على عدَّةٍ من الأئمَّة (عليهم السلام) وغيرها الكثير.

ثمّ إنّ المعصومين (عليهم السلام) علّموا أصحابهم جملةً من المعايير لتمييز الموضوعات، منها: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «خطب النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيّها الناس، ما جاء كم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلتُه، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله» [الكافي ج1 ص69].

ومنها: ما ورد عن الصادق (عليه السلام): «كلّ شيءٍ مردودٌ إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» [الكافي ج1 ص69]، وغيرها.

2ـ موقف الأصحاب من الموضوعات:

كان لعددٍ من أصحاب الأئمَّة دورٌ بارزٌ في محاربة الموضوعات والمكذوبات؛ وذلك من خلال سؤالهم (عليهم السلام) عنها وعرض الكتب عليهم - كما تقدّم -، وممارسة النقد الحديثيّ وتمييز المكذوبات بأنفسهم وفق المعايير العلميّة التي تعلّموها من الأئمّة (عليهم السلام)، من أمثال: هشام بن الحكم، ويونس بن عبد الرحمن، وأحمد بن محمّد بن عيسى، والفضل بن شاذان، وغيرهم، ومن جملة الشواهد: ما نقله محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن: « إنّ بعض أصحابنا سأله - وأنا حاضر - فقال له: يا أبا محمّد، ما أشدّك في الحديث، وأكثر إنكارك لِمَا يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال: حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة» [رجال الكشيّ ج2 ص489].

3ـ موقف العلماء من الموضوعات:

فقد كان لعلماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) – بعد أصحاب الأئمّة - دورٌ بارزٌ أيضاً في هذا المجال، يتمثَّل بشدَّة احتياطهم وتحرّزهم في التعامل من الرواة والروايات والكتب، فنجدهم حكموا على بعض الرواةٍ بالكذب، وعلى بعض الروايات بالوضع، وعلى بعض الكتب بالجعل، ولعلَّ أبرز من مارس النقد الحديثيَّ من علماء الطائفة المتقدِّمين هم محمَّد بن الحسن ابن الوليد، وتلميذه الشيخ الصدوق، ومن بعده تلميذه الشيخ محمَّد بن النعمان المفيد، ومن بعده ابن الغضائريّ، وغيرهم الكثير. ومن الشواهد على ذلك: أنّهم كانوا يروون الكتب الحديثيّة ويجيزونها ويستثنون منها الأحاديث الموضوعة، فلا يروونها ولا يجيزونها – لعدم جواز روايتها إلّا لبيان كونها مكذوبةً -، وقد استثنوا الموضوعات من كتاب أحمد بن محمد بن سيّار [ينظر رجال النجاشيّ ص80]، وكتب محمّد بن أورمة [ينظر: الفهرست ص220]، ونوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى الأشعريّ [ينظر: الفهرست ص221]، وكتب أبي سمينة محمّد بن علي الصيرفيّ [ينظر: الفهرست ص223]، وكتب محمّد بن الحسن بن جمهور العميّ [ينظر: الفهرست ص223]، وغيرها كثير.

وبعد هذه الجهود الحثيثة لنقد الرواة والروايات وتمييز الموضوعات وعدم روايتها ونقلها، دوَّنَ أكابر أصحابنا النقّاد الجوامع الحديثيّة – ولاسيّما الكتب الأربعة المداريّة؛ الكافي والفقيه والتهذيبين –، فجاءت صافيةً من كدورة الموضوعات، نقيّةً من شوائب المكذوبات.

قال المحقق النائينيُّ (طاب ثراه): (لا إشكال في صدور كثيرٍ من الأخبار الموجودة في المجاميع المعتبرة، والقرائن على ذلك الناشئة من شدَّة اهتمام العلماء (رضوان الله تعالى عليهم) وتهذيب الأخبار عن الأخبار المدسوسة كثيرة، قد تعرَّض لها العلَّامة الأنصاريُّ (قدِّس سرُّه) تفصيلاً) [أجود التقريرات ج2 ص ١١٦].

وقال السيِّد السبزواريُّ (طاب ثراه): (إنَّ مقتضى العادة أنَّ لكلِّ مذهبٍ وملَّة أقواماً مخصوصين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ يهتمُّون بحفظ ما يتعلَّق بذلك المذهب، ويدافعون عمَّن يُريد الدسَّ والافتراء فيه، وهذه العادة جاريةٌ في مذهب الإماميَّة، بل على نحوٍ أشدَّ وأمتن، فإنَّهم المعروفون بالثقة والصلاح، ولا يدخل فيهم من كان خارجاً عنهم إلَّا ويظهر حاله في مدَّةٍ قليلةٍ كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة) [تهذيب الأصول ج2 ص120].

وزبدة القول: أنَّ الأحاديث الموضوعة كانت ظاهرةً موجودةً في التراث الإسلاميّ والتراث الشيعيّ في زمن الأئمَّة، لكنَّهم نبَّهوا أصحابهم وحذَّروهم منها، فعملوا على تهذيب التراث الشيعيِّ منها بعرض الكتب عليهم وفحصها وتدقيقها، ثمَّ مرَّت الكتب الحديثيَّة بمراحل من التصفية والغربلة، فجاءت المجاميع الحديثيّة خاليةً من الموضوعات، ولا سيّما الكتب الأربعة؛ إذ إنّها كُتبت للعمل، ولا معنى لذكر الأحاديث الموضوعة إلَّا بإشارةٍ نقديّةٍ، ولأنَّ أكثر الموضوعات قد مُيِّزت ومُـحِّصت، فجاءت عيوناً صافية.

نعم، لا نقول إنَّ التراث الشيعيَّ خالٍ تماماً من الموضوعات، إذْ ربَّما تسرَّب نزرٌ يسيرٌ منها خطأً أو غفلةً من المحدِّثين، ولكنّها لا تشكِّل ظاهرةً كما يُدَّعى، وهذا بخلاف تراث العامَّة الذي لا يخلو كتابٌ حديثيٌّ منه ـ الوضع ـ بدءاً بالصحيحين والسنن الأربعة والمسانيد والمصنَّفات والتواريخ وغيرها.

ومما تقدَّم يتَّضح ـ جلياً ـ حال الدعاوى الثلاثة المتقدِّمة:

أمَّا الدعوى الأولى: وهي أنَّ محدِّثي العامَّة كانوا أكثر وعياً بالأخطار التي أحاطت بالحديث من محدِّثي الشيعة، فهي اشتباه محض؛ وذلك لأنَّ الشيعة كانوا أكثر وعياً بأخطار الموضوعات، لذلك عملوا على فرزها وتمييزها في أزمنةٍ مبكرةٍ جدّاً، ففي حين كان محدِّثو العامَّة مشغولين بطلب الحديث كان محدّثو الشيعة يمارسون النقد الحديثيّ ويميّزون الموضوعات أيضاً.

وأمَّا الدعوى الثانية: وهي أنَّ الشيعة تجاهلوا الأحاديث الموضوعة وكأنه لا يعنيهم من أمره بشيء، فهي غلط ٌواضحٌ؛ وذلك لأنَّ الشيعة لم يتجاهلوا الموضوعات، بل أولوها اهتماماً بالغاً، غاية الأمر أنَّهم لم يصنِّفوا فيها مثل العامَّة، وذلك لعدم وجود قيمةٍ علميةٍ ومعرفيةٍ لها سوى التنبيه على كونها موضوعة، وبما أنَّ التراث الشيعيَّ تمّت تصفيته من كدورة الموضوعات فلا معنى للتنبيه على وجودها بعد أن عُدِمَت من التراث الشيعيّ.

وأمَّا الدعوى الثالثة: وهي أنَّ عدد الأحاديث الموضوعة في كتب الشيعة وخطرها لا يقلُّ عمَّا ورد في كتب العامَّة، فقد تبيَّن ما فيها، إذْ الموضوعات في تراث العامَّة تُشكِّل ظاهرةً، وليست كذلك في التراث الشيعيّ؛ وذلك لشدَّة تمحيص الأئمَّة والأصحاب والنقَّاد لها على مدى أجيالٍ متعددةٍ وبأساليب ومعايير عديدةٍ كما عرفت.

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ ما ذكر في السؤال المتقدِّم لا يُمكن القبول به بوجهٍ من الوجوه، لما ذكرناه آنفاً.. والحمد لله ربِّ العالمين.